فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{فَنَادَتۡهُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٞ يُصَلِّي فِي ٱلۡمِحۡرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحۡيَىٰ مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّدٗا وَحَصُورٗا وَنَبِيّٗا مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (39)

قوله : { فَنَادَتْهُ الملائكة } قرأ حمزة ، والكسائي : «فناداه » ، وبذلك قرأ ابن عباس وابن مسعود . وقرأ الباقون : «فنادته الملائكة » ، قيل : المراد هنا جبريل ، والتعبير بلفظ الجمع عن الواحد جائز في العربية ، ومنه : { الذين قَالَ لَهُمُ الناس } [ آل عمران : 173 ] ؛ وقيل : ناداه جميع الملائكة ، وهو الظاهر من إسناد الفعل إلى الجمع والمعنى الحقيقي مقدّم ، فلا يصار إلى المجاز إلا لقرينة . قوله : { وَهُوَ قَائِمٌ } جملة حالية ، و { يُصَلّى فِي المحراب } صفة لقوله : { قَائِمٌ } أو خبر ثان لقوله : { وَهُوَ } . قوله : { إِنَّ الله يُبَشّرُكِ } قرئ بفتح أنّ ، والتقدير بأن الله ، وقرئ بكسرها على تقدير القول . وقرأ أهل المدينة " يبشرك " بالتشديد . وقرأ حمزة بالتخفيف . وقرأ حميد بن قيس المكي بكسر الشين ، وضم حرف المضارعة . قال الأخفش : هي ثلاث لغات بمعنى واحد ، والقراءة الأولى هي التي وردت كثيراً في القرآن ، ومنه { فَبَشِّرْ عِبَادِي } [ الزمر : 17 ] { فَبَشّرْهُم بِمَغْفِرَةٍ } [ يس : 11 ] { فبشرناها بإسحاق } [ هود : 71 ] { قَالُوا بشرناك بالحق } [ الحجر : 55 ] وهي : قراءة الجمهور . والثانية : لغة أهل تهامة ، وبها قرأ أيضاً عبد الله بن مسعود ، والثالثة من أبشر يبشر إبشاراً . ويحيى ممتنع إما لكونه أعجمياً أو لكون فيه وزن الفعل ، كيعمر مع العلمية . قال القرطبي حاكياً عن النقاش : كان اسمه في الكتاب الأول حنا . انتهى . والذي رأيناه في مواضع من الإنجيل أنه يوحنا . قيل : سمي بذلك ؛ لأن الله أحياه بالإيمان ، والنبوّة . وقيل : لأن الله أحيا به الناس بالهدى . والمراد هنا : التبشير بولادته ، أي : يبشرك بولادة يحيى .

وقوله : { مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ منَ الله } أي : بعيسى عليه السلام ، وسمي كلمة الله ؛ لأنه كان بقوله سبحانه " كن " ، وقيل : سمي كلمة الله ؛ لأن الناس يهتدون به ، كما يهتدون بكلام الله .

وقال أبو عبيد : معنى : { بِكَلِمَةٍ منَ الله } بكتاب من الله ، قال : والعرب تقول أنشدني كلمته ، أي : قصيدته ، كما روي أن الحويدرة ذكر لحسان ، فقال : لعن الله كلمته ، يعني قصيدته . انتهى . ويحيى أوّل من آمن بعيسى وصدّق ، وكان أكبر من عيسى بثلاث سنين ، وقيل : بستة أشهر . والسيد : الذي يسود قومه . قال الزجاج : السيد : الذي يفوق أقرانه في كل شيء من الخير . والحصور : أصله من الحصر ، وهو الحبس ، يقال حصرني الشيء ، وأحصرني : إذا حبسني ، ومنه قول الشاعر :

وَمَا هَجْرُ لَيْلَى أنْ تكون تَبَاعَدتْ *** عَلَيْكَ وَلا أن أحْصَرتك شُغولُ

والحصور : الذي لا يأتي النساء ، كأنه يحجم عنهن ، كما يقال رجل حصور ، وحصير : إذا حبس رفده ، ولم يخرجه ، فيحيى عليه السلام كان حصوراً عن إتيان النساء ، أي : محصوراً لا يأتيهنّ ، كغيره من الرجال ، إما لعدم القدرة على ذلك ، أو لكونه يكف عنهنّ منعاً لنفسه عن الشهوة مع القدرة . وقد رجّح الثاني بأن المقام مقام مدح ، وهو لا يكون إلا على أمر مكتسب يقدر فاعله على خلافه ، لا على ما كان من أصل الخلقة ، وفي نفس الجبلة . وقوله : { منَ الصالحين } أي : ناشئاً من الصالحين ، لكونه من نسل الأنبياء ، أو كائناً من جملة الصالحين ، كما في قوله : { وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين } [ البقرة : 130 ] . قال الزجاج : الصالح الذي يؤدي لله ما افترض عليه ، وإلى الناس حقوقهم .

/خ44