تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير  
{فَنَادَتۡهُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٞ يُصَلِّي فِي ٱلۡمِحۡرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحۡيَىٰ مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّدٗا وَحَصُورٗا وَنَبِيّٗا مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (39)

قال الله تعالى : { فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ } أي : خاطبته الملائكة شفاها خطابًا أسمعته ، وهو قائم يصلي في محراب عبادته ، ومحل خَلْوَته ، ومجلس مناجاته ، وصلاته . ثم أخبر عما بشّرته به الملائكة : { أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى } أي : بولد يوجد لك من صلبك اسمه يحيى . قال قتادة وغيره : إنما سُمِّي يحيى لأن الله تعالى أحياه بالإيمان .

وقوله : { مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ } روى العَوْفيّ وغيره عن ابن عباس . وقال الحسن وقتادة وعكرمة ومجاهد وأبو الشعثاء والسُّدي والربيع بن أنس ، والضحاك ، وغيرهم في هذه الآية : { مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ } أي : بعيسى ابن مريم ؛ قال الربيع بن أنس : هو أول من صدق بعيسى ابن مريم ، وقال قتادة : وعلى سننه{[4984]} ومنهاجه . وقال ابن جُرَيْج : قال ابن عباس في قوله : { مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ } قال : كان يحيى وعيسى ابني خالة ، وكانت أم يحيى تقول لمريم : إني أجد الذي في بطني يَسْجُد للذي في بطنك فذلك تصديقه بعيسى : تصديقه له في بطن أمه ، وهو أول من صدق عيسى ، وكلمة الله عيسى ، وهو أكبر من عيسى{[4985]} عليه{[4986]} السلام ، وهكذا قال السدي أيضا .

وقوله : { وَسَيِّدًا } قال أبو العالية ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، وسعيد بن جبير ، وغيرهم : الحكيم{[4987]} وقال قتادة : سيدًا في العلم والعبادة . وقال ابن عباس ، والثوري ، والضحاك : السيد الحكيم{[4988]} المتقي {[4989]} وقال سعيد بن المسيب : هو الفقيه العالم . وقال عطية : السيد في خلقه ودينه . وقال عكرمة : هو الذي لا يغلبه الغضب . وقال ابن زيد : هو الشريف . وقال مجاهد وغيره{[4990]} هو

الكريم على الله ، عز وجل .

وقوله : { وَحَصُورًا } رُوي عن ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وأبي الشعثاء ، وعطية العَوْفي أنهم قالوا : هو الذي لا يأتي النساء . وعن أبي العالية والربيع بن أنس : هو الذي لا يولد له . وقال الضحاك : هو الذي لا ولد له ولا ماء له .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن المغيرة ، أنبأنا جرير ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس في الحَصُور : الذي لا ينزل الماء ، وقد روى ابن أبي حاتم في هذا حديثا غريبًا جدا فقال : حدثنا أبو جعفر محمد بن غالب البغدادي ، حدثني سعيد بن سليمان ، حدثنا عبادة - يعني ابن العوام - عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المُسَيَّب ، عن ابن العاص - لا يدري عبد الله أو عمرو - عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله :

{ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا } قال : ثم تناول شيئا من الأرض فقال : " كان ذكره مثل هذا " {[4991]} .

ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنان ، حدثنا يحيى بن سعيد القَطَّان ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ؛ أنه سمع سعيد بن المُسَيَّب ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : ليس أحد من خلق الله لا يلقاه بذنب غير يحيى بن زكريا ، ثم قرأ سعيد : { وَسَيِّدًا وَحَصُورًا } ثم أخذ شيئا من الأرض فقال{[4992]} الحصور ما كان ذكره مثل ذي وأشار يحيى بن سعيد القطان بطرف إصبعه السبابة . فهذا موقوف{[4993]} وهو أقوى{[4994]} إسنادًا من المرفوع ، بل وفي صحة المرفوع نظر ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

وقد قال القاضي عياض في كتابه{[4995]} الشفاء : اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى أنه{[4996]} كان { حَصُورًا } ليس كما قاله بعضهم : إنه كان هيوبا ، أو لا ذكر له ، بل قد أنكر هذا حُذَّاقُ المفسرين ونقاد العلماء ، وقالوا : هذه نقيصة وعيب ولا تليق{[4997]} بالأنبياء ، عليهم السلام ، وإنما معناه : أنه معصوم من الذنوب ، أي لا يأتيها كأنه حصر عنها ، وقيل : مانعا نفسه من الشهوات . وقيل : ليست له شهوة في النساء .

وقد{[4998]} بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص ، وإنما الفضل في كونها موجودة ثم قمعها : إما بمجاهدة كعيسى أو بكفاية من الله عز وجل ، كيحيى ، عليه السلام . ثم هي حق من أقدر{[4999]} عليها وقام بالواجب فيها ولم تشغله{[5000]} عن ربه درجة علياء ، وهي درجة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي لم يشغله كثرتهن عن عبادة ربه ، بل زاده ذلك عبادة ، بتحصينهن وقيامه عليهن ، واكتسابه لهن ، وهدايته إياهن . بل قد صرّح أنها ليست من حظوظ دنياه هو ، وإن كانت من حظوظ دنيا غيره ، فقال : " حُبِّبَ إليَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ " .

هذا لفظه . والمقصود أنه مدح يحيى بأنه حصور ليس أنه لا يأتي النساء ، بل معناه كما قاله هو وغيره : أنه معصوم عن الفواحش والقاذورات ، ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن ، بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا المتقدم حيث قال : { هَبْ{[5001]} لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } كأنه قال : ولدًا له ذرية ونسل وعَقِب ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

[ وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عيسى بن حماد زُغْبَة ومحمد بن سلمة المرادي قالا حدثنا حجاج ، عن سلمان بن القمري ، عن الليث بن سعد ، عن محمد بن عَجْلان ، عن القعقاع ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كل ابن آدم يلقى الله بذنب قد أذنبه يعذبه عليه ، إن شاء أو يرحمه ، إلا يحيى بن زكريا ، فإنه كان سيدًا وحصورًا ونبيا من الصالحين " ، ثم أهوى النبي صلى الله عليه وسلم إلى قذاة من الأرض فأخذها وقال : " كان ذكره مثل هذه القذاة " ]{[5002]} .

قوله : { وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ } هذه بشارة ثانية بنبوة يحيى بعد البشارة بولادته ، وهي أعلى من الأولى كقوله{[5003]} تعالى لأم موسى : { إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } [ القصص : 7 ] فلما تحقق زكريا ، عليه السلام ، هذه البشارة أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر .


[4984]:في جـ، أ، و: "سنته".
[4985]:في ر: "يحيى".
[4986]:في ر، أ، و: "عليهما"
[4987]:في جـ، أ، و: "الحليم".
[4988]:في جـ، أ، و: "الحليم".
[4989]:في أ، و: "التقي".
[4990]:في أ: "غيرهم".
[4991]:تفسير ابن أبي حاتم (2/241) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (11/561) من طريق يحيى بن سعيد به.
[4992]:في أ، و: "قال".
[4993]:تفسير ابن أبي حاتم (2/243).
[4994]:في و: "أصح".
[4995]:في أ: "كتاب".
[4996]:في جـ، ر، أ: "بأنه".
[4997]:في أ: "ولا يليق".
[4998]:في جـ، ر، أ: "فقل".
[4999]:في أ: "قدر".
[5000]:في أ: "يشغله".
[5001]:في جـ، ر، أ: "فهب"، وهو خطأ والصواب ما بالأصل.
[5002]:زيادة من و.
[5003]:في ر: "لقوله".