إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ إِن كُنتُمۡ خَرَجۡتُمۡ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعۡلَمُ بِمَآ أَخۡفَيۡتُمۡ وَمَآ أَعۡلَنتُمۡۚ وَمَن يَفۡعَلۡهُ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الممتحنة مدنية وآيها ثلاث عشرة .

{ يا أيها الذين آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء } نزلتْ في حاطبِ ابنِ أبي بَلْتَعةَ وذلكَ أنَّه لمَّا تجهزَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لغزوةِ الفتحِ كتبَ إلى أهلِ مكةٍ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يريدُكُم فخُذُوا حذْرَكُم وأرسلَهُ مع سارةَ مولاةِ بني المطلبِ فنزلَ جبريلُ عليهِ السلامُ بالخبرِ فبعثَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم علياً وعماراً وطلحةَ والزبيرَ والمقدادَ وأبا مرثدٍ وقالَ " انطلقُوا حتى تأتُوا روضةَ خاخٍ فإنَّ بها ظعينةً معها كتابُ حاطبٍ إلى أهلِ مكةَ فخذُوه منهَا وخلُّوها فإنْ أبتْ فاضربُوا عنقَهَا " {[780]} فأدركُوهَا ثمةَ فجحدتْ فسلَّ عليٌّ سيفَهُ فأخرجْتَهُ من عقاصِهَا{[781]} فاستحضَر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حاطباً وقال ما حملكَ على هَذا فقالَ يا رسولَ الله ما كفرتُ منذ أسلمتُ ولا غششتكَ منذُ نصحتكَ ولكني كنتُ امرءاً ملصَقاً في قريشٍ وليسَ لي فيهم مَنْ يحمي أَهْلِي فأردتُ أن آخذَ عندهُم يداً وقد علمتُ أن كتابيَ لن يُغْنيَ عنهُم شيئاً فصدَّقَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقبلَ عذرَهُ { تُلْقُونَ إِلَيْهِم بالمودة } أي تُوصلونَ إليهم المودَّةَ على أنَّ الباءَ زائدةٌ كما في قولِهِ تعالى { وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } [ سورة ، الآية 195 ] أو تلقونَ إليهم أخبارَ النبيِّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ بسببِ المودَّةِ التي بينكُم وبينَهُم والجملةُ إما حالٌ مِن فاعلِ لا تتخِذُوا أو صفةٌ لأولياءَ وإبرازُ الضميرِ في الصفاتِ الجاريةِ على غيرِ مَنْ هيَ لهُ إنما يُشترطُ في الإسمِ دونَ الفعلِ أو استئنافٌ { وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُمْ منَ الحق } حالٌ من فاعلِ تلقونَ وقيلَ من فاعلِ لا تتخذُوا وقُرِئَ لِمَا جاءَكُم أي كفرُوا لأجلِ ما جاءكُم بمعنى جعلِ ما هو سببُ الإيمانِ سبباً للكفرِ { يُخْرِجُونَ الرسول وإياكم } أي منْ مكةَ وهو إما حالٌ من فاعلِ كفرُوا أو استئنافٌ مبينٌ لكفرِهِم وصيغةُ المضارعِ لاستحضارِ الصُّورَةِ وقولِهِ تعالى :{ أَن تُؤْمِنُوا بالله رَبّكُمْ } تعليلٌ للإخراجِ وفيهِ تغليبُ المخاطبِ على الغائبِ والتفاتٌ منَ التكلمِ إلى الغَيبةِ للإشعارِ بما يوجبُ الإيمانَ من الأُلوهيةِ والرُّبوبيةِ { إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وابتغاء مَرْضَاتِي } متعلقٌ بلا تتخذُوا كأنَّه قيلَ لا تتولَّوا أعدائِي إن كُنتُم أوليائِي وقولُهُ تعالى : { تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بالمودة } استئنافٌ واردٌ على نهجِ العتابِ والتوبيخِ أي تُسرونَ إليهِم المودَّةَ أو الأخبارَ بسببِ المودَّةِ { وَأَنَا أَعْلَمُ } أيْ والحالُ أنِّي أعلمُ منكُم { بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ } ومُطْلعٌ رسولِي عَلى ما تسرونَ فأيُّ طائلٍ لكم في الإسرارِ وقيلَ أعلمُ مضارعٌ والباءُ مزيدةٌ ومَا موصولةٌ أو مصدريةٌ وتقديمُ الإخفاءِ على الإعلانِ قد مرَّ وجهُهُ في قولِهِ تعالى : { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ }[ سورة البقرة ، الآية 77 ]{ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ } أي الاتخاذَ { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل } فقد أخطأَ الحقَّ والصوابَ .


[780]:أخرجه البخاري في كتاب الجهاد باب (141) وفي كتاب المغازي باب (9، 46)، وفي كتاب التفسير السورة (60) باب (1) وفي كتاب الاستئذان باب (23) وفي كتاب استتابة المرتدين باب (9)؛ كما أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة حديث (161)، وأبو داود في كتاب الجهاد باب (98)؛ والترمذي في كتاب التفسير سورة (60) باب (1) وأحمد في المسند (1/79، 105، 130، 131).
[781]:عقاص: جمع مفرده عِقصة أو عقيصة وهي الضفرة من الشعر.