فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسۡتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا يُحۡيِيكُمۡۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَقَلۡبِهِۦ وَأَنَّهُۥٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ} (24)

الأمر هنا بالاستجابة مؤكد لما سبق من الأمر بالطاعة ، ووحد الضمير هنا حيث قال : { إِذَا دَعَاكُمْ } كما وحده في قوله : { وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ } وقد قدّمنا الكلام في وجه ذلك ، والاستجابة : الطاعة . قال أبو عبيدة : معنى استجيبوا : أجيبوا . وإن كان استجاب يتعدّى باللام ، وأجاب بنفسه كما في قوله : { يا قومنا أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله } ، وقد يتعدّى استجاب بنفسه كما في قول الشاعر :

وداع دعا يا من يجيب إلى الندى *** يستجبه عند ذاك مجيب

{ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } اللام متعلقة بقوله : { استجيبوا } أي : استجيبوا لما يحييكم إذا دعاكم ، ولا مانع من أن تكون متعلقة بدعا :أي إذا دعاكم إلى ما فيه حياتكم من علوم الشريعة ، فإن العلم حياة ، كما أن الجهل موت . فالحياة هنا مستعارة للعلم . قال الجمهور من المفسرين : المعنى استجيبوا للطاعة وما تضمنه القرآن من أوامر ونواهي ففيه الحياة الأبدية ، والنعمة السرمدية . وقيل المراد بقوله : { لِمَا يُحْيِيكُمْ } الجهاد ، فإنه سبب الحياة في الظاهر ، لأن العدوّ إذا لم يغز غزا . ويستدلّ بهذا الأمر بالاستجابة على أنه يجب على كل مسلم إذا بلغه قول الله أو قول رسوله في حكم من الأحكام الشرعية أن يبادر إلى العمل به كائناً ما كان ، ويدع ما خالفه من الرأي وأقوال الرجال . وفي هذه الآية الشريفة أعظم باعث على العمل بنصوص الأدلة ، وترك التقيد بالمذاهب ، وعدم الاعتداد بما يخالف ما في الكتاب والسنة كائناً ما كان . قوله : { واعلموا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ } قيل معناه : بادروا إلى الاستجابة قبل أن لا تتمكنوا منها بزوال القلوب التي تعقلون بها بالموت الذي كتبه الله عليكم . وقيل معناه : إنه خاف المسلمون يوم بدر كثرة العدوّ ، فأعلمهم الله أنه يحول بين المرء وقلبه بأن يبدلهم بعد الخوف أمناً ، ويبدل عدوّهم من الأمن خوفاً . وقيل هو : من باب التمثيل لقربه سبحانه من العبد كقوله : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد } ومعناه : أنه مطلع على ضمائر القلوب ، لا تخفى عليه منها خافية .

واختار ابن جرير أن هذا من باب الإخبار من الله عزّ وجلّ بأنه أملك لقلوب عباده منهم ، وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء ، حتى لا يدرك الإنسان شيئاً إلا بمشيئته عزّ وجلّ . ولا يخفاك أنه لا مانع من حمل الآية على جميع هذه المعاني . { وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } معطوف على { إنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ } وأنكم محشورون إليه ، وهو مجازيكم بالخير خيراً ، وبالشرّ شرّاً . قال الفراء : ولو استأنفت فكسرت همزة «إنَّه » لكان صواباً . ولعل مراده أن مثل هذا جائز في العربية .

/خ25