الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{فَنَادَتۡهُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٞ يُصَلِّي فِي ٱلۡمِحۡرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحۡيَىٰ مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّدٗا وَحَصُورٗا وَنَبِيّٗا مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (39)

ثم قال تعالى : { فَنَادَتْهُ الملائكة } وتُرِكَ محذوفٌ كثيرٌ دَلَّ علَيْه ما ذُكِرَ ، تقديره : فَقَبِلَ اللَّهُ دُعَاءَهُ ، وبَعَثَ المَلَكَ ، أو الملائكة فنادتْهُ ، وذكر جمهورُ المفسِّرين ، أنَّ المنادِي إِنما هو جبريلُ ، وقال قومٌ : بل نادته ملائكةٌ كثيرةٌ ، حسْبما تقتضيه ألفاظ الآيةِ ، قلت : وهذا هو الظاهرُ ، ولا يعدل عنه إِلا أن يصحَّ في ذلك حديثٌ عنه صلى الله عليه وسلم ، فيتَّبَع .

وقوله تعالى : { فَنَادَتْهُ } عبارةٌ تستعملُ في التبشيرِ ، وفي ما ينبغي أنْ يسرع به ، وينهي إِلى نفس السامعِ ، ليسرَّ به ، فلم يكُنْ من الملائكةِ إِخباراً على عرف الوحْيِ ، بل نداء كما نادَى الرَّجُلُ الأنصاريُّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ مِنْ أعلى الجَبَلِ .

وقوله تعالى : { وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب } . يعني بالمِحْرَابِ ، في هذا الموضعِ : موقفَ الإِمامِ من المسجدِ ، و( يَحْيَى ) : اسم سمَّاه اللَّه به قَبْلَ أنْ يولَدَ ، و{ مُصَدِّقًا } نصْبٌ على الحال ، قال ابنُ عَبَّاس ، وغيره : ( الكلمةُ ) هنا يرادُ بها عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ .

قال ( ع ) : وسَمَّى اللَّه تعالى عيسى كلمةً ، إِذْ صدر عن كَلِمةٍ منه تعالى ، وهي ( كُنْ ) ، لا بسبب إِنسان .

وقوله تعالى : { وَسَيِّداً } قال قتادة : أيْ : واللَّهِ سَيِّدٌ في الحِلْمِ والعبادةِ ، والوَرَعِ .

قال ( ع ) : مَنْ فَسَّر السؤدد بالحِلْمِ ، فقَدْ أحرز أكْثَر معنى السؤددِ ، ومَنْ جَرَّد تفسيره بالعِلْمِ ، والتقى ، ونحوه ، فلم يفسِّره بحَسَب كلامِ العربِ ، وقد تحصَّل العلْم ليحيى عليه السلام بقوله : { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله } ، وتحصَّل التقى بباقِي الآية ، وخصَّه اللَّه بذكْرِ السؤددِ الذي هو الاعتمال في رِضَا النَّاس على أشْرَفِ الوجوهِ ، دون أنْ يوقعِ في باطِل هذا اللفظ يعمُّ السؤددَ ، وتفصيلُهُ أن يقالَ : بذل الندى ، وهذا هو الكَرَمُ ، وكَفُّ الأذى ، وهنا هي العفةُ بالفَرْج ، واليَدِ وَاللِّسان ، واحتمال العظائم ، وهنا هو الحِلْمُ ، وغيرُهُ ، مِنْ تحمُّلِ الغراماتِ والإِنقاذِ من الهَلَكَاتِ ، وجَبْرِ الكَسِيرِ ، والإفضالِ على المُسْتَرْفد ، وانظر قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم : ( أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ ، وَلاَ فَخْرَ ) ، وذكر حديثَ الشفاعةِ في إِطلاق الموقِفِ ، وذلك منه اعتمال في رِضَا ولد آدم .

ثم قال ( ع ) : إما أنه يحسن بالتقيِّ العَالِمِ أنْ يأخُذَ من السؤدد بكلِّ ما لا يخلُّ بعلمه وتقاه ، وهكذا كان يحيى عليه السلام .

وقوله تعالى : { وَحَصُوراً } أصل هذه اللفظة : الحَبْسُ والمَنْعُ ، ومنه : حصر العدو .

قال ( ع ) : وأجمعَ مَنْ يعتدُّ بقوله من المفسِّرين على أنَّ هذه الصفة ليحيى عليه السلام إِنما هي الاِمتناعُ عن وطْءِ النِّسَاءِ ، إِلاَّ ما حكى مكِّيٌّ من قول من قَالَ : إِنه الحُصُور عن الذنوب ، وذهب بَعْضُ العلماءِ إلى أنَّ حَصْرَهُ كان بأنه يُمْسِكُ نفسه ، تُقًى وجَلَداً في طاعة اللَّه سبحانه ، وكانتْ به القُدْرة على جِمَاعِ النساءِ ، قالوا : وهذه أمْدَحُ له ، قال الإِمام الفَخْر : وهذا القولُ هو اختيار المحقِّقين أنه لا يأتِي النِّساء لا للعَجْز ، بل للعِصْمَةِ والزُّهْد .

قلْتُ : قال عِيَاضٌ : اعلم أنَّ ثناء اللَّه تعالى على يحيى عليه السلام ، بأنه حَصُورٌ ، ليس كما قال بعضْهم : أنه كان هَيُوباً أو لا ذَكَرَ لَهُ ، بل قد أنكر هذا حُذَّاق المفسِّرِين ، ونُقَّادُ العلماء ، وقالوا : هذه نقيصةٌ وعَيْب ، ولا تليقُ بالأنبياء عليهم السلام ، وإِنما معناه : معصومٌ من الذُّنُوب ، أي : لا يأتيها ، كأنه حُصِرَ عنها ، وقيل : مانعاً نفسه من الشهوات ، وقيل : ليستْ له شهوةٌ في النساءِ ، كفَايَةً من اللَّه له ، لكونها مَشْغَلَةً في كثير من الأوقات ، حاطَّة إِلى الدنيا ، ثم هي في حَقِّ مَنْ أُقْدِرَ عَلَيْها ، وقام بالواجب فيها ، ولم تَشْغَلْهُ عن ربِّهِ درجةٌ عُلْيَا ، وهي درجةُ نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم ، أيْ : وسائرِ النبيِّين ، اه من «الشِّفَا » وباقي الآية بيِّن .

ورُوِيَ مِنْ صلاحه -عليه السلام- ، أنَّهُ كان يعيشُ من العُشْب ، وأنه كان كثير البُكَاء من خَشْية اللَّه ، حتى اتخذ الدمْعُ في وَجْهه أخدودًا .

( ص ) : { مِّنَ الصالحين } ، أي : من أصلاب الأنبياء ، أو صالحاً من الصَّالحين ، فيكون صفةً لموصوفٍ محذوفٍ ، اه .

قلت : والثاني أحْسَنُ ، والأولُ تحصيلُ الحاصلِ ، فتأمَّله .