فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{فَنَادَتۡهُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٞ يُصَلِّي فِي ٱلۡمِحۡرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحۡيَىٰ مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّدٗا وَحَصُورٗا وَنَبِيّٗا مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (39)

( فنادته الملائكة ) قيل المراد هنا جبريل ، والتعبير بلفظ الجمع عن الواحد جائز في العربية ، ومنه ( الذين قال لهم الناس ) وقيل ناداه جميع الملائكة وهو الظاهر من إسناد الفعل إلى الجمع والمعنى الحقيقي مقدم فلا يصار إلى المجاز إلا لقرينة ( وهو قائم يصلي في المحراب ) ) أي في المسجد قال السدي المحراب المصلى .

وقد أخرج الطبراني والبيهقي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اتقوا هذه المذابح يعني المحاريب{[319]} .

وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن موسى الجهني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تزال أمتي بخير ما لم يتخذوا في مساجدهم مذابح كمذابح النصارى{[320]} " وقد رويت كراهة ذلك عن جماعة من الصحابة .

( إن الله يبشرك بيحيى ) هو ممتنع من الصرف لكونه أعجميا أو لكون وزن الفعل فيه مع العلمية كيعمر ويعيش ويزيد ويشكر وتغلب ، وقيل أعجمي لا اشتقاق له ، وهذا هو الظاهر فامتناعه للعلمية والعجمة الشخصية .

قال القرطبي حاكيا عن النقاش كان اسمه في الكتاب الأول حنا انتهى ، والذي رأيناه في مواضع من الإنجيل أنه يوحنا قيل سمي بذلك لأن الله أحياه بالإيمان والنبوة ، وقيل إن الله أحيا به الناس بالهدى ، والمراد هنا التبشير بولادته أي يبشرك بولادة يحيى .

( مصدقا بكلمة من الله ) أي بعيسى عليه السلام ، وسمي كلمة الله لأنه كان بقوله سبحانه ( كن ) وقيل لأن الناس يهتدون به كما يهتدون بكلام الله ، وقيل لأن الله بشر به مريم على لسان جبريل ، وقيل لأن الله أخبر في كتبه المنزلة على الأنبياء أنه يخلق نبيا من غير واسطة أب فلما جاء قيل هذا هو تلك الكلمة يعني الوعد الذي وعد .

وقال أبو عبيد " بكلمة " أي بكتاب من الله ، قال والعرب تقول أنشدني كلمة أي قصيدة .

ويحيى أول من آمن بعيسى وصدقه وكان أكبر من عيسى بثلاث سنين ، وقيل بستة أشهر ، قال ابن عباس كان يحيى وعيسى ابني الخالة وكانت أم يحيى تقول لمريم إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك فذلك تصديقه بعيسى في بطن أمه ، وهو من صدق بعيسى ، وقتل يحيى قبل أن يرفع عيسى .

( وسيدا وحصورا ) السيد الذي يسود قومه ، قال الزجاج السيد الذي يفوق في أقرانه من الخير ، ويا لها من سيادة ما أسناها ، والحصور أصله من الحصر وهو الحبس تقول حصرني الشيء وأحصرني إذا حبسك ، و الحصور الذي لا يأتي النساء كأنه تحجم عنهن كما يقال رجل حصور وحصير إذا حبس رفده ولم يخرجه .

فيحيى عليه السلام كان حصورا عن إتيان النساء أي محصورا لا يأتيهن كغيره من الرجال إما لعدم القدرة على ذلك أو لكونه يكف عنهن منعا لنفسه عن الشهوة مع القدرة ، وقال السمين الحصور فعول محول عن فاعل للمبالغة والضروب محول من ضارب ، وهو الذي لا يأتي النساء إما لطبعه على ذلك وإما لمخالفة نفسه .

وفي القاموس الحصور من لا يأتي النساء وهو قادر على ذلك ، والممنوع منهن أو من لا يشتهيهن ولا يقربهن انتهى .

وقد رجح الثاني بأن المقام مقام مدح وهو لا يكون إلا على أمر مكتسب يقدر فاعله على خلافه لا على ما كان من أصل الخلقة وفي نفس الجبلة .

قال ابن عباس سيدا حليما تقيا ، وقال مجاهد السيد الكريم على الله ، وقال ابن المسيب : السيد الفقيه العالم ، وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كان ذكره مثل هدبة الثوب ، وأخرجه أحمد في الزهد من وجه آخر عنه موقوفا وهو أقوى وكان اسم أم يحيى اسيع .

( ونبيا من الصالحين ) أي ناشئا من الصالحين لكونه من نسل الأنبياء وأصلابهم أو كائنا من جملة الصالحين كما في قوله ( وإنه في الآخرة لمن الصالحين ) قال الزجاج الصالح الذي يؤدي لله ما افترض عليه وإلى الناس حقوقهم ، وقيل المراد بالصلاح ما فوق الصلاح الذي لا بد منه في منصب النبوة قطعا من أقاصي مراتبه وعليه مبني دعاء سليمان ( وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ) وفيه بعد ، لأنه لا صلاح فوق صلاح النبوة .


[319]:صحيح الجامع الصغير 19.
[320]:الإمام أحمد 2/229.