فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{فَنَادَتۡهُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٞ يُصَلِّي فِي ٱلۡمِحۡرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحۡيَىٰ مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّدٗا وَحَصُورٗا وَنَبِيّٗا مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (39)

{ فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى } خاطبت الملائكة زكريا شفاها بعد أن دعا ربه وتضرع إليه أن يهبه ذرية طيبة فخاطبوه وأسمعوه وهو قائم يصلي في محراب عبادته ومحل خلوته ومجلس مناجاته وصلاته كما يقول ابن كثير ، أي فنادته الملائكة في حال قيامه مصليا أن الله سيوجد لك من صلبك ولدا اسمه يحيى وإنما جاء فنادته مؤنثة دون فناداه الملائكة مثلا -إذ الملائكة ليست إناثا- إنما جاءت هكذا لأن جماعة الذكور إذا تقدمت أفعالها أنثت الأفعال وذلك كقول الله تعالى { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا . . }{[949]} وذهب جماعة من أئمة التفسير إلى أن المراد بالملائكة جبريل ، ربما لما يرون من أنه وحده الموكل بالوحي . لكن ثبت في الصحيح أن الوحي كانت تنزل به جموع من الملائكة أو ملك آخر سوى جبريل كلما قضى الله ذلك .

روى الإمام مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا –صوتا- من فوقه فرفع رأسه فقال هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم ، فنزل منه ملك ، فقال : هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم ، فسلم وقال : أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منها إلا أعطيته .

{ إن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين } ناداه جمع الملائكة الذين أرسلوا إليه بالبشرى أن الله سبحانه سيوجد لك من صلبك ولدا ذكرا وسيكون اسمه يحيى فأبشر { مصدقا بكلمة من الله } قال ابن عباس : كان يحيى وعيسى ابني خالة ، وكانت أم يحيى تقول لمريم : إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك فذلك تصديقه له . . وهو أول من صدق عيسى . وكلمة الله عيسى وهو أكبر من عيسى عليه السلام . . . – والمراد بالكلمة عيسى عليه السلام ، . . . ، وإنما سمي عيسى عليه السلام بذلك لأنه وجد بكلمة { كن } من دون توسط سبب عادي . . وأريد بهذا التصديق : الإيمان -{[950]} . { وسيدا } قال ابن عباس : الحليم التقي وقال مجاهد : هو الكريم على الله عز وجل

{ وحصورا } عن ابن مسعود وابن عمرو وغيرهما : لا يأتي النساء . { ونبيا من الصالحين } وسيكون ولدك يحيى مع الفضل الذي يبشر به من الأنبياء أي ناشئا منهم أو معدودا فيهم ف{ من } على الأول للابتلاء وعلى الثاني للتبعيض . . وقد يقال : المراد من الصلاح الذي لابد منه فمنصب النبوة ألبتة من أقاصي مراتبه وعليه مبني دعاء سليمان عليه السلام { . . وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين }{[951]} ولعله أولى مما قبل-{[952]} .

مما يقول صاحب تفسير القرآن العظيم : وهذه بشارة ثانية بنبوة يحيى بعد البشارة بولادته وهي أعلى من الأولى كقوله لأم موسى { إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين }{[953]} قال : أي الملك { كذلك الله يفعل ما يشاء } أي هكذا أمر الله عظيم لا يعجزه شيء ولا يتعاظمه أمر .


[949]:من سورة الحجرات الآية 14.
[950]:من روح المعاني.
[951]:من سورة النحل من الآية 19.
[952]:من سورة القصص من الآية 7.
[953]:عقيم لا تلد.