فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{فَلَمَّا سَمِعَتۡ بِمَكۡرِهِنَّ أَرۡسَلَتۡ إِلَيۡهِنَّ وَأَعۡتَدَتۡ لَهُنَّ مُتَّكَـٔٗا وَءَاتَتۡ كُلَّ وَٰحِدَةٖ مِّنۡهُنَّ سِكِّينٗا وَقَالَتِ ٱخۡرُجۡ عَلَيۡهِنَّۖ فَلَمَّا رَأَيۡنَهُۥٓ أَكۡبَرۡنَهُۥ وَقَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّ وَقُلۡنَ حَٰشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا مَلَكٞ كَرِيمٞ} (31)

{ فَلَمَّا سَمِعَتْ } امرأة العزيز { بِمَكْرِهِنَّ } أي : بغيبهنّ إياها ، سميت الغيبة مكراً لاشتراكهما في الإخفاء ؛ وقيل : أردن أن يتوسلن بذلك إلى رؤية يوسف ، فلهذا سمي قولهنّ مكراً ؛ وقيل : إنها أسرّت عليهنّ فأفشين سرّها فسمي ذلك مكراً ، { أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ } أي : تدعوهنّ إليها لينظرن إلى يوسف حتى يقعن فيما وقعت فيه { وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ متكأ } أي : هيأت لهن مجالس يتكئن عليها ، وأعتدت من الاعتداد ، وهو كل ما جعلته عدّة لشيء . وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير { متكأ } مخففاً غير مهموز ، والمتك : هو الأترج بلغة القبط ، ومنه قول الشاعر :

نشرب الإثم بالصواع جهاراً *** وترى المتك بيننا مستعارا

وقيل : إن ذلك هو لغة أزد شنوءة .

وقيل : حكي ذلك عن الأخفش . وقال الفراء : إنه ماء الورد . وقرأ الجمهور { متكأ } بالهمز والتشديد ، وأصح ما قيل فيه إنه المجلس ، وقيل : هو الطعام ، وقيل : المتكأ : كل ما اتكىء عليه عند طعام أو شراب أو حديث . وحكى القتيبي أنه يقال : اتكأنا عند فلان ، أي : أكلنا ، ومنه قول الشاعر :

فظللنا بنعمةٍ واتكأنا *** وشربنا الحلال من قلله

ويؤيد هذا قوله : { وآتت كل واحدة منهن سكيناً } فإن ذلك إنما يكون لشيء يأكلنه بعد أن يقطعنه ، والسكين تذكر وتؤنث ، قاله الكسائي والفراء . قال الجوهري : والغالب عليه التذكير ، والمراد من إعطائها لكل واحدة سكيناً : أن يقطعن ما يحتاج إلى التقطيع من الأطعمة ، ويمكن أنها أرادت بذلك ما سيقع منهنّ من تقطيع أيديهنّ { وقالت } ليوسف { اخرج عَلَيْهِنَّ } أي : في تلك الحالة التي هنّ عليها من الاتكاء والأكل وتقطيع ما يحتاج إلى التقطيع من الطعام . قوله : { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } أي : عظمنه ، وقيل : أمذين ، ومنه قول الشاعر :

إذا ما رأين الفحل من فوق قلة *** صهلن وأكبرن المنيّ المقطرا

وقيل : حضن . قال الأزهري : ( أكبرن ) بمعنى حضن ، والهاء للسكت ؛ يقال : أكبرت المرأة أي : دخلت في الكبر بالحيض ، وقع منهنّ ذلك دهشاً وفزعاً لما شاهدنه من جماله الفائق ، وحسنه الرائق ، ومن ذلك قول الشاعر :

نأتي النساء على أطهارهنّ ولا *** نأتي النساء إذا أكبرن إكبارا

وأنكر ذلك أبو عبيدة وغيره ، وقالوا : ليس ذلك في كلام العرب . قال الزجاج : يقال : أكبرنه ولا يقال : حضنه ، فليس الإكبار بمعنى الحيض . وأجاب الأزهري فقال : يجوز أن تكون هاء الوقف لا هاء الكناية . وقد زيف هذا بأن هاء الوقف تسقط في الوصل . وقال ابن الأنباري : إن الهاء كناية عن مصدر الفعل أي : أكبرن إكباراً بمعنى حضن حيضاً { وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } أي : جرحنها ، وليس المراد به القطع الذي تبين منه اليد ، بل المراد به : الخدش والحزّ ، وذلك معروف في اللغة كما قال النحاس ؛ يقال : قطع يد صاحبه : إذا خدشها ، وقيل : المراد بأيديهنّ هنا : أناملهنّ ، وقيل : أكمامهنّ . والمعنى : أنه لما خرج يوسف عليهنّ أعظمنه ودهشن ، وراعهنّ حسنه حتى اضطربت أيديهنّ فوقع القطع عليها ، وهنّ في شغل عن ذلك ، بما دهمهنّ ، مما تطيش عنده الأحلام ، وتضطرب له الأبدان ، وتزول به العقول ( وقلن حاشا لله ) كذا قرأ أبو عمرو بن العلاء بإثبات الألف في حاشا . وقرأ الباقون بحذفها . وقرأ الحسن ( حاش لله ) بإسكان الشين . وروي عنه أنه قرأ ( حاش الإله ) . وقرأ ابن مسعود وأبي ( حاشا الله ) . قال الزجاج : وأصل الكلمة من الحاشية بمعنى الناحية ، تقول كنت في حاشية فلان : أي في ناحيته ، فقولك حاشا لزيد من هذا أي : تباعد منه . وقال أبو عليّ : هو من المحاشاة : وقيل : إن حاش حرف . وحاشا فعل ، وكلام أهل النحو في هذه الكلمة معروف ، ومعناها هنا التنزيه ، كما تقول : أسى القوم حاشا زيداً ، فمعنى { حاشا لله } : براءة لله وتنزيه له . قوله : { مَا هذا بَشَرًا } إعمال ( ما ) عمل ليس هي لغة أهل الحجاز ، وبها نزل القرآن كهذه الآية ، وكقوله سبحانه : { مَّا هُنَّ أمهاتهم } ، [ المجادلة : 2 ] . وأما بنو تميم فلا يعملونها عمل ليس . وقال الكوفيون : أصله ما هذا ببشر ، فلما حذفت الباء انتصب . قال أحمد بن يحيى ثعلب : إذا قلت ما زيد بمنطلق ، فموضع الباء موضع نصب ، وهكذا سائر حروف الخفض . وأما الخليل ، وسيبويه ، وجمهور النحويين فقد أعملوها عمل ليس ، وبه قال البصريون والبحث مقرّر في كتب النحو بشواهده وحججه ، وإنما نفين عنه البشرية لأنه قد برز في صورة قد لبست من الجمال البديع ما لم يعهد على أحد من البشر ، ولا أبصر المبصرون ما يقاربه في جميع الصور البشرية ؛ ثم لما نفين عنه البشرية لهذه العلة أثبتن له الملكية وإن كن لا يعرفن الملائكة لكنه قد تقرّر في الطباع أنهم على شكل فوق شكل البشر في الذات والصفات ، وأنهم فائقون في كل شيء ، كما تقرّر أن الشياطين على العكس من ذلك ، ومن هذا قول الشاعر :

فلست لإنسيٍّ ولكن لملاكٍ *** تنزل من جوّ السماء يُصوّت

وقرأ الحسن ( ما هذا بشراء ) ، على أن الباء حرف جرّ ، والشين مكسورة : أي ما هذا بعبد يشترى ، وهذه قراءة ضعيفة لا تناسب ما بعدها من قوله : { إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } . واعلم أنه لا يلزم من قول النسوة هذا أن الملائكة صورهم أحسن من صور بني آدم ، فإنهنّ لم يقلنه لدليل ، بل حكمن على الغيب بمجرد الاعتقاد المرتكز في طباعهن وذلك ممنوع ، فإن الله سبحانه يقول : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [ التين : 4 ] . وظاهر هذا أنه لم يكن شيء مثله من أنواع المخلوقات في حسن تقويمه وكمال صورته . فما قاله صاحب الكشاف في هذا المقام هو من جملة تعصباته لما رسخ في عقله من أقوال المعتزلة ، على أن هذه المسألة أعني : مسألة المفاضلة بين الملائكة والبشر ليست من مسائل الدين في ورد ولا صدر ، فما أغنى عباد الله عنها وأحوجهم إلى غيرها من مسائل التكليف .

/خ34