ثم قال تعالى : { فَنَادَتْهُ الملائكة } وتُرِكَ محذوفٌ كثيرٌ دَلَّ علَيْه ما ذُكِرَ ، تقديره : فَقَبِلَ اللَّهُ دُعَاءَهُ ، وبَعَثَ المَلَكَ ، أو الملائكة فنادتْهُ ، وذكر جمهورُ المفسِّرين ، أنَّ المنادِي إِنما هو جبريلُ ، وقال قومٌ : بل نادته ملائكةٌ كثيرةٌ ، حسْبما تقتضيه ألفاظ الآيةِ ، قلت : وهذا هو الظاهرُ ، ولا يعدل عنه إِلا أن يصحَّ في ذلك حديثٌ عنه صلى الله عليه وسلم ، فيتَّبَع .
وقوله تعالى : { فَنَادَتْهُ } عبارةٌ تستعملُ في التبشيرِ ، وفي ما ينبغي أنْ يسرع به ، وينهي إِلى نفس السامعِ ، ليسرَّ به ، فلم يكُنْ من الملائكةِ إِخباراً على عرف الوحْيِ ، بل نداء كما نادَى الرَّجُلُ الأنصاريُّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ مِنْ أعلى الجَبَلِ .
وقوله تعالى : { وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب } . يعني بالمِحْرَابِ ، في هذا الموضعِ : موقفَ الإِمامِ من المسجدِ ، و( يَحْيَى ) : اسم سمَّاه اللَّه به قَبْلَ أنْ يولَدَ ، و{ مُصَدِّقًا } نصْبٌ على الحال ، قال ابنُ عَبَّاس ، وغيره : ( الكلمةُ ) هنا يرادُ بها عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ .
قال ( ع ) : وسَمَّى اللَّه تعالى عيسى كلمةً ، إِذْ صدر عن كَلِمةٍ منه تعالى ، وهي ( كُنْ ) ، لا بسبب إِنسان .
وقوله تعالى : { وَسَيِّداً } قال قتادة : أيْ : واللَّهِ سَيِّدٌ في الحِلْمِ والعبادةِ ، والوَرَعِ .
قال ( ع ) : مَنْ فَسَّر السؤدد بالحِلْمِ ، فقَدْ أحرز أكْثَر معنى السؤددِ ، ومَنْ جَرَّد تفسيره بالعِلْمِ ، والتقى ، ونحوه ، فلم يفسِّره بحَسَب كلامِ العربِ ، وقد تحصَّل العلْم ليحيى عليه السلام بقوله : { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله } ، وتحصَّل التقى بباقِي الآية ، وخصَّه اللَّه بذكْرِ السؤددِ الذي هو الاعتمال في رِضَا النَّاس على أشْرَفِ الوجوهِ ، دون أنْ يوقعِ في باطِل هذا اللفظ يعمُّ السؤددَ ، وتفصيلُهُ أن يقالَ : بذل الندى ، وهذا هو الكَرَمُ ، وكَفُّ الأذى ، وهنا هي العفةُ بالفَرْج ، واليَدِ وَاللِّسان ، واحتمال العظائم ، وهنا هو الحِلْمُ ، وغيرُهُ ، مِنْ تحمُّلِ الغراماتِ والإِنقاذِ من الهَلَكَاتِ ، وجَبْرِ الكَسِيرِ ، والإفضالِ على المُسْتَرْفد ، وانظر قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم : ( أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ ، وَلاَ فَخْرَ ) ، وذكر حديثَ الشفاعةِ في إِطلاق الموقِفِ ، وذلك منه اعتمال في رِضَا ولد آدم .
ثم قال ( ع ) : إما أنه يحسن بالتقيِّ العَالِمِ أنْ يأخُذَ من السؤدد بكلِّ ما لا يخلُّ بعلمه وتقاه ، وهكذا كان يحيى عليه السلام .
وقوله تعالى : { وَحَصُوراً } أصل هذه اللفظة : الحَبْسُ والمَنْعُ ، ومنه : حصر العدو .
قال ( ع ) : وأجمعَ مَنْ يعتدُّ بقوله من المفسِّرين على أنَّ هذه الصفة ليحيى عليه السلام إِنما هي الاِمتناعُ عن وطْءِ النِّسَاءِ ، إِلاَّ ما حكى مكِّيٌّ من قول من قَالَ : إِنه الحُصُور عن الذنوب ، وذهب بَعْضُ العلماءِ إلى أنَّ حَصْرَهُ كان بأنه يُمْسِكُ نفسه ، تُقًى وجَلَداً في طاعة اللَّه سبحانه ، وكانتْ به القُدْرة على جِمَاعِ النساءِ ، قالوا : وهذه أمْدَحُ له ، قال الإِمام الفَخْر : وهذا القولُ هو اختيار المحقِّقين أنه لا يأتِي النِّساء لا للعَجْز ، بل للعِصْمَةِ والزُّهْد .
قلْتُ : قال عِيَاضٌ : اعلم أنَّ ثناء اللَّه تعالى على يحيى عليه السلام ، بأنه حَصُورٌ ، ليس كما قال بعضْهم : أنه كان هَيُوباً أو لا ذَكَرَ لَهُ ، بل قد أنكر هذا حُذَّاق المفسِّرِين ، ونُقَّادُ العلماء ، وقالوا : هذه نقيصةٌ وعَيْب ، ولا تليقُ بالأنبياء عليهم السلام ، وإِنما معناه : معصومٌ من الذُّنُوب ، أي : لا يأتيها ، كأنه حُصِرَ عنها ، وقيل : مانعاً نفسه من الشهوات ، وقيل : ليستْ له شهوةٌ في النساءِ ، كفَايَةً من اللَّه له ، لكونها مَشْغَلَةً في كثير من الأوقات ، حاطَّة إِلى الدنيا ، ثم هي في حَقِّ مَنْ أُقْدِرَ عَلَيْها ، وقام بالواجب فيها ، ولم تَشْغَلْهُ عن ربِّهِ درجةٌ عُلْيَا ، وهي درجةُ نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم ، أيْ : وسائرِ النبيِّين ، اه من «الشِّفَا » وباقي الآية بيِّن .
ورُوِيَ مِنْ صلاحه -عليه السلام- ، أنَّهُ كان يعيشُ من العُشْب ، وأنه كان كثير البُكَاء من خَشْية اللَّه ، حتى اتخذ الدمْعُ في وَجْهه أخدودًا .
( ص ) : { مِّنَ الصالحين } ، أي : من أصلاب الأنبياء ، أو صالحاً من الصَّالحين ، فيكون صفةً لموصوفٍ محذوفٍ ، اه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.