الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسۡتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا يُحۡيِيكُمۡۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَقَلۡبِهِۦ وَأَنَّهُۥٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ} (24)

{ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } اختلفوا في قوله ( لما يُحييكم ) :

فقال السدي : هو الإيمان يحييهم بعد موتهم أي كفرهم . وقال مجاهد : للحق . وقال قتادة هو هذا القرآن فيه الحياة والفقه والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة .

وقال ابن إسحاق : لما يحييكم يعني الحرب والجهاد التي أعزكم الله بها بعد الذل . وقوّاكم بها بعد الضعف ومنعكم بها عن عدوكم بعد القهر منهم لكم .

وقال [ القتيبي ] : لمّا يحييكم : لما يُتقيكم ، يعني الشهادة . وقرأ قوله

{ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [ آل عمران : 169 ] فاللام في قوله ( لما ) بمعنى إلى ومعنى الاستجابة في هذه الآية الطاعة يدلُّ عليه ما روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال : " مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أُبي بن كعب وهو قائم يصلّي فصاح له فقال : " تعال إلي " ، فعجل أُبي في صلاته ثمّ جاء الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ما منعك يا أُبي أن تُجيبني إذا دعوتك ؟ أليس الله يقول يا ايُّها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يُحييكم " .

قال : لا جرم يا رسول الله لا تدعوني إلاّ أجبتك وإن كنت مصلياً .

قال : " تحب أن أُعلمّك سورة لم تنزل في التوارة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها " ؟

قال أُبي : نعم يا رسول الله .

قال : " لا تخرج من باب المسجد حتّى تعلمها " والنبيّ صلى الله عليه وسلم يمشي يريد أن يخرج من المسجد فلما بلغ الباب ليخرج قال له أُبي : يا رسول الله ، فوقف فقال : " نعم كيف تقرأ في صلاتك " فقرأ أُبي أُمّ القرآن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده ما أُنزلت في التوارة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن [ مثلها ] وإنّها لهي السبع المثاني التي أتاني الله عزّ وجلّ " .

{ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } قال سعيد بن جبير : معناه يحول بين الكافر أن يؤمن وبين المؤمن أن يكفر .

ابن عباس : بين الكافر وبين طاعته ويحول بين المؤمن وبين معصيته .

وقال مجاهد : يحول بين المرء وقلبه فلا يعقل ولا يدري ما يفعل ، وروى خصيف عنه قال : يحول بين قلب الكافر وبين أن يعمل خيراً .

وقال السدي : يحول بين الإنسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن ولا أن يكفر إلاّ بإذنه .

وقال قتادة : معنى ذلك أنّه قريب من قلبه ولا يخفى عليه شيء أظهره أو أسره . وهي كقوله عزّ وجلّ

{ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } [ ق : 16 ] .

وقيل : هو أن القوم لما دعوا إلى القتال في الحال الصعبة جاءت ظنونهم واختلجت صدروهم فقيل [ فيهم ]

{ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [ آل عمران : 167 ] وأعلموا أن الله يحول بين المرء وبين ما في قلبه فيبدّل الخوف أمناً والجُبن جُرأة .

وقيل : يحول بينه وبين مراده ، لأن الأجل حال دون الأمل . والتقدير منع من التدبير .

وقرأ الحسن : بين المرء ، وبتشديد الراء من غير همزة .

وقرأ الزهري : بضم الميم والهمزة وهي لغات صحيحة .

و { وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } ويجزيكم بأعمالكم .

قال أنس بن مالك : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول : يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك ، قلنا : يا رسول الله أمنّا بك فهل تخاف علينا ؟

قال : " إن قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلّبه كيف شاء إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه " .

والإصبع في اللغة الأثر الحسن ، فمعنى قوله : بين إصبعين : بين أثرين من أثار الربوبية وفيها الإزاغة والإقامة .

قال الشاعر :

صلاة وتسبيح والخطأ نائل *** وذو رحم تناله منك إصبع

أي أثر حسن .

وقال آخر :

مَنْ يجعل الله عليه اصبعاً *** في الشر أو في الخير يلقه معاً

فالإصبع أيضاً في اللغة الإصبع .

فمعنى الحديث بين مملكتين من ممالكه ، وبين الإزاغة والإقامة والتوفيق والخذلان .

قال الشاعر :

حدّثت نفسك بالوفاء ولم تكن *** للغدر خائنة مغل الإصبع