غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{فَنَادَتۡهُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٞ يُصَلِّي فِي ٱلۡمِحۡرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحۡيَىٰ مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّدٗا وَحَصُورٗا وَنَبِيّٗا مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (39)

35

{ فنادته الملائكة } ظاهر اللفظ للجمع وهذا في باب التشريف أعظم . ثم ما روي أن المنادي كان جبريل فالوجه فيه أنه كقولهم " فلان يركب الخيل ويأكل الأطعمة النفيسة " أي يركب من هذا الجنس ويأكل منه . أو لأن جبريل كان رئيس الملائكة وقلما يبعث إلا ومعه آخرون .

{ يبشرك بيحيى } يحتمل أن يكون زكريا قد عرف أنه سيكون في الأنبياء رجل اسمه يحيى وله درجة عالية . فإذا قيل له : إن ذلك النبي المسمى بيحيى هو ولدك كان بشارة له ، ويحتمل أن يكون المعنى يبشرك بولد اسمه يحيى كما يجيء في سورة مريم { إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى }[ مريم : 7 ] وإنه اسم أعجمي كموسى وعيسى ، ومن جوز أن يكون عربياً فمنع صرفه للعلمية ووزن الفعل كيعمر . ثم إنه تعالى وصف يحيى بصفات منها : قوله { مصدقاً بكلمة من الله } وهو نصب على الحال لأنه نكرة و " يحيى " معرفة . قال أبو عبيدة : أي مؤمناً بكتاب الله . وسمي الكتاب كلمة كما قيل : " كلمة الحويدرة " لقصيدته . والجمهور على أن المراد بكلمة من الله هو عيسى . قال السدي : لقيت أم يحيى أم عيسى وهما حاملان بهما . فقالت : يا مريم أشعرت أني حبلى ؟ فقالت مريم : وأنا أيضاً حبلى . قالت امرأة زكريا : فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك فذاك قوله : { مصدقاً بكلمة من الله } وقال ابن عباس : إن يحيى أكبر سناً من عيسى بستة أشهر ، وكان يحيى أول من آمن به وصدّق بأنه كلمة الله وروحه ، ثم قتل يحيى قبل رفع عيسى . وسمي عيسى كلمة الله لأنه لم يوجد إلا بكلمة الله وهي " كن " من غير واسطة أب وزرع كما يسمى المخلوق خلقاً والمرجو رجاء ، أو لكونه متكلماً في أوان الطفولية ، أو لأنه منشأ الحقائق والأسرار كالكلمة ، ولهذا سمي روحاً أيضاً لأنه سبب حياة الأرواح . وقد يقال للسلطان العادل ظل الله ونور الله لأنه سبب ظهور ظل العدل ونور الإحسان ، أو لأنه وردت البشارة به في كلمات الأنبياء وكتبهم كما لو أخبرت عن حدوث أمر ، ثم إذا حدث قلت قد جاء قولي أو كلامي أي ما كنت أقول أو أتكلم به . ومنها قوله : { وسيداً } والسيد الذي يفوق قومه في الشرف . وكان يحيى فائقاً لقومه بل للناس كلهم في الخصال الحميدة . وقال ابن عباس : السيد الحليم . وقال ابن المسيب : الفقيه العالم . وقال عكرمة : الذي لا يغلبه الغضب . ومنها قوله : { وحصوراً } قيل : أي محصوراً عن النساء لضعف في الآلة ، وزيف بأنه من صفات النقص فلا يليق في معرض المدح . والمحققون على أنه فعول بمعنى فاعل وهو الذي لا يأتي النسوان لا للعجز بل للعفة والزهد وحبس النفس عنهن ، وفيه دليل على أن ترك النكاح كان أفضل من تلك الشريعة ، فلولا أن الأمر بالنكاح والحث عليه وارد في شرعنا كان الأصل بقاء الأمر على ما كان . ومنها قوله : { ونبياً } واعلم أن السيادة لا تتم إلا بالقدرة على ضبط مصالح الخلق فيما يرجع إلى الدين والدنيا . والحصور إشارة إلى الزهد التام وهو منع النفس عما لا يعنيه . روي أنه مر وهو طفل بصبيان يلعبون فدعوه إلى اللعب فقال : ما للعب خلقت . فقوله :

{ ونبياً } أشار به إلى ما عدا مجموع الأمرين فإنه ليس بعدهما إلا النبوة .

ثم قال : { ومن الصالحين } أي من أولادهم لأنه كان من أصلاب الأنبياء أو كائناً من جملة الصالحين كقوله :{ وإنه في الآخرة لمن الصالحين }[ البقرة : 130 ] أو لأن صلاحه كان أتم بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : " ما من نبي إلا وقد عصى أو هم بمعصية غير يحيى بن زكريا فإنه لم يعص ولم يهم " وفيه أن الختم على الصلاح هو الغرض الأعظم والغاية القصوى وإن كان نبياً ، ولهذا قال سليمان بعد حصول النبوة

{ وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين }[ النمل : 19 ] وقال يوسف :{ توفني مسلماً وألحقني بالصالحين }[ يوسف : 101 ] .

/خ41