مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسۡتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا يُحۡيِيكُمۡۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَقَلۡبِهِۦ وَأَنَّهُۥٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ} (24)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون } في الآية مسائل :

المسألة الأولى : قال أبو عبيد والزجاج { استجيبوا } معناه أجيبوا وأنشد قول الشاعر :

فلم يستجبه عند ذاك مجيب *** . . . .

المسألة الثانية : أكثر الفقهاء على أن ظاهر الأمر للوجوب ، وتمسكوا بهذه الآية على صحة قولهم من وجهين :

الوجه الأول : أن كل من أمره الله بفعل فقد دعاه إلى ذلك الفعل وهذه الآية تدل على أنه لابد من الإجابة في كل ما دعاه الله إليه .

فإن قيل : قوله : { استجيبوا لله } أمر . فلم قلتم : إنه يدل على الوجوب ؟ وهل النزاع إلا فيه ؟ فيرجع حاصل هذا الكلام إلى إثبات أن الأمر للوجوب بناء على أن هذا الأمر يفيد الوجوب ، وهو يقتضي إثبات الشيء بنفسه وهو محال .

والجواب : أن من المعلوم بالضرورة أن كل ما أمر الله به فهو مرغب فيه مندوب إليه ، فلو حملنا قوله : { استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم } على هذا المعنى كان هذا جاريا مجرى إيضاح الواضحات وأنه عبث ، فوجب حمله على فائدة زائدة ، وهي الوجوب صونا لهذا النص عن التعطيل ، ويتأكد هذا بأن قوله تعالى بعد ذلك { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون } جار مجرى التهديد والوعيد ، وذلك لا يليق إلا بالإيجاب .

الوجه الثاني : في الاستدلال بهذه الآية على ثبوت هذا المطلوب . ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على باب أبي بن كعب فناداه وهو في الصلاة فعجل في صلاته ثم جاء فقال : «ما منعك عن إجابتي » قال كنت أصلي قال : «ألم تخبر فيما أوحي إلي استجيبوا لله وللرسول » فقال : لا جرم لا تدعوني إلا أجيبك ، والاستدلال به أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعاه فلم يجبه لامه على ترك الإجابة ، وتمسك في تقرير ذلك اللوم بهذه الآية فلولا دلالة هذه الآية على الوجوب ، وإلا لما صح ذلك الاستدلال ، وقول من يقول مسألة أن الأمر يفيد الوجوب ، مسألة قطعية ، فلا يجوز ، التمسك فيها بخبر الواحد ضعيف ، لأنا لا نسلم أن مسألة الأمر يفيد الوجوب مسألة قطعية ، بل هي عندنا مسألة ظنية ، لأن المقصود منها العمل ، والدلائل الظنية كافية في المطالب العملية .

فإن قالوا : إنه تعالى ما أمر بالإجابة على الإطلاق بل بشرط خاص وهو قوله : { إذا دعاكم لما يحييكم } فلم قلتم إن هذا الشرط حاصل في جميع الأوامر ؟

قلنا : قصة أبي بن كعب تدل على أن هذا الحكم عام وغير مخصوص بشرط معين ، وأيضا فلا يمكن حمل الحياة ههنا على نفس الحياة . لأن إحياء الحي محال ، فوجب حمله على شيء آخر وهو الفوز بالثواب ، وكل ما دعا الله إليه ورغب فيه فهو مشتمل على ثواب ، فكان هذا الحكم عاما في جميع الأوامر وذلك يفيد المطلوب .

المسألة الثالثة : ذكروا في قوله : { إذا دعاكم لما يحييكم } وجوها : الأول : قال السدي : هو الإيمان والإسلام وفيه الحياة لأن الإيمان حياة القلب والكفر موته ، يدل عليه قوله تعالى : { يخرج الحي من الميت } قيل المؤمن من الكافر . الثاني : قال قتادة : يعني القرآن أي أجيبوه إلى ما في القرآن ففيه الحياة والنجاة والعصمة ، وإنما سمي القرآن بالحياة لأن القرآن سبب العلم . والعلم حياة ، فجاز أن يسمى سبب الحياة بالحياة . الثالث : قال الأكثرون : { لما يحييكم } هو الجهاد ، ثم في سبب تسمية الجهاد بالحياة وجوه : أحدها : هو أن وهن أحد العدوين حياة للعدو الثاني . فأمر المسلمين إنما يقوى ويعظم بسبب الجهاد مع الكفار . وثانيها : أن الجهاد سبب لحصول الشهادة وهي توجب الحياة الدائمة قال تعالى : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } وثالثها : أن الجهاد قد يفضي إلى القتل ، والقتل يوصل إلى الدار الآخرة ، والدار الآخرة معدن الحياة ، قال تعالى : { وإن الدار الآخرة لهي الحيوان } أي الحياة الدائمة .

والقول الرابع : { لما يحييكم } أي لكل حق وصواب ، وعلى هذا التقدير فيدخل فيه القرآن والإيمان والجهاد وكل أعمال البر والطاعة ، والمراد من قوله : { لما يحييكم } الحياة الطيبة الدائمة قال تعالى : { فلنحيينه حياة طيبة } .

المسألة الرابعة : قوله تعالى : { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } يختلف تفسيره بحسب اختلاف الناس في الجبر والقدر . أما القائلون بالجبر ، فقال الواحدي حكاية عن ابن عباس والضحاك : يحول بين المرء الكافر وطاعته ، ويحول بين المرء المطيع ومعصيته ، فالسعيد من أسعده الله ، والشقي من أضله الله . والقلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء ، فإذا أراد الكافر أن يؤمن والله تعالى لا يريد إيمانه يحول بينه وبين قلبه . وإذا أراد المؤمن أن يكفر والله لا يريد كفره حال بينه وبين قلبه . قلت : وقد دللنا بالبراهين العقلية على صحة أن الأمر كذلك وذلك لأن الأحوال القلبية إما العقائد وإما الإرادات والدواعي . أما العقائد : فهي إما العلم ، وإما الجهل . أما العلم فيمتنع أن يقصد الفاعل إلى تحصيله إلا إذا علم كونه علما ولا يعلم ذلك إلا إذا علم كون ذلك الاعتقاد مطابقا للمعلوم ولا يعلم ذلك إلا إذا سبق علمه بالمعلوم وذلك يوجب توقف الشيء على نفسه وأما الجهل فالإنسان البتة لا يختاره ولا يريده إلا إذا ظن أن ذلك الاعتقاد علم ، ولا يحصل له هذا الظن إلا بسبق جهل آخر ، وذلك أيضا يوجب توقف الشيء على نفسه ، وأما الدواعي والإرادات فحصولها إن لم يكن بفاعل يلزم الحدوث لا عن محدث ، وإن كان بفاعل فذلك الفاعل إما العبد وإما الله تعالى ، والأول باطل ، وإلا لزم توقف ذلك القصد على قصد آخر وهو محال ، فتعين أن يكون فاعل الاعتقادات والإرادات والدواعي هو الله تعالى ، فنص القرآن دل على أن أحوال القلوب من الله ، والدلائل العقلية دلت على ذلك ، فثبت أن الحق ما ذكرناه . أما القائلون بالقدر فقالوا : لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية ما ذكرتم ، وبيانه من وجوه :

الوجه الأول : قال الجبائي : إن من حال الله بينه وبين الإيمان فهو عاجز ، وأمر العاجز سفه ، ولو جاز ذلك لجاز أن يأمرنا الله بصعود السماء ، وقد أجمعوا على أن الزمن لا يؤمر بالصلاة قائما ، فكيف يجوز ذلك على الله تعالى ؟ وقد قال تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } وقال في المظاهر : { فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا } فأسقط فرض الصوم عمن لا يستطيعه .

الوجه الثاني : أن الله تعالى أمر بالاستجابة لله وللرسول . وذكر هذا الكلام في معرض الذكر والتحذير عن ترك الإجابة ، ولو كان المراد ما ذكرتم لكان ذلك عذرا قويا في ترك الإجابة ، ولا يكون زجرا عن ترك الإجابة .

الوجه الثالث : أنه تعالى أنزل القرآن ليكون حجة للرسول على الكفار ، لا ليكون حجة للكفار على الرسول ، ولو كان المعنى ما ذكرتم لصارت هذه الآية من أقوى الدلائل للكفار على الرسول ولقالوا إنه تعالى لما منعنا من الإيمان فكيف يأمرنا به ؟ فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل الآية على ما قاله أهل الجبر ، قالوا ونحن نذكر في الآية وجوها : الأول : أن الله تعالى يحول بين المرء وبين الانتفاع بقلبه بسبب الموت ، يعني بذلك أن تبادروا في الاستجابة فيما ألزمتكم من الجهاد وغيره قبل أن يأتيكم الموت الذي لابد منه ويحول بينكم وبين الطاعة والتوبة . قال القاضي : ولذلك قال تعالى عقيبه ما يدل عليه وهو قوله : { وأنه إليه تحشرون } والمقصود من هذه الآية الحث على الطاعة قبل نزول الموت الذي يمنع منها . الثاني : أن المراد أنه تعالى يحول بين المرء وبين ما يتمناه ويريده بقلبه ، فإن الأجل يحول دون الأمل ، فكأنه قال : بادروا إلى الأعمال الصالحة ولا تعتمدوا على ما يقع في قلوبكم من توقع طول البقاء ، فإن ذلك غير موثوق به ، وإنما حسن إطلاق لفظ القلب على الأماني الحاصلة في القلب لأن تسمية الشيء باسم ظرفه جائزة كقولهم ، سال الوادي . الثالث : أن المؤمنين كانوا خائفين من القتال يوم بدر ، فكأنه قيل لهم ، سارعوا إلى الطاعة ولا تتمنعوا عنها بسبب ما تجدون في قلوبكم من الضعف والجبن ، فإن الله تعالى يغير تلك الأحوال فيبدل الضعف بالقوة ، والجبن بالشجاعة ، لأنه تعالى مقلب القلوب . الرابع : قال مجاهد : المراد من القلب ههنا العقل فكان المعنى أنه يحول بين المرء وقلبه . والمعنى فبادروا إلى الأعمال وأنتم تعقلون ، فإنكم لا تؤمنون زوال العقول التي عند ارتفاعها يبطل التكليف . وجعل القلب كناية عن العقل جائز ، كما قال تعالى :

{ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب } أي لمن كان له عقل ، الخامس : قال الحسن معناه ، أن الله حائل بين المرء وقلبه ، والمعنى أن قربه تعالى من عبده أشد من قرب قلب العبد منه ، والمقصود منه التنبيه على أنه تعالى لا يخفى عليه شيء مما في باطن العبد ومما في ضميره ، ونظيره قوله تعالى : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } فهذه جملة الوجوه المذكورة في هذا الباب لأصحاب الجبر والقدر .

ثم قال تعالى : { وأنه إليه تحشرون } أي واعلموا أنكم إليه تحشرون أي إلى الله ولا تتركون مهملين معطلين ، وفيه ترغيب شديد في العمل وتحذير عن الكسل والغفلة .