الآية 39 وقوله تعالى : { فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب } دل هذا أن المحراب هو موضع الصلاة { أن الله يبشرك بيحيى مصدقا } فيه دلالة لقول أصحابنا ، رحمهم الله : إن الرجل إذا حلف ألا يبشر فلانا ، فأرسل إليه غيره يبشره حنث في يمينه ، لأنه هو البشير ، وإن كان المؤدي غيره . ألا ترى أن البشارة ههنا أضيفت إلى الله تعالى ، فكان هو البشير ؟ فكذلك هذا .
وقوله تعالى : { مصدقا بكلمة من الله } قيل : عيسى عليه السلام كان كلمة من الله ؛ فيحيى صدقه برسالته ، وقيل : أول من صدق عيسى يحيى بن زكريا ، ولهذا أوقع على النصارى شبهة حين قالوا : عيسى ابن الله بقوله : { بكلمة من الله } [ آل عمران : 39 ] [ وبقوله : ]{[3788]} { وروح منه } [ النساء : 171 } ، ظنوا [ أن كلمة { منه } ]{[3789]} في معنى فيه ، لكن ذلك يذكره{[3790]} إكراما لهم وإجلالا ، ولا يوجب ذلك ما قالوا . ألا ترى أن الله جل وعلا قال : { وما بكم من نعمة فمن الله } ؛ [ النحل : 35 ] ونحو ذلك لم يكن فيه أن النعمة منه في شيء . فعلى ذلك الأول .
وقوله تعالى : { وسيدا } ؛ قيل : سيدا في العلم والعبادة ، وقيل : السيد الحليم ههنا ، وقيل : السيد الذي يطيع ربه ، ولا يعصيه ، فكذلك كان –صلوات الله عليه{[3791]}- وقيل : اشتق يحيى من أسماء الله تعالى من : حي ، والله جل وعلا هو الذي سماه يحيى ، وكذلك عيسى ، الله هو الذي سماه مسيحا بقوله : { يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم } [ عليه الصلاة والسلام ]{[3792]} [ آل عمران : 45 ] وذلك إكراما لهما وإجلالا على ما سمي إبراهيم خليل الله ومحمد حبيب الله وموسى كليم الله إكراما لهم وإجلالا ، فكذلك الأول . وجائز أن يكون يحيى لما{[3793]} حيي به الدين /58-ب/ .
قال الشيخ ، رحمه الله ، في قوله : { بيحيى } : قيل : سماه به لما حيي به الدين والمروءة ، أو حيي به العلم والحكمة ، أو حيي به الأخلاق الفاضلة والأفعال المرضية ، ولهذا ، والله أعلم ، سمي سيدا ، لأن السود في الخلق يكسب بهذا النوع من الأحوال ، وسمي مسيحا بالبركة ، أو يبارك في كل شيء يمسه بيده نحو أن يبرأ به ، ويحيى ، والله أعلم . وحقيقة السود أنه يكتسب بالأخلاق الحسنة والأفعال المرضية . وجائز أن يكون عليه السلام جمعهما فيه ، فسمي بهما{[3794]} ، والله أعلم .
والأصل في هذا ونحوه أن الأسماء إذ جعلت للمعارف وليعلم بها المقصود ، فالكف عن التكلف في المعنى الذي له سموا له أسلم ، وإن كان في الجملة يختار ما يحسن منه في الأسماع دون ما يقبح على المقال أو على الرغبة في ذكره على [ ما ]{[3795]} يختار من كل شيء ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وحصورا } قيل الحصور الذي لا مال له ولا شهوة ، وقيل : هو المأخوذ من النساء والممنوع منهن ، وقيل : هو الذي لا يشتهي النساء ، وكله واحد ، والله أعلم { ونبيا من الصالحين } [ فيه وجهان :
أحدهما : ]{[3796]} ذكر أنه من الصالحين ، وأن كان كل نبي لا يكون إلا صالحا على ما سمى كل نبي صديقا ، وإن كان لا يكون إلا صديقا .
ووجه ذكره صالحا أنه كان يتحقق فيه ذلك لأن غيره من الخلق ، وإن كان يستحق ذلك الاسم إنما يستحق بجهة ، والأنبياء ، صلوات الله عليهم ، يتحقق ذلك فيهم من الوجوه كلها .
والثاني : دعاء أن يلحق بالصالحين في الآخرة ، والله أعلم .
قال الشيخ ، رحمه الله : ما ذكر في كل نبي أنه من الصالحين يخرج على أوجه : على جميع الصلاح وعلى البشارة لهم في الآخرة أنهم يلحقون بأهل الصلاح ، وعلى أنهم منهم ، لولا النبوة ، ليعلم أن النبوة إنما تختار في الدين لمن تم لهم وصف الصلاح ، وعلى الوصف به أنهم كذلك على ألسن الناس ، وأن الذين ردوا عليهم ردوا بعد علمهم بصلاحهم ، أو على الوصف به كالوصف بالصديق ، وإن كان نبي كذلك مع ما لعل ، ولذلك حد{[3797]} عند الله ، ذلك أراد لم يكن اطلع غيره عليه ، والله أعلم . وجائز أن يكون يحيى بما حييت به الأخلاق المحمودة والأفعال المرضية ، ولذلك سمي سيدا .
وجملته أن الله يسمي من شاء بما شاء ، وليس لنا تكلف طلب معنى في ما سمى الجواهر به ، إذا الأسماء للتعريف . لكن تختار الحسنة على التفاؤل ، والله أعلم . وقوله : روح الله وكلمته ، كقولهم{[3798]} : خليل الله وحبيبه وذبيح الله ليس على توهم معنى ، يزيل معنى الخلقة ، ويوجب معنى الربوبية أو النبوة ، وذلك على ما قيل من ثبوت الله وعلى ما قيل لدينه : نور الله ، وقيل لفرائضه : حدود الله لا معنى يخرج خلقه بل على تخصيص لذلك في الفضل على أشكاله . وذلك كما قال لمحمد صلى الله عليه وسلم : { وأما بنعمة ربك فحدث } [ الضحى : 11 ] وقال في الجملة : { وما بكم من نعمة فمن الله } [ النحل : 53 ] لا على ما توهمه النصارى في المسيح ، فمثله الأول ، ولا قوة إل بالله .
وقوله تعالى : { ويكلم الناس في المهد وكهلا } [ آل عمران : 46 ] بشارة انبعاثه إلى أن يصير كهلا .
وفيه وجه آخر ، وهو أن قوله في ذلك بيان أن كلامه في المهد كلام مختار أن ذلك وصف كلام الكهل ليعلم أن قوله : { إني عبد الله } [ مريم : 30 ] إلى آخره إنما هو حقيقة الخضوع لله والإنباء{[3799]} عنه لا على خلقه كنطق الجوارح في الآخرة ، والله أعلم ، أو ليكون آية له دائمة ، إذ لم يكن على ما عليه أمر البشر من التغيير ، على أن الآيات الجوهرية تزول عند الغنى نحو العصا في ما تعود إلى حالها ، واليد ، ونحو ذلك ليخص هو بنوع من الآيات{[3800]} الحسية بالدوام ، ولا قوة إلا بالله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.