معاني القرآن للفراء - الفراء  
{فَلَمَّا سَمِعَتۡ بِمَكۡرِهِنَّ أَرۡسَلَتۡ إِلَيۡهِنَّ وَأَعۡتَدَتۡ لَهُنَّ مُتَّكَـٔٗا وَءَاتَتۡ كُلَّ وَٰحِدَةٖ مِّنۡهُنَّ سِكِّينٗا وَقَالَتِ ٱخۡرُجۡ عَلَيۡهِنَّۖ فَلَمَّا رَأَيۡنَهُۥٓ أَكۡبَرۡنَهُۥ وَقَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّ وَقُلۡنَ حَٰشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا مَلَكٞ كَرِيمٞ} (31)

وقوله : { وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً } ، يقال : اتخذت لهنّ مجلساً . ويقال : إنّ مُتْكاً ، غير مهموز ، فسمعت أنه الأُتْرُجُّ . وحدّثني شيخ من ثقات أهل البصرة أنه قال : الزُّماوَرْدُ .

وقوله : { وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } ، يقول : وخَدَشنها ولم يُبِنَّ أيديهن ، مِنْ إعظامه ، وذلك قوله : { حاشَ للَّهِ } ، أَعظمنه أن يكون بشراً ، وقلن : هذا مَلَكٌ . وفي قراءة عبد الله : ( حاشَا لِلّه ) ، بالألف ، وهو في معنى : مَعَاذ الله .

وقوله : { ما هَذَا بَشَراً } ، نصبت ( بَشراً ) ؛ لأن الباء قد استُعملت فيه فلا يكاد أهل الحجاز ينطقون إلا بالباء ، فلما حذفوها أحبّوا أن يكون لها أثر فيما خَرَجت منه ، فنصبوا على ذلك ؛ أَلاَ ترى أن كلّ ما في القرآن أتى بالباء إلاَّ هذا ، وقولَه : { ما هُنَّ أُمّهاتِهِمْ } ، وأما أهل نجد فيتكلّمون بالباء وغير الباء ، فإذا أسقطوها رفعوا . وهو أقوى الوجهين في العربية . أنشدني بعضهم :

لَشتَّان ما أنوِى وينوِى بنو أبى *** جَميعاً فما هذان مستويان

تَمنَّوا ليَ الموتَ الذي يَشْعَب الفتى *** وكلُّ فتىً والموتُ يلتقيانِ

وأنشدوني :

ركابُ حُسَيل أَشهرَ الصيف بُدْن *** وناقةُ عَمْرو ما يُحَلُّ لها رَحلُ

ويزعم حِسْلٌ أَنه فَرْع قومِهِ *** وما أَنت فرع يا حُسيل ولا أصْلُ

وقال الفرزدق :

أَما نحن راءو دارِها بعد هذه *** يدَ الدهر إلا أنَّ يمرّ بها سَفْرُ

وإذا قدّمت الفعل قبل الاسم رفعت الفعل واسمه فقلت : ما سامعٌ هذا وما قائم أخوك . وذلك أن الباء لم تستعمل ها هنا ولم تدخل ؛ أَلا ترى أنه قبيح أن تقول : ما بقائم أخوك ؛ لأنها إنما تقع في المنفي إذا سَبَق الاسم ، فلما لم يمكن في ( ما ) ضمير الاسم قبح دخول الباء . وحسُن ذلك في ( ليس ) : أن تقول : ليس بقائم أخوك ؛ لأنَّ ( ليس ) فعل يقبل المضمر ، كقولك : لست ولسنا ؛ ولم يمكن ذلك في ( ما ) .

فإن قلت : فإني أراه لا يمكن في ( لا ) وقد أَدخلتِ العرب الباء في الفعل التي تليها فقالوا :

لا بالْحَصُور ولا فِيها بسوَّارِ *** . . .

قلت : إن ( لا ) أشبه بليس من ( ما ) ، ألا ترى أنك تقول : عبد الله لا قائم ولا قاعد ، كما تقول : عبد الله ليس قاعداً ولا قائما ، ولا يجوز عبد الله ما قائم ولا قاعد فافترقتا ها هنا .

ولو حملت الباء على ( ما ) إذا وليها الفعل تتوَهّم فيها ما توهّمت في ( لا ) ، لكان وجها ، أنشدتني امرأة من غَنِىّ :

أَما واللهِ أن لو كنتَ حُرّاً *** وما بالْحُرّ أنتَ ولا العَتِيقِ

فأدخلتِ الباء فيما يلي ( ما ) فإن ألقيتَها رفعت ولم يَقْوَ النصب لقلّة هذا . قال : وحدّثنا الفرّاء قال : وحدّثني دِعامة بن رجاء التَّيْمىّ - وكان غرّا - عن أبى الْحُوَيرث الحنفي أنه قال : ( ما هذا بِشِرًى ) ، أي : ما هذا بمشترىً .