الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ إِن كُنتُمۡ خَرَجۡتُمۡ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعۡلَمُ بِمَآ أَخۡفَيۡتُمۡ وَمَآ أَعۡلَنتُمۡۚ وَمَن يَفۡعَلۡهُ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

مدنية ، وهي ألف وخمسمائة وعشرة أحرف ، وثلثمائة وثماني وأربعون كلمة ، وثلاثة عشر آية .

أخبرنا الجباري قال : حدّثنا ابن حيان قال : أخبرنا الفرقدي قال : حدّثنا إسماعيل بن عمرو قال : حدّثنا يوسف بن عطية قال : حدّثنا هارون بن كثير قال : حدثنا زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أُبيّ ابن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة الممتحنة كان المؤمنون والمؤمنات له شفعاء يوم القيامة ) .

{ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ } نزلت في حاطب بن أبي بلتعة ، وذلك " أن سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة الى المدينة بعد بدر بسنتين ورسول الله صلى الله عليه وسلم تجهز لفتح مكة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمسلمة جئت ؟ " قالت : لا ، قال : " أمهاجرة جئت ؟ " قالت : لا ، قال : " فما جاء بك ؟ " قالت : كنتم الأصل والعشيرة والموالي وقد ذهبت موالي واحتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني ، فقال لها : " فأين أنت من شباب مكة ؟ " وكانت مغنية نائحة .

قالت : ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر ، فحثّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها بني عبد المطلب وبني المطلب فكسوها وحملوها وأعطوها نفقة ، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى فكتب معها الى أهل مكة وأعطاها عشرة دنانير ، هذه رواية يادان عن أبن عباس ، وقال مقاتل بن حيان : أعطاها عشرة دراهم ، قالوا : وكساها برداً على أن يوصل الكتاب الى أهل مكة ، وكتب في الكتاب : ( من حاطب بن أبي بلتعة الى أهل مكة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم ) فخرجت سارة ونزل جبرائيل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما فعل ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّاً وعمّار وعمر والزبير وطلحة والمقداد بن الأسود وأبا مريد وكانوا كلهم فرساناً ، وقال لهم : " أنطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فأن بها ظعينة معها كتاب من حاطب الى المشركين فخذوه منها وخلّوا سبيلها ، وأن لم تدفعه أليكم فاضربوا عنقها " .

قال : فخرجوا حتى أدركوها في ذلك المكان الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا لها : أين الكتاب ؟ فحلفت بالله ما معها من كتاب ، فحثوها وفتشوا متاعها فلم يجدوا معها كتاباً فهمّوا بالرجوع فقال علي رضي الله عنه والله ما كذبنا ولا كذّبنا وسلّ سيفه وقال : أخرجي الكتاب وإلاّ والله لأجرّدنّك ولأضربنّ عنقك . فلما رأت الجد أخرجت من ذؤابتها قد خبأتها في شعرها ، فخلّوا سبيلها ولم يعترضوا لها ولا لمن معها ورجعوا بالكتاب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل رسول صلى الله عليه وسلم الى حاطب فأتاه ، فقال له : " هل تعرف الكتاب ؟ " قال : نعم ، قال : " فما حملك على ماصنعت " ؟ .

فقال : يا رسول الله والله ما كفرتُ منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولا أجبتهم منذ فارقتهم ، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته ، وكنت عزيزاً فيهم ، وكان أهلي بين ظهرانيهم ، فخشيت على أهلي فاردتُ أن أتخذ عندهم يداً ، وقد علمت أنَّ الله ينزل بهم بأسه ، وأن كتابي لا يغني عنهم شيئاً . فصدّقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعذره ، فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ومايدريك ياعمر لعلّ الله قد أطلع على أهل بدر فقال لهم أعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم " " .

أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن أسحاق قال : حدثنا محمد بن غالب قال : حدثنا عبد الصمد قال : حدثنا ليث عن أبي الدنير عن جابر " أن عبداً لحاطب جاء يشتكي حاطباً الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ليدخلن حاطب النار ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " كذبت ، لا يدخلها أبداً لأنه شهد بدراً والحديبية " " .

وأنزل الله سبحانه في شأن حاطب ومكاتبته المشركين { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } أي المودة ، والباء صلة ، كقول القائل : أريد أن أذهب ، وأريد بأن أذهب ، قال الله سبحانه :{ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ } [ الحج : 25 ] أي إلحاداً بظلم ، ومنه قول الشاعر :

فلما رجت بالشرب هزّ لها العصا *** شحيح له عند الازاء نهيم

أي رجت الشرب .

{ وَقَدْ } واو الحال { كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ } من مكة { أَن تُؤْمِنُواْ } أي لأن آمنتم { بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ } في الكلام تقديم وتأخير ، ونظم الآية : لا تتخذوا عدوّي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ، وقد كفروا بما جاءكم إن كنتم خرجتم { جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ } .