محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسۡتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا يُحۡيِيكُمۡۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَقَلۡبِهِۦ وَأَنَّهُۥٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ} (24)

وقوله تعالى : { يأيها الذين ءامنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ، وأنه إليه تحشرون } .

{ يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } الاستجابة : بمعنى الإجابة ، قال :

وداعٍ دعا يا مَنْ يُجيب إلى النَّدا فلَمْ يَسْتَجِبْهُ عند ذاك مُجيبُ

( يريد : فلم يجبه . وقائله كعب بن سعد الغنوي . والقصيدة في الأصمعيات رقم 14 ) .

والمراد بها الطاعة والامتثال . وإنما وحد الضمير في قوله { دعاكم } - أي الرسول - لأنه هو المباشر للدعوة إلى الله تعالى .

وقال الزمخشريّ : لأن استجابته صلى الله عليه وسلم ، كاستجابته تعالى ، وإنما يذكر أحدهما مع الآخر للتوكيد . وقوله : { لما يحييكم } قال عروة بن الزبير - فيما رواه ابن إسحاق - " أي للحرب التي أعزكم الله تعالى بها بعد الذل ، وقواكم بها بعد الضعف ، ومنعكم من عدوكم بعد القهر منهم لكم " ، وإنما سمى الجهاد حياة لأن في وهن عدوهم بسببه حياة لهم وقوة ، أو لأنه سبب الشهادة الموجبة للحياة الدائمة ، أو سبب المثوبة الأخروية التي هي معدن الحياة ، / كما قال تعالى : { وإن الدار الآخرة لهي الحيوان } {[4335]} أي الحياة الدائمة ، فيكون مجازا مرسلا ، بإطلاق السبب على المسبب ، أو استعارة . وقيل : { لما يحييكم } أي من العلوم الدينية التي هي مناط حياة القلب ، كما أن الجهل موته .

قال الشهاب : وإطلاق الحياة على العلم ، والموت على الجهل ، استعارة معروفة ، ذكرها الأدباء وأهل المعاني وأنشد الزمخشري لبعضهم :

لا تعجبنّ الجهولَ حُلَّتُه فذاك مَيْتٌ ، وثوبُهُ كَفَنُ

وقد ألم فيه بقول أبي الطيب ، من قصيدته التي أولها :

أفاضلُ الناسِ أغراضٌ لذا الزمنِ يخلُو من الهمِّ أخلاهُمْ من الفِطَنِ

ومنها :

لا تُعْجِبَنَّ مضِيما حسنُ بَزَّتِهِ وهل تروقُ دَفِيناً جَوْدَةُ الكَفَنِ

والأظهر أن يعنى ب { ما يحييكم } ما يصلحكم من أعمال البر والطاعة . فيدخل فيه ما تقدم وغيره .

تنبيه :

استدل النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية على وجوب إجابته إذا نادى أحدا وهو في الصلاة . وروى البخاري{[4336]} عن أبي سعيد بن المعلَّى رضي الله عنه قال : " كنت أصلي فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم ، فدعاني ، فلم آته حتى صليت ، ثم أتيته فقال : ما منعك أن تأتيني ؟ ألم يقل الله { يأيها الذين ءامنوا استجيبوا . . . } الآية " .

وقوله تعالى : { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } يحتمل وجها من المعاني .

/ أحدهما : أنه تعالى يملك على المرء قلبه فيصرفه كيف شاء ، فيحول بينه وبين الكفر ، إن أراد هدايته ، وبينه وبين الإيمان ، إن أراد ضلالته . وهذا المعنى رواه الحاكم في ( مستدركه ) عن ابن عباس ، وصححه ، وقاله غير واحد من السلف . ويؤيده ما روي ؛ " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ، فقيل : يا رسول الله آمنا بك ، وبما جئت به ، فهل تخاف علينا ؟ قال نعم ، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى ، يقلبها " - رواه الإمام أحمد{[4337]} والترمذي{[4338]} عن أنس – ولفظ مسلم{[4339]} : " إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن ، كقلب واحد ، يصرفها كيف شاء ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، اللهم ! مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك " - انفرد مسلم عن البخاري بإخراجه عن عبد الله بن عمرو- وفي رواية : " إن قلب الآدمي بين إصبعين من أصابع الله ، فإذا شاء أزاغه ، وإذا شاء أقامه " - رواه الإمام أحمد{[4340]} عن عائشة - . وروى أيضا مثله عن جابر وبلال والنواس{[4341]} بن سمعان وأم سلمة ، كما ساقه ابن كثير ، وعلى هذا المعنى ، فالآية استعارة تمثيلية ، لتمكنه من قلوب العباد ، فيصرفها كيف يشاء ، بما لا يقدر عليه صاحبها . شبه بمن حال بين شخص ومتاعه ، فإنه يقدر على التصرف فيه دونه .

ثانيها : أنه حث على المبادرة إلى الطاعة ، قبل حلول المنية ، فمعنى ( يحول بينه وبين قلبه ) يميته فتفوته الفرصة التي هو واجدها ، وهي التمكن من إخلاص القلب ، ومعالجة أدوائه وعلله ورده سليما ، كما يريده الله ، فاغتنموا هذه الفرصة وأخلصوها لطاعة الله ورسوله ، فشبه الموت بالحيلولة بين المرء وقلبه الذي به يعقل في عدم التمكن من علم ما ينفعه علمه .

/ ثالثها : أنه مجاز عن غاية القرب من العبد ، لأن من فصل بين شيئين كان أقرب إلى كل منهما من الآخر ، لاتصاله بهما ، وانفصال أحدهما عن الآخر ، و { يحول } إما استعارة تبعية معناه يقرب . أو استعارة تمثيلية ، وهذا المعنى نقل عن قتادة حيث قال : الآية كقوله تعالى : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } {[4342]} وفيه تنبيه على أنه تعالى مطلع ، من مكنونات القلوب ، على ما عسى أن يغفل عنه صاحبها .

{ وأنه إليه تحشرون } أي فيجزيكم بأعمالكم .


[4335]:[29 / العنكبوت / 64].
[4336]:أخرجه البخاري في: 65- كتاب التفسير، 8- سورة الأنفال، 2 باب : {يا أيها الذين ءامنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} حديث رقم 1961.
[4337]:أخرجه الإمام أحمد في المسند بالصفحة 112 من الجزء الثالث (طبعة الحلبي).
[4338]:أخرجه الترمذي في : 30- كتاب القدر، 7- باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن.
[4339]:أخرجه مسلم في 46- كتاب القدر حديث رقم 17 (طبعتنا).
[4340]:أخرجه الإمام أحمد في المسند بالصفحة رقم 261 من الجزء السادس (طبعة الحلبي).
[4341]:أخرجه الإمام أحمد في المسند بالصفحة رقم 182 من الجزء الرابع (طبعة الحلبي).
[4342]:[50 / ق / 16].