معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ إِن كُنتُمۡ خَرَجۡتُمۡ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعۡلَمُ بِمَآ أَخۡفَيۡتُمۡ وَمَآ أَعۡلَنتُمۡۚ وَمَن يَفۡعَلۡهُ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الممتحنة مدنية وآياتها ثلاث عشرة .

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } الآية . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، حدثنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار ، أخبرني الحسن بن محمد أنه سمع عبد الله بن أبي رافع يقول سمعت علياً رضي الله عنه يقول : " بعثني النبي صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها ، قال : فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة ، فقلنا : أخرجي الكتاب فقالت : ما معي كتاب ، فقلنا : لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب ، قال : فأخرجته من عقاصها ، فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا حاطب ما هذا ؟ قال : يا رسول الله لا تعجل علي إني كنت امرأ ملصقاً في قريش -يقول كنت حليفاً ولم أكن من أنفسها- وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم ، فأحببت -إذ فاتني ذلك من النسب فيهم- أن أتخذ عندهم يداً يحمون قرابتي ، ولم أفعله ارتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام ، فقال عمر : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال : إنه قد شهد بدراً ، وما يدريك لعل الله اطلع على منى شهد بدرا فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ، فأنزل الله تعالى هذه السورة : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة } إلى قوله : { سواء السبيل } " . قال المفسرون : نزلت الآية في حاطب بن أبي بلتعة كما جاء في الحديث ، وذلك أن سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف أتت المدينة من مكة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز لفتح مكة ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم أمسلمة جئت ؟ قالت : لا ، قال أمهاجرة جئت ؟ قالت : لا ، قال : فما جاء بك قالت : كنتم الأصل والعشيرة والموالي وقد ذهبت موالي وقد احتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتطعموني وتكسوني وتحملوني ، فقال لها : وأين أنت من شبان مكة ؟ وكانت مغنية نائحة ، قالت : ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر ، فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وبني المطلب فأعطوها نفقة وكسوها وحملوها ، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى ، فكتب معها إلى أهل مكة ، وأعطاها عشرة دنانير ، وكساها برداً ، على أن توصل الكتاب إلى أهل مكة ، وكتب في الكتاب : من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم ، فخذوا حذركم . فخرجت سارة ، ونزل جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما فعل ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وعماراً والزبير وطلحة والمقداد بن الأسود وأبا مرثد فرساناً ، فقال لهم : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين ، فخذوه منها وخلوا سبيلها ، وإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها . قال : فخرجوا حتى أدركوها في ذلك المكان الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا لها : أين الكتاب ؟ فحلفت بالله ما معها كتاب ، فبحثوها وفتشوا متاعها فلم يجدوا معها كتاباً ، فهموا بالرجوع ، فقال علي رضي الله عنه : والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسل سيفه فقال : أخرجي الكتاب وإلا لأجردنك ولأضربن عنقك . فلما رأت الجد أخرجته من ذؤابتها ، وكانت قد خبأته في شعرها ، فخلوا سبيلها ولم يتعرضوا لها ولا لما معها ، فرجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حاطب ، فأتاه فقال : هل تعرف الكتاب ؟ قال : نعم ، قال : فما حملك على ما صنعت ؟ فقال : يا رسول الله والله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ، ولا أحببتهم منذ فارقتهم ، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته ، وكنت غريباً فيهم ، وكان أهلي بين ظهرانيهم ، فخشيت على أهلي ، فأردت أن أتخذ عندهم يداً ، وقد علمت أن الله ينزل بهم بأسه ، وأن كتابي لا يغني عنهم شيئاً ، فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعذره . فقام عمر بن الخطاب فقال : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ؟ فأنزل الله عز وجل في شأن حاطب : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } . { تلقون إليهم بالمودة } قيل : أي المودة ، والباء زائدة ، كقوله : { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم }( الحج- 25 ) وقال الزجاج : معناه تلقون إليهم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم وسره بالمودة التي بينكم وبينهم ، { وقد كفروا } الواو للحال ، أي : وحالهم أنهم كفروا ، { بما جاءكم من الحق } يعني القرآن { يخرجون الرسول وإياكم } من مكة ، { أن تؤمنوا } أي لأن آمنتم ، كأنه قال : يفعلون ذلك لإيمانكم ، { بالله ربكم إن كنتم خرجتم } هذا شرط جوابه متقدم وهو قوله : { لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم } { جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة } قال مقاتل : بالنصيحة ، { وأنا أعلم بما أخفيتم } من المودة للكفار ، { وما أعلنتم } أظهرتم بألسنتكم { ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل } أخطأ طريق الهدى .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ إِن كُنتُمۡ خَرَجۡتُمۡ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعۡلَمُ بِمَآ أَخۡفَيۡتُمۡ وَمَآ أَعۡلَنتُمۡۚ وَمَن يَفۡعَلۡهُ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

( 60 ) سورة الممتحنة مدنية وآياتها ثلاث عشرة .

تفسير سورة الممتحنة{[1]}

وهي مدنية بإجماع من المفسرين .

قوله عز وجل :

العدو اسم يقع للجمع والمفرد والمراد به هاهنا كفار قريش ، وهذه الآية نزلت بسبب حاطب بن أبي بلتعة{[11036]} ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الخروج إلى مكة عام الحديبية فوَّرى عن ذلك بخيبر ، فشاع في الناس أنه خارج إلى خيبر ، وأخبر هو جماعة من كبار أصحابه بقصده ، منهم حاطب بن أبي بلتعة فكتب حاطب إلى قوم من كفار مكة يخبرهم بقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعث علياً والزبير وثالثاً هو المقداد ، وقيل أبو مرثد{[11037]} ، وقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاح{[11038]} ، فإن بها ظعينة{[11039]} معها كتاب من حاطب إلى المشركين ، فانطلقوا حتى وجدوا المرأة واسمها سارة مولاة لقوم من قريش ، وقيل بل كانت امرأة من مزينة ولم تكن سارة ، فقالوا لها : أخرجي الكتاب . قالت : ما معي كتاب ، ففتشوا جميع رحلها فما وجدوا شيئاً ، فقال بعضهم : ما معها كتاب ، فقال علي : ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تكذبي والله لتخرجن الكتاب أو لنجردنك . قالت : أعرضوا عني فحلته من قرون رأسها ، وقيل : أخرجته من حجزتها ، فجاؤوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم{[11040]} فقال لحاطب : من كتب هذا ؟ فقال : أنا يا رسول الله ولكن لا تعجل علي فوالله ما فعلت ذلك ارتداداً عن ديني ولا رغبة عنه ولكني كنت أمرأً ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسها فأحببت أن تكون لي عندهم يد يرعونني بها في قرابتي . فقال عمر بن الخطاب : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق حاطب إنه من أهل بدر وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر . فقال : «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ، ولا تقولوا لحاطب إلا خير » ، فنزلت الآية لهذا السبب{[11041]} ، وروي أن حاطباً كتب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوكم في مثل الليل ، والسيل ، وأقسم بالله لو غزاكم وحده لنصر عليكم فكيف وهو في جمع كثير ، و { تلقون } في موضع الصفة ل { أولياء } ، وألقيت يتعدى بحرف الجر ، وبغير حرف جر ، فدخول الباء وزوالها سواء ، وهذا نظير قوله عز وجل : { وألقيت عليك محبة مني }{[11042]} [ طه : 39 ] وقوله تعالى : { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب }{[11043]} [ آل عمران : 151 ] وروى ابن المعلى عن عاصم أنه قرأ : «وقد كفروا لما » بلام . . .

وقوله تعالى : { يخرجون } في موضع الحال من الضمير في { كفروا } والمعنى : يخرجون الرسول ويخرجونكم ، وهي حال موصوفة ، فلذلك ساق الفعل مستقبلاً والإخراج قد مر ، وتضييق الكفار على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إخراج إذ كان مؤدياً إلى الخروج ، وقوله تعالى : { إن تؤمنوا } مفعول من أجله أي اخرجوا لأجل أن آمنتم بربكم ، وقوله تعالى : { إن كنتم } شرط جوابه متقدم في معنى ما قبله ، وجاز ذلك لما لم يظهر عمل الشرط ، والتقدير : «إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي ، فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء » و { جهاداً } نصب على المصدر وكذلك { ابتغاء } ، ويجوز أن يكون ذلك مفعولاً من أجله ، و «المرضاة » مصدر كالرضى ، و { تسرون } بدل من { تلقون } ، ويجوز أن تكون في موضع خبر ابتداء ، كأنه قال أنتم { تسرون } ، ويصح أن تكون فعلاً مرسلاً ابتدئ به القول والإلقاء بالمودة معنى ما ، والإسرار بها معنى زائد على الإلقاء ، فيترجح بهذا أن { تسرون } فعل ابتدئ به القول أي تفعلون ذلك وأنا أعلم ، وقوله تعالى : { أعلم } يحتمل أن يكون أفعل ، ويحتمل أن يكون فعلاً ، لأنك تقول عملت بكذا فتدخل الباء وقوله تعالى : { وأنا أعلم } الآية ، جملة في موضع الحال ، وقرأ أهل المدينة «وأنا » بإشباع الألف في الإدراج ، وقرأ غيرهم «وأنا » بطرح الألف في الإدراج ، والضمير في { يفعله } عائد على الاتخاذ المذكور ، ويجوز أن تكون { سواء } مفعولاً ب { ضل } وذلك على بعد ، وذلك على تعدي { ضل } ، ويجوز أن يكون ظرفاً على غير التعدي لأنه يجيء بالوجهين والأول أحسن في المعنى ، والسواء الوسط وذلك لأنه تتساوى نسبته إلى أطراف الشيء والسبيل هنا شرع الله وطريق دينه .


[1]:- أي فيمن نزلت، أفي المؤمنين جميعا أم في مؤمني أهل الكتاب؟
[11036]:هو حاطب بن أبي بلتعة اللخمي، صحابي جليل، شهد الوقائع كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أشد الرماة، وكانت له تجارة واسعة، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم بكتابه إلى المقوقس حاكم مصر، كان أحد فرسان قريش وشعرائها، مات في المدينة.(الإصابة).
[11037]:المقداد بن عمرو بن ثعلبة، البهراني، ثم الكنجي، ثم الزهري، تبناه الأسود بن عبد يغوث الزهري فنسب إليه فقيل: المقداد بن الأسود، صحابي مشهور، من السابقين، لم يكن ببدر فارسا غيره، مات سنة ثلاث وثلاثين، وأما أبو مرثد فهو كناز بن الحصين بن يربوع الغنوي، أبو مرثد- بفتح الميم وثاء بعد الراء الساكنة، صحابي بدري مشهور بكنيته، مات سنة اثنتي عشرة للهجرة(تقريب التهذيب)، وأما علي والزبير فغنيان عن التعريف.
[11038]:مكان بين مكة والمدينة، على بعد اثني عشر ميلا من المدينة.
[11039]:الظعينة: المرأة في الهودج.
[11040]:قيل: كان في الكتاب ما يأتي:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه إليكم بجيش كالليل، يسير كالسيل، وأقسم بالله لو لم يسر إليكم إلا وحده لأضفره الله بكم، وأنجز له موعده فيكم، فإن الله وليه وناصره".
[11041]:أخرجه أحمد، والحميدي، وعبد بن حميد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وأبو عوانة، وابن حبان، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي وأبو نعيم معا في الدلائل، عن علي رضي الله عنه.(الدر المنثور).
[11042]:من الآية (39) من سورة (طه).
[11043]:من الآية (151) من سورة (آل عمران).