تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ إِن كُنتُمۡ خَرَجۡتُمۡ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعۡلَمُ بِمَآ أَخۡفَيۡتُمۡ وَمَآ أَعۡلَنتُمۡۚ وَمَن يَفۡعَلۡهُ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الممتحنة [ مدنية ]{[1]} .

الآية 1 قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة } هذه الآية وما أشبهها من قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم } [ التحريم : 6 ] وفي كل ما ذكر : { يا أيها الذين آمنوا } [ البقرة : 104 و . . . ] دلالة واضحة أن الإيمان ذو حد ، وأنه ليس كما قالت الحشوية {[21022]} والمعتزلة وأصحاب الحديث : إن الطاعات كلها إيمان .

ووجه ذلك أن كلا في نفسه قد فهم من هذه الآية أنه محتمل لهذا الخطاب وأنه لازم له ، فثبت أنه ذو حد في نفسه ، وهو التصديق في القلب ، وغيره من الطاعات في شرائعه ، والله أعلم .

وفي ما ذكر من قوله : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } [ البقرة 21 ] وما أشبهه{[21023]} من الآي دلالة على أن الإنسان ما يشاهد ، وليس كما قال النظام : إن الإنسان إنما هو جسم آخر لطيف في هذا الإنسان ، ولا كما قال الناشي : إن الإنسان إنما هو جوهر بسيط في هذا الإنسان .

ووجه ذلك أنه ليس كل أحد ، يعلم أن في نفسه جوهرا بسيطا أو جسما آخر ، فيه لطف .

وقد فهم الكل من هذه الآيات أنه محتمل للخطاب بها . فثبت بما وصفنا أن الإنسان هو ما يشاهد ، والله أعلم .

وفيه دلالة أن ما يفهم من هذه الآيات من عموم أو خصوص ليس يفهم بظاهر الخطاب ولكن بما توجبه الحكمة ؛ فإن أوجبت عمومها أجروها على عمومها ، وإن أوجبت تخصيصها أجروها على ذلك .

والذي يدل على ما وصفناه أنه قال : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } وهذا مخرجه في الظاهر على العموم ، ولكنه لما قال : { تلقون إليهم بالمودة } ومعلوم أن الذي كان يلقي بالمودة خاص {[21024]} لا كل المؤمنين ، فكان يجب أن يكون مجراها على الخصوص لما بين إليهم في سياق هذه الآية . ولكن الحكمة توجب تعميم هذه الآية ، لأنه لو قال لواحد : لا تتخذ عدوي وعدوك {[21025]} أولياء كان هذا الخطاب لازما للكل بما توجبه الحكمة من أنه إذا علم من أحد عداوته ألا يتخذه وليا{[21026]} .

وكذلك قوله : { وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم } خرج مخرج العموم في الظاهر ، ولكن الذين أخرجوه إنما كانوا {[21027]} أهل مكة خاصة دون سائر الكفرة .

فهذا يبين أن {[21028]} ما أجري مجرى العموم ، لم يجز بظاهر اللفظ ، ولكن لما توجب الحكمة والدليل .

وكذلك قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } الآية [ الجمعة : 9 ] ليس أن السعي إنما فرض يوم الجمعة لتخصيصه بالذكر ، ولكن لما أن النداء في يوم الجمعة إلى ذكرين وفي غيره من الأيام إلى ذكر واحد ولأجل أن النداء المضيق في يوم الجمعة ، هو النداء الأول وفي غيره من الأيام هو النداء الثاني .

فإذا جاز أن يكون فرض السعي في يوم الجمعة إنما هو لهذين المعنيين ثبت أن التخصيص ليس بظاهر اللفظ . والله اعلم .

وفي هذه الآية دلالة رسالته صلى الله عليه وسلم وذلك أن قوله { تسرون إليهم بالمودة } أن ذلك الرجل ، لم يطلع على سره أحدا ، وقد أطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم حين {[21029]} أخبرهم بالكتاب ، فثبت أن علمه بالوحي ، والله اعلم .

ثم اختلفوا في من نزلت هذه الآية ؛ فقال الحسن : إنها نزلت في أهل النفاق ، وقال غيره من عامة المفسرين : إنها نزلت في حاطب بن بلتعة ، وهذا أشبه التأويلين {[21030]} بالصواب ، وأقرب إلى الحق ، وذلك أن الله تعالى قال : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } فقد أخبر أن الكفرة عدو لهم ، ولو كانت الآية في أهل النفاق لم يكن الكفرة عدوا لهم ، بل كانوا أولياء ، فثبت أن المراد منه المؤمنون ، والله أعلم .

وهذه الآية دلالة أن ذلك الذنب الذي ارتكب ذلك الرجل لم يخرجه من الولاية لأنه قال : { لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } ولو كان ذلك الذنب يكفره ، ويخرجه من الإيمان ، لم يكن ذلك الكافر عدوا له ، بل يكون وليا له بقوله : { وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض } [ الجاثية : 19 ] . ولأجل أنه قال : { يا أيها الذين آمنوا } سماه مؤمنا .

والدليل أن الذنب كان كبيرة أنه أخبرهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جهزهم للقتال ، وفي ما أخبر أمر بأن يستعدوا لقتال النبي صلى الله عليه وسلم وحربه ، ولا شك{[21031]} أن من أمر بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مرتكب كبيرة ، وإذا كان كذلك ، وقد أدخله الله تعالى في جملة المؤمنين بقوله { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي } وبما وصفناه من الدليل ثبت أن الكبيرة ، لا تكفره ، ولا تغير اسم الإيمان عنه ، والله الموفق .

ثم في ما نهانا أن نتخذ عدونا وعدوه أولياء دلالة أن ليس في الحكمة اتخاذ الولاية مع الأعداء .

ثم من قول المعتزلة أن الله تعالى أراد من جميع عباده أن يؤمنوا ، وإذا أراد أن يؤمنوا ، فقد أراد أن يواليهم مع علمه أنهم يختارون عداوته ، فكأنهم وصفوا الله بما يخرجه من الحكمة ، ويدخله في السفه والجهل بالعواقب ، وذلك كله منفي عن الله عز وجل والمعتزلة في ما وصفوا فجرة فسقة ، ويخشى أن يكونوا كفرة ، والله المستعان .

وقوله تعالى : { تلقون إليهم بالمودة } أي بما كتب في الكتاب . 563-ب / .

وقوله تعالى : { وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم } ، وقوله تعالى : { إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي } يحتمل أن يكون ذلك في من هاجر من مكة إلى المدينة ، وهو أقرب التأويلين ، لأن حاطبا ، إنما كان هاجر من مكة إلى المدينة ، وفيه نزلت الآية ، ويحتمل أن يكون ذلك حين أرادوا الجهاد إلى مكة ، والله أعلم ، أي ذلك كان .

وقوله تعالى : { تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم } أي هو { أعلم بما أخفيتم } من كتبة الكتاب إلى أهل مكة { وما أعلنتم } بما أظهرتم من العذر .

وقوله تعالى : { ومن يفعله منكم } أي من اتخاذ الولاية مع أعدائه ، { فقد ضل سواء السبيل } في الاعتقاد ، أي من اعتقد ذلك ، وفي الفعل أي لم يعتقده ، والله اعلم .

ثم قوله عز وجل { تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم } التزام مراقبة الله تعالى في السر والعلانية وتحذير منه {[21032]} ليجمعوا بين السر والعلانية ، وتخويف لهم من أن يطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرائرهم كما أطلعه على أمر الكتاب إلى أهل مكة .

ثم في الآية أعظم شيء في زجرهم ونهيهم عن المعاصي ، وذلك أنه لما أطلعه على جميع ما يتعاطونه من الذنوب سرا وعلانية فإذا علموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم من سرهم ما يعلم من علانيتهم بما يطلعه الله عليه يحملهم ذلك على الانتهاء عن المعاصي في السر والعلانية ، وعلى الإجابة إلى ما يدعوهم إليه ، والله أعلم .


[1]:- في ط ع: سمح.
[21022]:في الأصل و م: الحشرية بالراء. وقد أدرجت كلمة الحشوية في تفسير الآية من سورة الإسراء في الورقة 308 ب من الأصل انظر 3/190.
[21023]:في الأصل و م: أشبهها.
[21024]:في الأصل و م: خاصا.
[21025]:في الأصل و م: عدوكم.
[21026]:من م، في الأصل.
[21027]:في الأصل و م: كان
[21028]:من م: في الأصل: أول.
[21029]:في الأصل وم: حيث.
[21030]:من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: التأويل
[21031]:في الأصل وم: يشكل.
[21032]:في الأصل و م: له.