قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول } ، يقول : أجيبوهما بالطاعة .
قوله تعالى : { إذا دعاكم } ، الرسول صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { لما يحييكم } ، أي : إلى ما يحييكم ، قال السدي : هو الإيمان ، لأن الكافر ميت فيحيا بالإيمان ، وقال قتادة : هو القرآن فيه الحياة ، وبه النجاة والعصمة في الدارين ، وقال مجاهد : هو الحق ، وقال ابن إسحاق : هو الجهاد أعزكم الله به بعد الذل ، وقال القتيبي : بل الشهادة ، قال الله تعالى في الشهداء { بل أحياء عند ربهم يرزقون } [ آل عمران : 169 ] وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على أبي بن كعب ، رضي الله عنه ، وهو يصلي ، فدعاه فعجل أبي في صلاته ، ثم جاء ، فقال رسول الله : ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك ؟ قال : كنت في الصلاة ، قال : أليس يقول الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } ؟ فقال :لا جرم يا رسول الله ، لا تدعوني إلا أجبت وإن كنت مصلياً .
قوله تعالى : { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } ، قال سعيد بن جبير وعطاء : يحول بين المؤمن والكفر ، وبين الكفر والإيمان . وقال الضحاك : يحول بين الكافر والطاعة ، ويحول بين المؤمن والمعصية . وقال مجاهد : يحول بين المرء وقلبه فلا يعقل ولا يدري ما يعمل ، وقال السدي : يحول بين الإنسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن ، ولا أن يكفر إلا بإذنه . وقيل : هو أن القوم لما دعوا إلى القتال في حالة الضعف ساءت ظنونهم ، واختلجت صدورهم ، فقيل لهم : قاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ، فيبدل الخوف أمناً ، والجبن جرأةً وشجاعة .
قوله تعالى : { وأنه إليه تحشرون } ، فيجزيكم بأعمالكم .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أحمد بن الحسن الحيري ، أنا حاطب بن أحمد الطوسي ، أنا محمد بن حماد ، ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ، قالوا : يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا ؟ قال : القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء .
{ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول } بالطاعة . { إذا دعاكم } وحد الضمير فيه لما سبق ولان دعوة الله تسمع من الرسول . وروي أنه عليه الصلاة والسلام مر على أبي وهو يصلي فدعاه فعجل في صلاته ثم جاء فقال : ما منعك عن إجابتي قال : كنت أصلي ، قال : " ألم تخبر فيما أوحي إلي " { استجيبوا لله وللرسول } . واختلف فيه فقيل هذا لأن إجابته لا تقطع الصلاة فإن الصلاة أيضا إجابة . وقيل لأن دعاءه كان لأمر لا يحتمل التأخير وللمصلي أن يقطع الصلاة لمثله وظاهر الحديث يناسب الأول . { لما يحييكم } من العلوم الدينية فإنها حياة القلب والجهل موته . قال :
لا تعجبن الجهول حلّته *** فذاك ميتٌ وثوبه كفن
أو مما يورثكم الحياة الأبدية في النعيم الدائم من العقائد والأعمال ، أو من الجهاد فإنه سبب بقائكم إذ لو تركوه لغلبهم العدو وقتلهم ، أو الشهادة لقوله تعالى : { بل أحياء عند ربهم يرزقون } . { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } تمثيل لغاية قربه من العبد كقوله تعالى : { ونحن اقرب إليه من حبل الوريد } وتنبيه على أنه مطلع على مكنونات القلوب مما عسى يغفل عنه صاحبها ، أو حث على المبادرة إلى إخلاص القلوب وتصفيتها قبل أن يحول الله بينه وبين قلبه بالموت أو غيره ، أو تصوير وتخييل لتملكه على العبد قلبه فيفسخ عزائمه ويغير مقاصده ويحول بينه وبين الكفر إن أراد سعادته ، وبينه وبين الإيمان إن قضى شقاوته . وقرئ " بين المرِّ " بالتشديد على حذف الهمزة وإلقاء حركتها على الراء وإجراء الوصل الوقف على لغة من يشدد فيه . { وأنه إليه تحشرون } فيجازيكم بأعمالكم .
{ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم }
إعادة لمضمون قوله : { يأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله ورسوله } [ الأنفال : 20 ] الذي هو بمنزلة النتيجة من الدليل أو مقصد الخطبة من مقدمتها كما تقدم هنالك .
فافتتاح السورة كان بالأمر بالطاعة والتقوى ، ثم بيان أن حق المؤمنين الكُمّل أن يخافوا الله ويطيعوه ويمتثلوا أمره وإن كانوا كارهين ، وضرب لهم مثلاً بكَراهتهم الخروج إلى بدر ، ثم بكراهتهم لقاء النفير وأوقفهم على ما اجتنوه من بركات الامتثال وكيف أيدهم الله بنصره ونصب لهم عليه أمارة الوعد بإمداد الملائكة ؛ لتطمئن قلوبهم بالنصر وما لطف بهم من الأحوال ، وجعل ذلك كله إقناعاً لهم بوجوب الثبات في وجه المشركين عند الزحف ثم عاد إلى الأمر بالطاعة وحذرهم من أحوال الذين يقولون سمعنا وهم لا يسمعون ، وأعقب ذلك بالأمر بالاستجابة للرسول إذا دعاهم إلى شيء ، فإن في دعوته إياهم إحياء لنفوسهم وأعلمهم أن الله يكسب قلوبهم بتلك الاستجابة قوى قدسية .
واختير في تعريفهم ، عند النداء ، وصفُ الإيمان ليوميء إلى التعليل كما تقدم في الآيات من قبل ، أي أن الإيمان هو الذي يقتضي أن يثقوا بعناية الله بهم فيمتثلوا أمره إذا دعاهم .
والاستجابة : الإجابة ، فالسين والتاء فيها للتأكيد ، وقد غلب استعمال الاستجابة في إجابة طلب معيّن أو في الأعم ، فأما الإجابة فهي إجابة لنداء وغلب أن يُعدى باللام إذا اقترن بالسين والتاء ، وتقدم ذلك عند قوله تعالى : { فاستجاب لهم ربهم } في [ آل عمران : 195 ] .
وإعادة حرف بعد واو العطف في قوله : { وللرسول } للإشارة إلى استقلال المجرور بالتعلق بفعل الاستجابة ، تنبيهاً على أن استجابة الرسول صلى الله عليه وسلم أعم من استجابة الله لأن الاستجابة لله لا تكون إلاّ بمعنى المجاز وهو الطاعة بخلاف الاستجابة للرسول عليه الصلاة والسلام فإنها بالمعنى الأعم الشامل للحقيقة وهو استجابة ندائِه ، وللمجاز وهو الطاعة فأريد أمرهم بالاستجابة للرسول بالمعنيين كلما صدرت منه دعوة تقتضي أحدهما .
ألا ترى أنه لم يُعَد ذكر اللام في الموقع الذي كانت فيه الاستجابة لله والرسول صلى الله عليه وسلم بمعنى واحد ، وهو الطاعة ، وذلك قوله تعالى : { الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح } [ آل عمران : 172 ] فإنها الطاعة للأمر باللحاق بجيش قريش في حمراء الأسد بعد الانصراف من أُحد ، فهي استجابة لدعوة معينة .
وإفراد ضمير { دعاكم } لأن الدعاء من فعل الرسول مباشرة ، كما أفرد الضمير في قوله : { ولا تَولوا عنه } [ الأنفال : 20 ] وقد تقدم آنفاً .
وليس قوله : { إذا دعاكم لما يحييكم } قيْداً للأمر باستجابة ، ولكنه تنبيه على أن دعاءه إياهم لا يكون إلاّ إلى ما فيه خير لهم وإحياء لأنفسهم .
واللام في { لما يحييكم } لام التعليل أي دعاكم لأجل ما هو سبب حياتكم الروحية .
والإحياء تكوين الحياة في الجسد ، والحياة قوة بها يكون الإدراك والتحرك بالاختيار ويُستعار الإحياء تبعاً لاستعارة الحياة للصفة أو القوة التي بها كمال موصوفها فيما يراد منه مثل حياة الأرض بالإنبات وحياة العقل بالعلم وسداد الرأي ، وضدها الموت في المعاني الحقيقية والمجازية ، قال تعالى : { أمواتٌ غير أحياء } [ النحل : 21 ] { أوَ من كان ميتاً فأحييناه } وقد تقدم في سورة [ الأنعام : 122 ] .
والإحياء والإماتة تكوين الحياة والموت . وتستعار الحياة والإحياء لبقاء الحياة واستبقائها بدفع العوادي عنها { ولكم في القصاص حياة } [ البقرة : 179 ] { ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً } [ المائدة : 32 ] .
والإحياء هذا مستعار لما يشبه إحياء الميت ، وهو إعطاء الإنسان ما به كمال الإنسان ، فيعم كل ما به ذلك الكمالُ من إنارة العقول بالاعتقاد الصحيح والخُلق الكريم ، والدلالة على الأعمال الصالحة وإصلاح الفرد والمجتمع ، وما يتقوم به ذلك من الخلال الشريفة العظيمة ، فالشجاعة حياة للنفس ، والاستقلال حياة ، والحرية حياة ، واستقامة أحوال العيش حياة .
ولما كان دعاءُ الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخلوا عن إفادة شيء من معاني هذه الحياة أمَر الله الأمة بالاستجابة له ، فالآية تقتضي الأمر بالامتثال لما يدعو إليه الرسول سواء دعَا حقيقة بطلب القدوم ، أم طلَب عمَلاً من الأعمال ، فلذلك لم يكن قيدُ { لما يحييكم } مقصوداً لتقييد الدعوة ببعض الأحوال بل هو قيد كاشف ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدعوهم إلاّ وفي حضورهم لديْه حياةٌ لهم ، ويكشف عن هذا المعنى في قيد { لما يحييكم } ما رواه أهل الصحيح عن أبي سعيد بننِ المُعَلى ، قال : كنتُ أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه ثم أتيتُه فقلت يا رسول الله إني كنتُ أصلي فقال : ألم يقل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم } ثم قال : ألا أعلمك صورة الحديث في فضل فاتحة الكتاب ، فوقْفُه على قوله : { إذا دعاكم } يدل على أن { لِما يحييكم } قيدٌ كاشف وفي « جامع الترمذي » عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أبيّ بن كعب فقال : يا أبيّ وهو يصلي فالتفت أبَيّ ولم يجبه وصلى أبيّ فخفف ثم انصرف إلى رسول الله فقال : السلامُ عليك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليك السلام ما منَعك يا أبيّ أن تجيبني إذْ دعوتك فقال : يا رسول الله إني كنت في الصلاة فقال : أفلم تجد فيما أوحي إلي أن استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم قال : بَلَى ولا أعود إن شاء الله » الحديثَ بمثل حديث أبي سعيد بن المعلى قال ابن عطية : وهو مروي أيضاً من طريق مالك بن أنس ( يريد حديث أبيّ بن كعب وهو عند مالك حضر منه عند الترمذي ) قال ابن عطية وروي أنه وقع نحوُه مع حذيفة بن اليمان في غزوة الخندق ، فتكون عدة قضايا متماثلة ولا شك أن القصد منها التنبيهُ على هذه الخصوصية لدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم .
{ واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون }
مقتضى ارتباط نظم الكلام يوجب أن يكون مضمونُ هذه الجملة مرتبطاً بمضمون الجملة التي قبلها فيكون عطفها عليها عطف التكملة على ما تُكمّلُه ، والجملتان مجعولتان آية واحدة في المصحف .
وافتتحت الجملة باعلموا ؛ للاهتمام بما تتضمنه وحث المخاطبين على التأمل فيما بعدَه ، وذلك من أساليب الكلام البليغ أن يفتتح بعض الجمل المشتملة على خبر أوْ طلببِ فهم باعْلم أو تَعَلمْ لَفتاً لذهن المخاطب .
وفيه تعريض غالباً بغفلة المخاطب عن أمر مهم فمن المعروف أن المخبر أو الطالب ما يريد إلاّ علمَ المخاطب فالتصريح بالفعل الدال على طلب العلم مقصود للاهتمام ، قال تعالى : { اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفورٌ رحيمٌ } [ المائدة : 196 ] وقال { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعبٌ ولهوٌ } [ الحديد : 20 ] الآية وقال في الآية ، بعد هذه { واعلموا أن الله شديد العقاب } [ الأنفال : 25 ] وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي مسعود الأنصاري وقد رآه يضرب عبداً له « أعلم أبَا مسعود اعْلَم أبا مسعود : أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام » وقد يفتتحون بتَعَلّم أو تَعَلَمَنَّ قال زهير :
قلتُ تعلَّمْ أن للصيد غرة *** وإلاّ تُضَيِّعْها فإِنك قاتلُه
تَعلّمْ شفاء النفس قَهرُ عدوها *** فبالغْ بلطف في التحيُّل والمكر
وإلاّ فاعلموا أنّا وأنتُم *** بُغاةٌ ما بَقينا في شقاق
و { أن } بعد هذا الفعل مفتوحة الهمزة حيثما وقعت ، والمصدر المؤول يسُدّ مسدّ مفعولي عَلم مع إفادة ( أن ) التأكيد .
والحَوْل ، ويقال الحُؤُل : منع شيء اتصالاً بين شيئين أو أشياء قال تعالى : { وحالَ بينهما المَوج } [ هود : 43 ] .
وإسناد الحول إلى الله مجاز عقلي لأن الله منزه عن المكان ، والمعنى يحولُ شأنٌ من شؤون صفاتِه ، وهو تعلق صفة العلم بالإطلاع على ما يضمره المرء أو تعلق صفة القدرة بتنفيذ ما عزم عليه المرءُ أو بصرفه عن فعله ، وليس المرادُ بالقلب هنا البضعة الصنوبرية المستقرة في باطن الصدر ، وهي الآلة التي تدفع الدم إلى عروق الجسم ، بل المراد عقل المرء وعزْمه ، وهو إطلاق شائع في العربية .
فلما كان مضمون هذه الجملة تكملة لمضمون الجملة التي قبلها يجوز أن يكون المعنى : واعلموا أن علم الله يخلُص بين المرء وعقله خُلوص الحائِلِ بين شيئين فإنه يكون شديد الاتصال بكليهما .
والمراد ب { المرء } عمله وتصرفاته الجسمانية .
فالمعنى : أن الله يعلم عزم المرء ونِيّته قبل أن تنفعل بعزمه جوارحُه ، فشبه علم الله بذلك بالحائِل بين شيئين في كونه أشد اتصالاً بالمحول عنه من أقرب الأشياء إليه على نحو قوله تعالى : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } .
وجيء بصيغة المضارع { يحول } للدلالة على أن ذلك يتجدد ويستمر ، وهذا في معنى قوله تعالى : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } [ ق : 16 ] قاله قتادة .
والمقصود من هذا تحذير المؤمنين من كل خاطر يخطر في النفوس : من التراخي في الاستجابة إلى دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم والتنصل منها ، أو التستر في مخالفته ، وهو معنى قوله : { واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه } [ البقرة : 235 ] .
وبهذا يظهر وقع قوله : { وأنه إليه تحشرون } عقبه فكان ما قبله تحذيراً وكان هو تهديداً وفي « الكشاف » ، و« ابن عطية » : قيل إن المراد الحث على المبادرة بالامتثال وعدم إرجاء ذلك إلى وقت آخر خشية أن تعترض المرءَ موانع من تنفيذ عزمه على الطاعة أي فيكون الكلام على حذف مضاف تقديره : إن أجَل الله يحول بين المرء وقلبه ، أي بين عمله وعزمه قال تعالى : { وأنْفقوا ممّا رزقناكم من قبل أن يأتي أحدَكم الموتُ } [ المنافقون : 10 ] الآية .
وهنالك أقوال أخرى للمفسرين يحتملها اللفظ ولا يساعد عليها ارتباط الكلام والذي حملنا على تفسير الآية بهذا دون ما عداه أن ليس في جملة : { أن الله يحول بين المرء وقلبه } إلاّ تعلق شأن من شؤون الله بالمرء وقلبه أي جثمانه وعقله دون شيء آخر خارج عنهما ، مثل دعوة الإيمان ودعوة الكفر ، وأن كلمة { بين } تقتضي شيئين فما يكون تحول إلاّ إلى أحدهما لا إلى أمر آخر خارج عنهما كالطبائِع ، فإن ذلك تحويل وليس حُؤلاً .
وجملة : { وأنه إليه تحشرون } عطف على { أن الله يحول بين المرء وقلبه } والضمير الواقع اسم ( أن ) ضمير اسم الجلالة ، وليس ضمير الشأن لعدم مناسبته ، ولإجراء أسلوب الكلام على أسلوب قوله : { أن الله يحول } الخ .
وتقديم متعلق { تُحشرون } عليه لإفادة الاختصاص أي : إليه إلى غيره تحشرون ، وهذا الاختصاص للكناية عن انعدام ملجإٍ أو مَخْبَإٍ تلتجئون إليه من الحشر إلى الله فكني عن انتفاء المكان بانتفاء محشورٍ إليْه غير الله بأبدع أسلوب ، وليس الاختصاص لرد اعتقادٍ ، لأن المخاطبين بذلك هم المؤمنون ، فلا مقتضى لقصر الحشر على الكون إلى الله بالنسبة إليهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"إذَا دَعاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ"؛
فقال بعضهم: معناه: استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم للإيمان... أحياهم بعد موتهم، بعد كفرهم.
وقال آخرون: معناه: إذا دعاكم إلى ما في القرآن...فيه الحياة والعفة والعصمة في الدنيا والاَخرة.
وقال آخرون: معناه: إذا دعاكم إلى الحرب وجهاد العدوّ...أي: للحرب الذي أعزّكم الله بها بعد الذلّ، وقوّاكم بعد الضعف، ومنعكم بها من عدوّكم بعد القهر منهم لكم.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معناه: استجيبوا لله وللرسول بالطاعة إذا دعاكم الرسول لِما يحييكم من الحقّ. وذلك أن ذلك إذا كان معناه كان داخلاً فيه الأمر بإجابتهم لقتال العدوّ والجهاد، والإجابة إذا دعاكم إلى حكم القرآن، وفي الإجابة إلى كلّ ذلك حياة المجيب؛ أما في الدنيا، فيقال: الذكر الجميل، وذلك له فيه حياة؛ وأما في الآخرة، فحياة الأبد في الجنان والخلود فيها.
وأما قول من قال: معناه الإسلام، فقول لا معنى له لأن الله قد وصفهم بالإيمان بقوله: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وللرّسُولِ إذَا دَعاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ "فلا وجه لأن يقال للمؤمن استجب لله وللرسول إذا دعاك إلى الإسلام والإيمان...
"وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وأنّهُ إلَيْه تُحْشَرُونَ" اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معناه: يحول بين الكافر والإيمان وبين المؤمن والكفر... عن سعيد بن جبير: "يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ" يحول بين المؤمن والمعاصي، وبين الكافر والإيمان...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: يحول بين المرء وعقله، فلا يدري ما يعمل... وقال آخرون: معناه يحول بين المرء وقلبه: أن يقدر على إيمان أو كفر إلاّ بإذنه...
وقال آخرون: معنى ذلك أنه قريب من قلبه لا يخفى عليه شيء أظهره أو أسرّه... وأولى الأقوال بالصواب عندي في ذلك أن يقال: إن ذلك خبر من الله عزّ وجلّ أنه أملك لقلوب عباده منهم، وإنه يحول بينهم وبينها إذا شاء، حتى لا يقدر ذو قلب أن يدرك به شيئا من إيمان أو كفر، أو أن يعي به شيئا، أو أن يفهم إلاّ بإذنه ومشيئته. وذلك أن الحول بين الشيء والشيء إنما هو الحجز بينهما، وإذا حجز جلّ ثناؤه بين عبد وقلبه في شيء أن يدركه أو يفهمه، لم يكن للعبد إلى إدراك ما قد منع الله قلبه إدراكه سبيل، وإذا كان ذلك معناه، دخل في ذلك قول من قال: يحول بين المؤمن والكفر وبين الكافر والإيمان، وقول من قال: يحول بينه وبين عقله، وقول من قال: يحول بينه وبين قلبه حتى لا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلاّ بإذنه لأن الله عزّ وجلّ إذا حال بين عبد وقلبه، لم يفهم العبد بقلبه الذي قد حيل بينه وبينه ما منع إدراكه به على ما بينت. غير أنه ينبغي أن يقال: إن الله عمّ بقوله: "وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ" الخبر عن أنه يحول بين العبد وقلبه، ولم يخصص من المعاني التي ذكرنا شيئا دون شيء، والكلام محتمل كلّ هذه المعاني، فالخبر على العموم حتى يخصه ما يحب التسليم له.
وأما قوله: "وأنّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ" فإن معناه: واعلموا أيها المؤمنون أيضا مع العلم بأن الله يحول بين المرء وقلبه، أن الله الذي يقدر على قلوبكم، وهو أملك بها منكم، إليه مصيركم ومرجعكم في القيامة، فيوفيكم جزاء أعمالكم، المحسن منكم بإحسانه والمسيء بإساءته، فاتقوه وراقبوه فيما أمركم ونهاكم هو ورسوله أن تضيعوه، وأن لا تستجيبوا لرسوله إذا دعاكم لما يحييكم، فيوجب ذلك سخطه، وتستحقوا به أليم عذابه حين تحشرون إليه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) قال بعضهم: هذه الآية صلة قوله: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون) [الأنفال: 5] يقول، والله أعلم (استجيبوا لله وللرسول) إلى ما يدعوكم، وإن كانت أنفسكم تكره الخروج لذلك لقلة عددكم وضعف أبدانكم وكثرة عدد العدو وقوتهم. وقوله تعالى: (إذا دعاكم لما يحييكم) بالذكر والشرف والثناء الحسن في الدنيا والحياة في الآخرة اللذيذة الدائمة، أي إن متم، وهلكتم في ما يدعوكم إليه، يكن لكم في الآخرة حياة الأبد...
وقوله تعالى: (واعلموا أن الله يحول ين المرء وقلبه) أمكن أن يخرج هذا على الأول؛ أي اعلموا (أن الله يحول بين المرء وقلبه) يجعل القوي ضعيفا والعزيز ذليلا والضعيف قويا والذليل عزيزا والشجاع جبانا والخائف أمينا والآمن خائفا. فأجيبوا الرسول بالخروج للجهاد وإن كنتم تخافون لضعفكم وقوتهم. ويحتمل في جملة المؤمنين: أن من استجاب لله وللرسول إذا دعاه يجعل قلبه هو الغالب على نفسه والحائل بينه وبين ما تدعو إليه [النفس، وإذا ترك الإجابة يجعل نفسه هي الحائلة بينه وبين ما يدعو إليه، والداعية إلى ذلك. (وأنه إليه تحشرون)...
. وقوله تعالى: (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) يخرَّج على وجهين. أحدهما: يستعجل التوبة قبل أن ينزل به الموت، كأنه يقول: أجيبوا الله والرسول قبل أن يحال بين المرء وبين التوبة بالموت. والثاني: (يحول بين المرء وقلبه) بالأعمال التي يكتسبها، ينشئ بالفعل الذي يفعله طبع قلبه وختمه، وينشئ ظلمة تحول بينه وبين ما يقصده، ويدعى إليه، والله أعلم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
...المراد بالاستجابة: الطاعة والامتثال. وبالدعوة: البعث والتحريض...
{لِمَا يُحْيِيكُمْ} من علوم الديانات والشرائع، لأن العلم حياة، كما أنّ الجهل موت. وقيل لمجاهدة الكفار، لأنهم لو رفضوها لغلبوهم وقتلوهم، كقوله: {وَلَكُمْ فِي القصاص حياة} [البقرة: 179] وقيل للشهادة، لقوله: {بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ} [آل عمران: 169].
{واعلموا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ} يعني أنه يميته فتفوته الفرصة التي هو واجدها وهي التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله ورده سليماً كما يريده الله، فاغتنموا هذه الفرصة، وأخلصوا قلوبكم لطاعة الله ورسوله {واعلموا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فيثيبكم على حسب سلامة القلوب وإخلاص الطاعة. وقيل: معناه إنّ الله قد يملك على العبد قلبه فيفسخ عزائمه، ويغير نياته ومقاصده، ويبدله بالخوف أمناً وبالأمن خوفاً وبالذكر نسياناً، وبالنسيان ذكراً، وما أشبه ذلك مما هو جائز على الله تعالى... وقيل معناه: أنه يطلع على كل ما يخطره المرء بباله، لا يخفي عليه شيء من ضمائره، فكأنه بينه وبين قلبه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول} الآية، هذا الخطاب للمؤمنين المصدقين بلا خلاف، و {استجيبوا} بمعنى أجيبوا..
وقوله {لما يحييكم} قال مجاهد والجمهور: المعنى للطاعة وما تضمنه القرآن من أوامر ونواه، وهذا إحياء مستعار لأنه من موت الكفر والجهل، وقيل الإسلام وهذا نحو الأول ويضعف من جهة أن من آمن لا يقال له ادخل في الإسلام، وقيل {لما يحييكم} معناه للحرب وجهاد العدو وهو يحي بالعزة والغلبة والظفر، فسمي ذلك حياة كما تقول حييت حال فلان إذا ارتفعت، ويحيي أيضاً كما يحيي الإسلام والطاعة وغير ذلك بأنه يؤدي إلى الحياة الدائمة في الآخرة، وقال النقاش: المراد إذا دعاكم للشهادة فهذه صلة حياة الدنيا بحياة الآخرة. وقوله {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} يحتمل وجوهاً، ومنها أنه لما أمرهم بالاستجابة في الطاعة حضهم على المبادرة والاستعجال فقال: {واعلموا أن الله يحول بين المراء وقلبه} بالموت والقبض أي فبادروا بالطاعات، ويلتئم مع هذا التأويل قوله {وأنه إليه تحشرون}، أي فبادروا الطاعات وتزودوها ليوم الحشر. ومنها أن يقصد بقوله {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} إعلامهم أن قدرة الله وإحاطته وعلمه والجة بين المرء وقلبه حاصلة هناك حائلة بينه وبين قلبه... فكأن هذا المعنى يحض على المراقبة والخوف لله المطلع على الضمائر، ويشبه على هذا التأويل هذا المعنى قوله تعالى: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد}...
ويحتمل أن يريد تخويفهم إن لم يمتثلوا الطاعات ويستجيبوا لله وللرسول بما حل بالكفار الذين أرادهم بقوله {ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون}، لأن حتمه عليهم بأنهم لو سمعوا وفهموا لم ينتفعوا يقتضي أنه قد كان حال بينهم وبين قلوبهم، فكأنه قال للمؤمنين في هذه الأخرى استجيبوا لله وللرسول ولا تأمنوا إن تفعلوا أن ينزل بكم ما نزل بالكفار من الحول بينهم وبين قلوبهم، فنبه على ما جرى على الكفار بأبلغ عبارة وأعلقها بالنفس، ومنها أن يكون المعنى ترجية لهم بأن الله يبدل الخوف الذي في قلوبهم من كثرة العدو فيجعله جرأة وقوة وبضد ذلك الكفار فإن الله هو مقلّب القلوب كما كان قسم النبي صلى الله عليه وسلم
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
أحدها: أن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له، وإن كانت له حياة بهيمية، مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات، فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا، فهؤلاء هم الأحياء، وإن ماتوا وغيرهم أموات وان كانوا أحياء الأبدان، ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن كان ما دعا إليه ففيه الحياة، فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول صلى الله عليه وسلم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان ما مضى من نكال الكافرين مسبباً عن عدم الاستجابة، أمر المؤمنين بها تحذيراً من الكون مع الكفرة في مثل حالهم فيحشروا معهم في مآلهم فقال: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان بألسنتهم {استجيبوا} أي صدقوا دعواكم ذلك بإيجاد الإجابة إيجاد من هو في غاية الرغبة فيها {لله} أي واجعلوا إجابتكم هذه خاصة للذي له جميع صفات الكمال {وللرسول} الذي أرسله إلى جميع الخلق. ولما كان صلى الله عليه وسلم يدعوهم لا محالة لأن الله تعالى أمره بدعائهم، وكان لا يدعوهم إلا إلى ما أمره الله به، وكان سبحانه لا يدعو إلا إلى صلاح ورشد؛ عبر بأداة التحقيق ووحد الضمير وشوق بإثمار الحياة فقال: {إذا دعاكم} أي الرسول بالندب والتحريض. ولما كان اجتناء ثمرة الطاعة في غاية القرب، نبه على ذلك باللام دون "إلى "فقال: {لما يحييكم} أي ينقلكم بعز الإيمان والعلم عن حال الكفرة من الصمم والبكم وعدم العقل الذي هو الموت المعنوي إلى الحياة المعنوية، ولا يعوقكم عن الاستجابة في أمر من الأمور أن تقولوا: إنا استجبنا إلى الإيمان وكثير من شرائعه، فلولا أن ربنا علم فينا الخير ما أسمعنا، فنحن ناجون (...
) ولما كان الإنسان إذا كان على حالة يستعبد جداً أن يصبر على غيرها، قال تعالى مرغباً مرهباً: {واعلموا أن الله} أي الذي له جميع العظمة {يحول} أي بشمول علمه وكمال قدرته {بين المرء وقلبه} فيرده إلى ما علم منه فيصير فيما كشفه الحال كافراً معانداً بعد أن كان في ظاهر الحال مؤمناً مستسلماً فيكون ممن علم الله أنه لا خير فيه وقسره على الإجابة فلم يستمر عليها، ويرد الكافر بعد عناده إلى الإيمان بغاية ما يرى من سهولة قياده، فكنى سبحانه بشدة القرب اللازم للحيلولة عن شدة الاقتدار على تبديل العزائم والمرادات، وهو تحريض على المبادرة إلى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ما دامت القلوب مقبلة على ذلك خوفاً من تغييرها. ولما خوفهم عاقبة الحال، حذرهم شأن المآل فقال: {وأنه} أي واعلموا أنه تعالى {إليه تحشرون*} لا إلى غيره، فيحشر المستجيبين في زمرة المؤمنين، والمعرضين في عداد الكافرين وإن أبوا حكماً واحداً، لأن الدين لا يتجزأ،...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
يقال دعاه فأجابه واستجابه واستجاب له، وكثر المتعدي في التنزيل ويقول الراغب إن أصل الاستجابة التهيؤ والاستعداد للإجابة فحل محلها، أقول الأقرب إلى الفهم قلب هذا وعكسه وهو أن الاستجابة هي الإجابة بعناية واستعداد فتكون زيادة السين والتاء للمبالغة، وهو يقرب مما قالوه في معانيهما من التكلف والتحري أو هو بعينه إلا أنه لا يعبر به فيما يسند إلى الله تعالى كقوله: {فاستجاب لهم ربهم} [آل عمران: 195]. فقوله: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} معناه إذا علمتم ما فرضنا عليكم من الطاعة، وشأن سماع التفقه من الهداية، وقد دعاكم الرسول بالتبليغ عن الله تعالى لما يحييكم، فأجيبوا الدعوة بعناية وهمة، وعزيمة وقوة، فهو كقوله تعالى: {خذوا ما آتيناكم بقوة} [البقرة: 93] والمراد بالحياة هنا حياة العلم بالله تعالى وسننه في خلقه، وأحكام شرعه، والحكمة والفضيلة والأعمال الصالحة التي تكمل بها الفطرة الإنسانية في الدنيا وتستعد للحياة الأبدية في الآخرة، وقيل المراد بالحياة هنا الجهاد في سبيل الله لأنه سبب القوة والعزة والسلطان- والصواب أن الجهاد يدخل فيما ذكرنا وليس هو الحياة المطلوبة به وهو وسيلة لتحققها وسياج لها بعد حصولها، وقيل هي الإيمان والإسلام، وإنما يصح باعتبار ما كان يتجدد من الأحكام، وثمرته في القلوب والأعمال، وبما في الاستجابة من معنى المبالغة في الإجابة، وإلا فالخطاب للمؤمنين. وقيل هي القرآن ولاشك أنه ينبوعها الأعظم، الهادي إلى سبيلها الأقوم مع بيانه من سنة الرسول وهديه الذي أمرنا بأن يكون لنا فيه أسوة حسنة، ويدل عليه اقتران طاعته بطاعة الله تعالى... {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون} هذا تنبيه لأمرين عظيمين أمرنا الله أن نعلمهما علما يقينيا إذعانيا لما لهما من الشأن في مقام الوصية بالاستجابة لدعوة الحياة الإنسانية العليا التي فيها سعادة الدنيا والآخرة. الأول: أن من سنة الله في البشر الحيلولة بين المرء وبين قلبه، الذي هو مركز الوجدان والإدراك ذي السلطان على إرادته وعمله، وهذا أخوف ما يخافه المتقي على نفسه، إذا غفل عنها وفرط في جنب ربه، كما أنه أرجى ما يرجوه المسرف عليها إذا لم ييأس من روح الله فيها، فهذه الجملة أعجب جمل القرآن ولعلها أبلغها في التعبير، وأجمعها لحقائق علم النفس البشرية، وعلم الصفات الربانية، وعلم التربية الدينية، التي تعرف دقائقها بما تثمره من الخوف والرجاء، فبينما زيد يسير على سبيل الهدى، ويتقي بنيات طرق الضلالة الموصلة إلى مهاوي الردى، إذا بقلبه قد تقلب بعصوف هوى جديد، يميل به عن الصراط المستقيم، من شبهة تزعزع الاعتقاد، أو شهوة يغلب بها الغي على الرشاد، فيطيع هواه، ويتخذه آلهة من دون الله، {أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا} على أنه فيه مختار، فلا جبر ولا اضطرار. ويقابل هذا من الحيلولة ما حكى بعضهم عن نفسه، أنه كان منهمكا في شهواته ولهوه، تاركا لهداه وطاعة ربه، فنزل يوما في زورق مع خلان له في نهر دجلة للتنزه ومعهم النبيذ والمعازف، فبينما هم يعزفون ويشربون، إذ التقوا بزورق آخر فيه تال للقرآن يرتل سورة: {إذا الشمس كورت} [التكوير: 1] فوقعت تلاوته من نفسه موقع التأثير والعظة، فاستمع له وأنصت، حتى إذا بلغ قوله تعالى: {وإذا الصحف نشرت} [التكوير: 10] امتلأ قلبه خشية من الله، وتدبرا لاطلاعه على صحيفة عمله يوم يلقاه، فأخذ العود من العازف فكسره وألقاه في دجلة، وثنى بنبذ قناني النبيذ وكؤوسه فيها، وصار يردّد الآية، وعاد إلى منزله تائبا من كل معصية، مجتهدا في كل ما يستطيع من طاعة، فتذكير الله تعالى إيانا بهذا الشأن من شؤون الإنسان، وهذه السنة القلبية من سنن الله تعالى في الإرادات والأعمال، وأمره إيانا بأن نعلمها علم إيقان وإذعان، يفيدنا فائدتين لا يكمل بدونهما الإيمان، وهما أن لا يأمن الطائع المشمر من مكر الله فيغتر بطاعته ويعجب بنفسه، وأن لا ييأس العاصي والمقصر في الطاعة من روح الله، فيسترسل في اتباع هواه، حتى تحيط به خطاياه. ومن لم يأمن عقاب الله، ولم ييأس من رحمة الله، يكون جديرا بأن يراقب قلبه، ويحاسب نفسه على خواطره، ويعاقب نفسه على هفواته، لتظل على صراط العدل المستقيم، متجنبة الإفراط والتفريط، ويتحرى أن يكون دائما بين خوف يحجزه عن المعاصي ورجاء يحمله على الطاعات، ويساعدنا على ذلك.
الأمر الثاني: وهو تذكر حشرنا إليه عز وجل ومحاسبته إيانا على أعمالنا القلبية والبدنية، ومجازاته إيانا عليها إما بالعذاب الأليم، وإما بالنعيم المقيم، وهذا منه مقتضى الفضل، وذلك أثر العدل. ومما يؤيد ما فهمناه في هذا المقام مقام حرمان الراسخين في الكفر من سماع الفقه والهدى، والحيلولة بين المرء وقلبه أن يعصي الهوى، {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضلّه اللّه على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد اللّه أفلا تذكّرون} [الجاثية: 23] فهي صريحة في أن من هذا حاله ليس مجبورا عليه وأن الله لم يحرمه الهدى بإعجاز، عنه وهو يؤثره ويفضله، أو بإكراه على اتباع الهوى وهو كاره له، فإنه أسند إليه اتخاذ هواه إلهه، وقد قال تعالى لنبيه داود عليه السلام {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} [ص: 26] الآية. فهذا نص في أن اتباع الهوى سبب للضلال عن سبيل الله، فقوله في آية الجاثية {وأضله الله على علم} [الجاثية: 23] ليس معناه أنه تعالى خلق فيه الضلال استقلالا كما يدعي بعض المتكلمين بل هو داخل في سنته تعالى في الأسباب والمسببات ويؤيده إثبات كون ضلاله على علم وهو أنه متعمد لاتباع الهوى، مؤثرا له على الهدى، والله تعالى يسند الأمور إلى أسبابها تارة وإليه تعالى تارة من حيث إنه خالق كل شيء وواضع سنن الأسباب والمسببات. ومن الأسباب ما جعله من أفعال المخلوقات الاختيارية على علم، وما جعله بأسباب لا يعلم للخلق اختيار فيها ولا علم، وكل من القسمين يسند إلى سببه تارة وإلى رب الأسباب تارة والجهة مختلفة معروفة، ويختار هذا أو ذاك في البيان بحسب سياق الكلام كقوله تعالى في الحرث {أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أن نحن الزارعون} [الواقعة: 63، 64] فهل يقول عاقل إن الفلاح لا فعل له ولا اختيار في زرعه، وأن الله يخلقه له بدون إرادته ولا فعله، أو أن فعله وتركه في أرضه سواء، وتلقيحه لنخله وعدمه سيان؟ وجملة القول إن من سننه تعالى في البشر أن من يتبع هواه في أعماله ويستمر على ذلك ويدمنه الزمن الطويل تضعف إرادته في هواه، حتى تذوب وتفنى فيه، فلا تعود تؤثر فيه المواعظ القولية، ولا العبر المبصرة ولا المعقولة، وهذه الحالة يعبر عنها بالختم والرين والطبع على القلب، وبالصمم والعمى والبكم كما تقدم آنفا، وسبق مثله في تفسير سورة البقرة وغيرها. وأمثال هذه الأمثال المضروبة لهذه الحالة قد ضل بها الجبرية غافلين عن كونها عاقبة طبيعية لإدمان تلك الأعمال الاختيارية، كالخمار الذي يعتري مدمن الخمر، فيشعر بفتور وألم عصبي لا يسكن إلا بالعودة إلى الشرب، على أن هذه الآية علمتنا عدم اليأس. ومن تفسير القرآن بالقرآن في تقليب القلوب والحيلولة بينها وبين إرادة الإنسان المتصرفة في قدرته ومشاعره قوله تعالى من سورة الأنعام: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون} [الأنعام: 106] فيراجع معناها في آخر تفسير الجزء السابع... وروى البخاري وأصحاب السنن إلا أبا داود من حديث عبد الله بن عمر قال كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم (لا ومقلب القلوب) وفي رواية له عنه: أكبرُ ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحلف (لا ومقلب القلوب) وفي معناه أحاديث أخرى عند ابن ماجه وغيره وللمفسرين وشراح الأحاديث أغلاط لفظية ومعنوية في تفسير لفظ القلب وفي تقليب الله تعالى له. وقد تقدم تفسيره اللفظي من قبل، ومعنى تقليبه آنفا، وقولهم إن الله خالق القلوب ومقلبها حق وكذا أفعال العباد كلها، وليس بحق ما عبر به بعضهم عن ذلك بأن الله تعالى يمنع الكافر بمحض قدرته عن الإيمان وغيره من أفعال الخير مباشرة، ويخلق في قلبه ولسانه الكفر اعتقادا ونطقا خلقا آنفا لا فعل له فيه، فالجمع بين الآيات التي أوردناها وما في معناها يبطله ويثبت الأسباب الاختيارية...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومرة أخرى يتكرر الهتاف للذين آمنوا. الهتاف بهم ليستجيبوا لله والرسول، مع الترغيب في الاستجابة والترهيب من الإعراض؛ والتذكير بنعمة الله عليهم حين استجابوا لله وللرسول ...
... إن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إنما يدعوهم إلى ما يحييهم.. إنها دعوة إلى الحياة بكل صور الحياة، وبكل معاني الحياة.. إنه يدعوهم إلى عقيدة تحيي القلوب والعقول، وتطلقها من أوهاق الجهل والخرافة؛ ومن ضغط الوهم والأسطورة، ومن الخضوع المذل للأسباب الظاهرة والحتميات القاهرة، ومن العبودية لغير الله والمذلة للعبد أو للشهوات سواء.. ويدعوهم إلى شريعة من عند الله؛ تعلن تحرر "الإنسان "وتكريمه بصدورها عن الله وحده، ووقوف البشر كلهم صفا متساوين في مواجهتها؛ لا يتحكم فرد في شعب، ولا طبقة في أمة، ولا جنس في جنس، ولا قوم في قوم.. ولكنهم ينطلقون كلهم أحراراً متساوين في ظل شريعة صاحبها الله رب العباد. ويدعوهم إلى منهج للحياة، ومنهج للفكر، ومنهج للتصور؛ يطلقهم من كل قيد إلا ضوابط الفطرة، المتمثلة في الضوابط التي وضعها خالق الإنسان، العليم بما خلق؛ هذه الضوابط التي تصون الطاقة البانية من التبدد؛ ولا تكبت هذه الطاقة ولا تحطمها ولا تكفها عن النشاط الإيجابي البناء. ويدعوهم إلى القوة والعزة والاستعلاء بعقيدتهم ومنهجهم، والثقة بدينهم وبربهم، والانطلاق في "الأرض" كلها لتحرير "الإنسان" بجملته؛ وإخراجه من عبودية العباد إلى عبودية الله وحده؛ وتحقيق إنسانيته العليا التي وهبها له الله، فاستلبها منه الطغاة! ويدعوهم إلى الجهاد في سبيل الله، لتقرير ألوهية الله سبحانه -في الأرض وفي حياة الناس؛ وتحطيم ألوهية العبيد المدعاة؛ ومطاردة هؤلاء المعتدين على ألوهية الله- سبحانه -وحاكميته وسلطانه؛ حتى يفيئوا إلى حاكمية الله وحده؛ وعندئذ يكون الدين كله لله. حتى إذا أصابهم الموت في هذا الجهاد كان لهم في الشهادة حياة. ذلك مجمل ما يدعوهم إليه الرسول [صلى الله عليه وسلم] وهو دعوة إلى الحياة بكل معاني الحياة. إن هذا الدين منهج حياة كاملة، لا مجرد عقيدة مستسرة. منهج واقعي تنمو الحياة في ظله وتترقى. ومن ثم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) هو دعوة إلى الحياة في كل صورها وأشكالها. وفي كل مجالاتها ودلالاتها. والتعبير القرآني يجمل هذا كله في كلمات قليلة موحية: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم).. استجيبوا له طائعين مختارين؛ وإن كان الله- سبحانه -قادراً على قهركم على الهدى لو أراد: (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه).. ويا لها من صورة رهيبة مخيفة للقدرة القاهرة اللطيفة.. (يحول بين المرء وقلبه) فيفصل بينه وبين قلبه؛ ويستحوذ على هذا القلب ويحتجزه، ويصرفه كيف شاء، ويقلبه كما يريد. وصاحبه لا يملك منه شيئا وهو قلبه الذي بين جنبيه! إنها صورة رهيبة حقاً؛ يتمثلها القلب في النص القرآني، ولكن التعبير البشري يعجز عن تصوير إيقاعها في هذا القلب، ووصف هذا الإيقاع في العصب والحس! إنها صورة تستوجب اليقظة الدائمة، والحذر الدائم، والاحتياط الدائم. اليقظة لخلجات القلب وخفقاته ولفتاته؛ والحذر من كل هاجسة فيه وكل ميل مخافة أن يكون انزلاقا؛ والاحتياط الدائم للمزالق والهواتف والهواجس.. والتعلق الدائم بالله- سبحانه -مخافة أن يقلب هذا القلب في سهوة من سهواته، أو غفلة من غفلاته، أو دفعة من دفعاته.. ولقد كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وهو رسول الله المعصوم يكثر من دعاء ربه: "اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك".. فكيف بالناس، وهم غير مرسلين ولا معصومين؟! إنها صورة تهز القلب حقا؛ ويجد لها المؤمن رجفة في كيانه حين يخلو إليها لحظات، ناظرا إلى قلبه الذي بين جنبيه، وهو في قبضة القاهر الجبار؛ وهو لا يملك منه شيئا، وإن كان يحمله بين جنبيه ويسير! صورة يعرضها على الذين آمنوا وهو يناديهم: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم).. ليقول لهم: إن الله قادر على أن يقهركم على الهدى- لو كان يريد -وعلى الاستجابة التي يدعوكم إليها هذه الدعوة، ولكنه- سبحانه -يكرمكم؛ فيدعوكم لتستجيبوا عن طواعية تنالون عليها الأجر؛ وعن إرادة تعلو بها إنسانيتكم وترتفع إلى مستوى الأمانة التي ناطها الله بهذا الخلق المسمى بالإنسان.. أمانة الهداية المختارة؛ وأمانة الخلافة الواعية، وأمانة الإرادة المتصرفة عن قصد ومعرفة. (وأنه إليه تحشرون).. فقلوبكم بين يديه. وأنتم بعد ذلك محشورون إليه. فما لكم منه مفر. لا في دنيا ولا في آخرة. وهو مع هذا يدعوكم لتستجيبوا استجابة الحر المأجور، لا استجابة العبد المقهور...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
...يقول تعالى: (واعلموا أنّ الله يحول بين المرء وقلبه وأنّه إليه تحشرون). إنّ المقصود بالقلب هنا كما ذكرنا سابقاً الروح والعقل، أمّا كيف يحول الله بين المرء وقلبه؟ فقد ذكروا لذلك احتمالات مختلفة...
ويمكن بنظرة شاملة جمع كل التفاسير في تفسير واحد، هو أنّ الله عزّ وجلّ حاضر وناظر ومهيمن على كل المخلوقات. فإنّ الموت والحياة والعلم والقدرة والأمن والسكينة والتوفيق والسعادة، كلّها بيديه وتحت قدرته، فلا يمكن للإِنسان كتمان أمر ما عنه، أو أن يعمل أمراً بدون توفيقه، وليس من اللائق التوجه لغيره وسؤال من سواه. لأنّه مالك كل شيء والمحيط بجميع وجود الإِنسان. وارتباط هذه الجُمل مع سابقتها من جهة أنّه لو دعا النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس إِلى الحياة، فذلك لأنّ الذي أرسله هو مالك الحياة والموت والعقل والهداية ومالك كل شيء. وللتأكيد على هذا الموضوع فإنّ الآية تريد أن تقول: إنّكم لستم اليوم في دائرة قدرته فحسب، بل ستذهبون إليه في العالم الآخر، فأنتم في محضره وتحت قدرته هنا وهناك...