معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَنَادَتۡهُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٞ يُصَلِّي فِي ٱلۡمِحۡرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحۡيَىٰ مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّدٗا وَحَصُورٗا وَنَبِيّٗا مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (39)

قوله تعالى : { فنادته الملائكة } . قرأ حمزة والكسائي : " فناداه " بالياء ، والآخرون بالتاء لتأنيث لفظ الملائكة وللجمع ، مع أن الذكور إذا تقدم فعلهم وهم جماعة كان التأنيث فيها أحسن كقوله تعالى : ( قالت الأعراب ) . وعن إبراهيم قال : كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما يذكر الملائكة في القرآن ، قال أبو عبيدة : إنما نرى عبد الله اختار ذلك خلافاً للمشركين في قولهم الملائكة بنات الله تعالى ، وروى الشعبي أن ابن مسعود رضي الله عنه قال : إذا اختلفتم في التاء والياء فاجعلوها ياء وذكروا القرآن ، وأراد بالملائكة ها هنا جبريل عليه السلام وحده كقوله تعالى في سورة النحل ( ينزل الملائكة ) يعني جبريل بالروح والوحي ، ويجوز في العربية أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع كقولهم : سمعت هذا الخبر من الناس ، وإنما سمع من واحد ، نظيره قوله تعالى ( الذين قال لهم الناس ) يعني نعيم بن مسعود ( أن الناس ) يعني أبا سفيان بن حرب . وقال المفضل بن سلمة : إذا كان القاتل رئيساً يجوز الإخبار عنه بالجمع لاجتماع أصحابه معه ، وكان جبريل عليه السلام رئيس الملائكة ، وقلما يبعث إلا ومعه جمع فجرى على ذلك .

قوله تعالى : { وهو قائم يصلي في المحراب } أي في المسجد وذلك أن زكريا كان الحبر الكبير الذي يقرب القربان فيفتح باب المذبح فلا يدخلون حتى يأذن لهم في الدخول ، فبينما هو قائم يصلي في المحراب ، يعني في المسجد عند المذبح يصلي والناس ينتظرون أن يأذن لهم في الدخول فإذا هو برجل شاب عليه ثياب بيض تلمع ففزع منه فناداه وهو جبريل عليه السلام ، يا زكريا :

قوله تعالى : { إن الله يبشرك } . قرأ ابن عامر وحمزة " إن الله " بكسر الألف على إضمار القول تقديره : فنادته الملائكة فقالت إن الله ، وقرأ الآخرون بالفتح بإيقاع النداء عليه ، كأنه قال : فنادته الملائكة بأن الله يبشرك : قرأ حمزة : يبشرك ، وبابه بالتخفيف كل القرآن إلا قوله ( فبم تبشرون ) فإنهم اتفقوا على تشديدها ووافقه الكسائي هاهنا في الموضعين وفي سبحان ، والكهف ، وحم عسق ، ووافق ابن كثير وأبو عمرو في " حم عسق " والباقون بالتشديد ، فمن قرأ بالتشديد فهو من بشر يبشر تبشيراً وهو أعرب اللغات وأفصحها : دليل التشديد قوله تعالى ( فبشر عبادي ) ( وبشرناه بإسحاق ) ( قالوا بشرناك بالحق ) وغيرها من الآيات ، ومن خفف فهو من بشر يبشر وهي لغة تهامة ، وقراءة ابن مسعود رضي الله عنه .

قوله تعالى : { بيحيى } هو الاسم لا يجر لمعرفته وللزائد في أوله ومثل يزيد ويعمر ، وجمعه يحيون مثل موسون ، وعيسون ، واختلفوا في أنه لم سمي يحيى ؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما : لأن الله أحيا به عقر أمه .

قال قتادة :لأن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان ، وقيل : سمي يحيى لأنه استشهد والشهداء أحياء ، وقيل :معناه يموت ، وقيل : لأن الله تعالى أحياه بالطاعة حتى لم يعص ولم يهم بمعصية .

قوله تعالى : { مصدقاً } نصب على الحال .

قوله تعالى : { بكلمة من الله } يعني عيسى عليه السلام ، سمي عيسى كلمة الله لأن الله تعالى قال له : كن من غير أب فكان ، فوقع عليه اسم الكلمة . وقيل سمي كلمة لأنه يهتدي به بكلام الله تعالى ، وقيل : هي بشارة الله تعالى لمريم بعيسى عليه السلام بكلامه على لسان جبريل عليه السلام ، وقيل : لأن الله تعالى أخبر الأنبياء بكلامه في كتبه أنه يخلق نبياً بلا أب فمساه كلمة لحصوله بذلك الوعد ، وكان يحيى عليه السلام أول من آمن بعيسى عليه السلام وصدقه ، وكان يحيى عليه السلام اكبر من عيسى بستة أشهر ، وكانا ابني خالة ، ثم قتل يحيى قبل أن يرفع عيسى عليه السلام ، وقال أبو عبيدة : ( بكلمة من الله ) أي بكتاب من الله وآياته ، تقول العرب : أنشدني كلمة فلان أي قصيدته .

قوله تعالى : { وسيداً } هو فعيل ، من ساد يسود وهو الرئيس الذي يتبع وينتهي إلى قوله .

قال المفضل : أراد سيداً في الدين ، قال الضحاك : السيد الحسن الخلق ، قال سعيد بن جبير : السيد الذي يطيع ربه عز وجل ، وقال سعيد بن المسيب : السيد الفقية العالم .

وقال قتادة : سيد في العلم والعبادة والورع ، وقيل : الحليم الذي لا يغضبه شيء ، قال مجاهد : الكريم على الله تعالى ، وقيل : السيد التقي ، قاله الضحاك : قال سفيان الثوري : الذي لا يحسد . وقيل : الذي يفوق قومه في جميع خصال الخير . وقيل : هو القانع بما قسم الله له . وقيل : هو السخي . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سيدكم يا بني سلمة ؟ قالوا : جد بن قيس على أنا نبخله قال : وأي داء أدوأ من البخل ؟ لكن سيدكم عمرو بن الجموح " .

قوله تعالى : { وحصوراً ونبياً من الصالحين } . والحصور أصله من الحصر وهو الحبس ، والحصور في قول ابن مسعود رضي الله عنه وابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة رضي الله عنهم وعطاء والحسن : الذي لا يأتي النساء ، ولا يقربهن ، وهو على هذا القول فعول بمعنى فاعل ؛ يعني انه يحصر نفسه عن الشهوات ، وقال سعيد بن المسيب : هو العنين الذي لاماء له ، فيكون الحصور بمعنى المحصور يعني الممنوع من النساء . قال سعيد بن المسيب : كان له مثل هدبة الثوب ، وقد تزوج مع ذلك ليكون أغض لبصره وفيه قول آخر ، إن الحصور هو الممتنع من الوطء مع القدرة عليه ، واختار قوم هذا القول لوجهين :أحدهما ، لأن الكلام خرج مخرج الثناء وهذا أقرب إلى استحقاق الثناء . والثاني :أنه أبعد من إلحاق الآفة بالأنبياء .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَنَادَتۡهُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٞ يُصَلِّي فِي ٱلۡمِحۡرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحۡيَىٰ مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّدٗا وَحَصُورٗا وَنَبِيّٗا مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (39)

ثم قال تعالى : { فنادته الملائكة } وترك محذوف كثير دل ما ذكر عليه ، تقديره فقبل الله دعاءه ووهبه يحيى وبعث الملك أو الملائكة بذلك إليه فنادته ، وذكر أنه كان بين دعائه والاستجابة له بالبشارة أربعون سنة ، وذكر جمهور المفسرين : أن المنادي المخبر إنما كان جبريل وحده وهذا هو العرف في الوحي إلى الأنبياء ، وقال قوم : بل نادت ملائكة كثيرة حسبما تقتضيه ألفاظ الآية ، وقد وجدنا الله تعالى بعث ملائكة إلى لوط وإلى إبراهيم عليه السلام وفي غير ما قصة ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود وقراءته «فناداه جبريل وهو قائم يصلي » ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وأبو عمرو : «فنادته » بالتاء «الملائكة » ، وقرأ حمزة والكسائي «فناداه الملائكة » بالألف وإمالة الدال ، قال أبو علي : من قرأ بالتاء فلموضع الجماعة والجماعة ممن يعقل في جمع التكسير تجري مجرى ما لا يعقل ، ألا ترى أنك تقول : هي الرجال كما تقول : هي الجذوع وهي الجمال ، ومثله : { قالت الأعراب }{[3130]} .

قال الفقيه الإمام : ففسر أبو علي على أن المنادي ملائكة كثيرة ، والقراءة بالتاء على قول من يقول : المنادي جبريل وحده متجهة على مراعاة لفظ الملائكة ، وعبر عن جبريل بالملائكة إذ هو منهم ، فذكر اسم الجنس كما قال تعالى :

{ الذين قال لهم الناس }{[3131]} قال أبو علي : ومن قرأ «فناداه الملائكة » ، فهو كقوله تعالى : { وقال نسوة في المدينة }{[3132]} .

قال القاضي : وهذا على أن المنادي كثير ، ومن قال إنه جبريل وحده كالسدي وغيره فأفرد الفعل مراعاة للمعنى ، وعبر عن جبريل عليه السلام بالملائكة إذ هو اسم جنسه ، وقوله تعالى : { فنادته } عبارة تستعمل في التبشير وفيما ينبغي أن يسرع به وينهى إلى نفس السامع ليسر به فلم يكن هذا من الملائكة إخباراً على عرف الوحي بل نداء كما نادى الرجل الأنصاري كعب بن مالك من أعلى الجبل{[3133]} ، وقوله تعالى : { وهو قائم } جملة في موضع الحال ، و { يصلي } صفة لقائم ، و { المحراب } في هذا الموضع موقف الإمام من المسجد ، وقرأ ابن عامر وحمزة : «إن الله » بكسر الألف ، قال أبو علي : وهذا على إضمار القول ، كأنه قال { فنادته الملائكة } فقالت وهذا كقوله تعالى : { فدعا ربه أني مغلوب }{[3134]} على قراءة من كسر الألف ، وقال بعض النحاة : كسرت بعد النداء والدعاء لأن النداء والدعاء أقوال ، وقرأ الباقون بفتح الألف من قوله : { أن الله يبشرك } قال أبو علي : المعنى فنادته بأن الله فلما حذف الجار منها وصل الفعل إليها فنصبها ، ف «إن » في موضع نصب ، وعلى قياس قول الخليل في موضع جر ، وفي قراءة عبد الله «في المحراب ، يا زكرياء إن الله » ، قال أبو علي : فقوله «يا زكرياء » في موضع نصب بوقوع النداء عليه ، ولا يجوز فتح الألف في «إن » على هذه القراءة لأن نادته قد استوفت مفعوليها أحدهما الضمير ، والآخر المنادى ، فإن فتحت «إن » لم يبق لها شيء متعلق به ، قال أبو علي : وكلهم قرأ { في المحراب } بفتح الراء إلا ابن عامر فإنه أمالها ، وأطلق ابن مجاهد القول في إمالة ابن عامر الألف من محراب ولم يخص به الجر من غيره ، وقال غير ابن مجاهد : إنما نميله في الجر فقط .

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : «يبشرك » ، بضم الياء وفتح الباء والتشديد في كل القرآن إلا في «عسق » فإنهما قرآ { ذلك الذي يبشر الله عباده }{[3135]} بفتح الياء ، وسكون الباء ، وضم الشين ، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر ، «يبشِّرك بشد الشين المكسورة في كل القرآن ، وقرأ حمزة «يبشُر » خفيفاً بضم الشين مما لم يقع{[3136]} في كل القرآن إلا قوله تعالى ، { فبم تبشرون }{[3137]} وقرأ الكسائي «يبشر »

مخففة في خمسة مواضع في آل عمران في قصة زكرياء وقصة مريم وفي سورة بني إسرائيل والكهف ، ويبشر المؤمنين ، وفي «عسق »{ يبشر الله عباده } ، قال غير واحد من اللغويين : في هذه اللفظة ثلاث لغات ، بشّر بشد الشين ، وبشر بتخفيفها{[3138]} ، وأبشر يبشر إبشاراً ، وهذه القراءات كلها متجهة فصيحة مروية ، وفي قراءة عبد الله بن مسعود «يُبشِرك » بضم الياء وتخفيف الشين المكسورة من - أبشر- وهكذا قرأ في كل القرآن .

و { يحيى } اسم سماه الله به قبل أن يولد ، قال أبو علي : هو اسم بالعبرانية صادف هذا البناء ، والمعنى من العربية ، قال الزجاج : لا ينصرف لأنه إن كان أعجمياً ففيه التعريف والعجمة ، وإن كان عربياً فالتعريف ووزن الفعل ، وقال قتادة : سماه الله يحيى لأنه أحياه بالإيمان { مصدقاً } نصب على الحال وهي مؤكدة بحسب حال هؤلاء الأنبياء عليهم السلام ، وقوله تعالى : { بكلمة من الله } ، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن والسدي وغيرهم ، «الكلمة » هنا يراد بها عيسى ابن مريم .

قال الفقيه الإمام أبو محمد : وسمى الله تعالى عيسى كلمة إذ صدر عن كلمة منه تعالى لا بسبب إنسان آخر كعرف البشر ، وروى ابن عباس : أن امرأة زكرياء قالت لمريم وهما حاملتان : إني أجد ما في بطني يتحرك لما في بطنك ، وفي بعض الروايات ، يسجد لما في بطنك{[3139]} قال ، فذلك تصديقه .

قال الفقيه أبو محمد : أي أول التصديق ، وقال بعض الناس : { بكلمة من الله } ، معناه بكتاب من الله الإنجيل وغيره من كتب الله فأوقع المفرد موقع الجمع ، فكلمة اسم جنس ، وعلى هذا النظر سمت العرب القصيدة الطويلة كلمة{[3140]} ، وقوله تعالى : { وسيداً } قال فيه قتادة : أي والله سيد في الحلم والعبادة والورع ، وقال مرة : معناه في العلم والعبادة ، وقال ابن جبير : { وسيداً } أي حليماً ، وقال مرة : السيد التقي وقال الضحاك : { وسيداً } أي تقياً حليماً ، وقال ابن زيد : السيد الشريف ، وقال ابن المسيب : السيد الفقيه العالم ، وقال ابن عباس : { وسيداً } يقول ، تقياً حليماً ، وقال عكرمة : السيد الذي لا يغلبه الغضب .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه كل من فسر من هؤلاء العلماء المذكورين السؤدد بالحلم فقد أحرز أكثر معنى السؤدد ومن جرد تفسيره بالعلم والتقى ونحوه فلم يفسر بحسب كلام العرب ، وقد تحصل العلم ليحيى عليه السلام بقوله عز وجل { مصدقاً بكلمة من الله } وتحصل التقى بباقي الآية ، وخصه الله بذكر السؤدد الذي هو الاحتمال في رضى الناس على أشرف الوجوه دون أن يوقع في باطل ، هذا لفظ يعم السؤدد ، وتفصيله أن يقال : بذل الندى ، وهذا هو الكرم وكف الأذى ، وهنا هي العفة بالفرج واليد واللسان واحتمال العظائم ، وهنا هو الحلم وغيره من تحمل الغرامات وجبر الكسير والإفضال على المسترفد ، والإنقاذ من الهلكات ، وانظر أن النبي عليه السلام قال : أنا سيد ولد آدم ولا فخر يجمع الله الأولين والآخرين ، وذكر حديث الشفاعة{[3141]} في إطلاق الموقف ، وذلك منه احتمال في رضى ولد آدم فهو سيدهم بذلك ، وقد يوجد من الثقات{[3142]} العلماء من لا يبرز في هذه الخصال ، وقد يوجد من يبرز في هذه فيسمى سيداً وإن قصر في كثير من الواجبات أعني واجبات الندب والمكافحة في الحق وقلة المبالاة باللائمة ، وقد قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه : ما رأيت أحداً أسود من معاوية بن أبي سفيان قيل له ، وأبو بكر وعمر ؟ قال : هما خير من معاوية ومعاوية أسود منهما ، فهذه إشارة إلى أن معاوية برز في هذه الخصال ما لم يواقع محذوراً ، وأن أبا بكر وعمر كانا من الاستضلاع بالواجبات وتتبع ذلك من أنفسهما وإقامة الحقائق على الناس بحيث كانا خيراً من معاوية ومع تتبع الحقائق وحمل الناس على الجادة وقلة المبالاة برضاهم والوزن بقسطاس الشريعة تحريراً ينخرم كثير من هذه الخصال التي هي السؤدد ويشغل الزمن عنها ، والتقى والعلم والأخذ بالأشد أوكد وأعلى من السؤدد ، أما إنه يحسن بالتقي العالم أن يأخذ من السؤدد بكل ما لا يخل بعلمه وتقاه ، وهكذا كان يحيى عليه السلام ، وليس هذا الذي يحسن بواجب ولا بد ، كما ليس التتبع والتحرير في الشدة بواجب ولا بد ، وهما طرفا خير حفتهما الشريعة ، فمن صائر إلى هذا ومن صائر إلى هذا ، ومثال ذلك ، حاكم صليب معبس فظ على من عنده أدنى عوج لا يعتني في حوائج الناس ، وآخر بسط الوجه بسام يعتني فيما يجوز ، ولا يتتبع ما لم يرفع إليه وينفذ الحكم مع رفق بالمحكوم عليه فهما طريقان حسنان .

وقوله تعالى : { وحصوراً } أصل هذه اللفظة الحبس والمنع ، ومنه الحصير لأنه يحصر من جلس عليه ومنه سمي السجن حصيراً وجهنم حصيراً ، ومنه حصر العدو وإحصار المرض والعذر ، ومنه قيل للذي لا ينفق مع ندمائه حصور ، قال الأخطل{[3143]} : [ البسيط ]

وشارِب مرْبح بالْكَأْسِ نَادَمني . . . لا بالحصورِ وَلاَ فِيها بِسَوَّارِ{[3144]}

ويقال للذي يكتم السر حصور وحصر ، قال جرير{[3145]} : [ الكامل ]

وَلَقَدْ تَسَاقَطَني الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا . . . حَصِراً بسرِّكِ يا أميمُ ضَنِينَا{[3146]}

وأجمع من يعتدّ بقوله من المفسرين على أن هذه الصفة ليحيى عليه السلام إنما هي الامتناع من وطء النساء إلا ما حكى مكي من قول من قال : إنه الحصور عن الذنوب أي لا يأتيها ، وروى ابن المسيب عن ابن العاصي { إما عبد الله وإما أبوه } عن النبي عليه السلام ، أنه قال : «كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكرياء » ، قال : ثم دلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى الأرض فأخذ عويداً صغيراً ، ثم قال : «وذلك أنه لم يكن له ما للرجال إلا مثل هذا العود ، ولذلك سماه الله سيداً وحصوراً »{[3147]} ، وقال ابن مسعود «الحصور » العنين ، وقال مجاهد وقتادة : «الحصور » الذي لا يأتي النساء ، وقال ابن عباس والضحاك : الحصور الذي لا ينزل الماء .

قال القاضي : ذهب بعض العلماء إلى أن حصر يحيى عليه السلام كان لأنه لم يكن له إلا مثل الهدبة ، وذهب بعضهم إلى أن حصره كان لأنه كان عنيناً لا يأتي النساء وإن كانت خلقته غير ناقصة ، وذهب بعضهم إلى أن حصره كان بأنه يمسك نفسه تقى وجلداً في طاعة الله وكانت به القدرة على جماع النساء ، قالوا : وهذا أمدح له وليس له في التأويلين الأولين مدح ، إلا بأن الله يسر له شيئاً لا تكسب له فيه ، وباقي الآية بيّن ، وروي من صلاحه عليه السلام أنه كان يعيش من العشب وأنه كان كثير البكاء من خشية الله حتى خدد الدمع في وجهه طرقاً وأخاديد .


[3130]:- من الآية (14) من سورة الحجرات.
[3131]:- من الآية (172) من سورة آل عمران.
[3132]:- من الآية (20) من سورة يوسف.
[3133]:- هو حمزة بن عمرو الأسلمي جاء ينادي من أعلى الجبل لكي يؤدي البشارة إلى كعب بن مالك أحد الثلاثة الذين تخلفوا عن تبوك بأن الله قد عفا عنهم.
[3134]:- من الآية (10) من سورة القمر.
[3135]:- من الآية (23) من سورة الشورى.
[3136]:- هكذا وردت هذه العبارة في جميع النسخ، ولعل صوابها "حيثما وقع".
[3137]:- من الآية (54) من سورة الحجر.
[3138]:- من ذلك قول الشاعر: بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة أتتك من الحجاج يتلى كتابها
[3139]:- روي أنها أحست جنينها يخر برأسه إلى ناحية بطن مريم.
[3140]:- من ذلك ما جاء في الحديث: (أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل) (البحر المحيط: 2/447).
[3141]:- أخرجه الإمام أحمد في مسنده والترمذي وابن ماجة عن أبي سعيد، (الجامع الصغير 1/363) كما أخرجه الإمام أحمد والبزار وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه عن أبي بكر رضي الله عنه، (الترغيب والترهيب 4/437).
[3142]:- في بعض النسخ: من الأتقياء.
[3143]:- ديوان الأخطل: 116.
[3144]:- المربح: الذي يربح صاحب الخمر أو الذي ينحر الربح لضيفانه، والرَبح: الفصلان، والحصور: البخيل الضيق، والسوار: السيئ الخلق الذي يساور عليها ويقاتل؛ ويروى بسآر وهو الذي يترك سؤرا أي بقية في القدح.
[3145]:- ديوان جرير: 387 (تحقيق نعمان أمين طه).
[3146]:- في الديوان: تسقطني؛ والمعنى: طلبوا سقطه وعالجوه كي يبوح بسره، والحصر: الكتوم للسر الحابس له؛ الضنين: البخيل.
[3147]:- أخرجه ابن أبي حاتم وابن المنذر وابن جرير في تفسيرهما، ورواه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة (مجمع الزوائد 8/209)، وانظر أيضا "زاد المسير" 1/383.