اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسۡتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا يُحۡيِيكُمۡۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَقَلۡبِهِۦ وَأَنَّهُۥٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ} (24)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ } الآية .

قال أبو عبيدة ، والزجاج : " استَجِيبُوا " معناه : أجيبوا ؛ وأنشدوا قول الغنوي : [ الطويل ]

. . . *** فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذاكَ مُجِيبُ{[17251]}

وهذه الآية تدلُّ على أنَّ الأمر يفيدُ الوجوب ؛ لأنها تدل على أنه لا بُدَّ من الإجابة في كل ما دعاه الله إليه .

فإن قيل : قوله { استجيبوا للَّهِ } أمرٌ . فلم قلتم : إنَّه على الوجوب ؟ وهل النّزاع إلا فيه ، فيرجع حاصل هذا الكلام إلى إثباتِ أنَّ الأمر للوجوب بناء على أنَّ هذا الأمر يفيدُ الوجوب فيقتضي إثبات الشيء بنفسه ، وهو مُحال .

فالجواب : أنَّ من المعلوم بالضَّرورة أنَّ كل ما أمر اللَّهُ به فهو مرغب فيه مندوب إليه ، فلو حملنا قوله " اسْتَجِيبوا " على هذا المعنى كان ذلك جارياً مجرى إيضاح الواضحات وهو عبثٌ ، فوجب حمله على فائدة زائدة ، وهي الوجوب صوناً لهذا النصّ عن التعطيل .

ويؤيده ما روى أبو هريرة " أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ على باب أبي بن كعب فناداه وهو في الصَّلاة فعجل في صلاته ثم جاء فقال : " ما منعكَ عَنْ إجابتِي " ؟ فقال : كنتُ أصلِّي ، فقال : " أليس الله يقول : { يا أيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } " فلامه على ترك الإجابة متمسكاً بهذه الآية{[17252]} .

فإن قيل : مسألةُ الأمر - يفيد الوجوب - مسألةٌ قطعيَّةٌ ، فلا يجوز التمسك فيها بخبر الواحد .

فالجوابُ : لا نسلم أنَّ مسألة الأمر - يفيدُ الوجوب - مسألة قطعيةٌ ، بل هي ظنيَّةٌ ؛ لأن المقصود منها العمل ، والدلائل الظنية كافية في العمل .

فإن قيل : إنَّ الله تعالى ما أمر بالإجابة مطلقاً ، بل بشرط خاص ، وهو قوله : { إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } فلم قلتم إنَّ هذا الشرط الخاص حاصلٌ في جميع الأوامر ؟

فالجواب : أنَّ قصة أبي تدلُّ على أنَّ هذا الحكم عام ليس مخصصاً بشرط معين ، وأيضاً فلا يمكن حمل الحياة ههنا على نفس الحياة ؛ لأنَّ إحياء الحيِّ محالٌ ؛ فوجب حملُه على شيء آخر وهو الفوز بالثواب ، وكل ما دعا اللَّهُ إليه ورغب فيه مشتمل على الثواب ، فكان هذا الحكم عاماً في جميع الأوامر .

فصل

في المُرادِ بقوله " لِمَا يُحْييكُم " وجوه :

أحدها : قال السُّديُّ : هو الإيمان والإسلامُ وفيه الحياة{[17253]} ، وقال قتادةُ : يعني القرآن فيه الحياة والنَّجاة{[17254]} . وقال مجاهدٌ : هو الحق{[17255]} .

وقال ابن إسحاق : الجهادُ أعزكم اللَّهُ فيه بعد الذُّلِّ ، وقال القتيبيُّ : الشَّهادةُ ، قال تعالى : { بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [ آل عمران : 169 ] .

قوله { وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ } قال الواحديُّ حكاية عن ابن عباس ، والضحاك : يحولُ بين المرءِ الكافرِ وطاعته ، ويحولُ بين المطيع ومعصيته ، فالسَّعيدُ من أسعده اللَّهُ ، والشقيُّ من أضله الله ، والقلوب بيده يقلبها كيف يشاء{[17256]} .

وقال السُّديُّ : يحول بين الإنسان وقلبه ، فلا يستطيع أن يؤمن ولا أن يكفر إلا بإذنه{[17257]} .

وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ ، وعطاءٌ : يحولُ بين المؤمن والكفر وبين الكافر والإيمان{[17258]} .

وقيل : إنَّ القوم لمَّا دعوا إلى القتال في حالة الضعف ساءت ظنونهم واختلجت صدورهم ، فقيل لهم : قاتلُوا في سبيل اللَّهِ ، واعلموا أنَّ الله يحُولُ بين المرءِ وقلبه فيبدلُ الله الخوف أمناً ، والجبن جراءة .

قوله : " بَيْنَ المَرْءِ " العامَّةُ على فتح الميم .

وقرأ ابن أبي{[17259]} إسحاق : بكسرها على إتباعها لحركة الهمزة ، وذلك أن في : " المَرْءِ " لغتين : أفصحهما : فَتْح الميم مطلقاً ، والثانية : إتباع الميم لحركة الإعراب فتقول : هذا مُرْءٌ - بضم الميم ، ورأيت مَرْءاً - بفتحها ، ومررت بِمِرْءٍ - بكسرها ، وقرأ الحسن{[17260]} ، والزهري : بفتح الميم وتشديد الرَّاءِ . وتوجيهها : أن يكون نقل حركة الهمزة إلى الرَّاءِ ، ثم ضعَّف الراء ، وأجرى الوصل مُجْرى الوقف .

قوله " وأنَّهُ " يجوز أن تكون الهاء ضمير الأمر والشأن ، وأن تعود على الله تعالى ، وهو الأحسن لقوله : " إلَيْهِ تُحْشَرُونَ " أي إلى اللَّهِ ؛ ولا تتركون مهملين .

قوله { واتقوا فتنة لا تصيبن } .


[17251]:عجز بيت لكعب بن سعد الغنوي أو لرجل من قومه يسمى سهم الغنوي وصدره: وداع دعا يا من يجيب إلى الندى *** ... ينظر مجاز القرآن 1/67، 117، 245 والنوادر لأبي زيد 37 والأصمعيات 96 وتأويل المشكل 230 وزاد المسير 1/186 واللسان (جوب) وأمالي القالي 2/151 والاقتضاب 459 ومعاني الزجاج 1/255، 2/409، والحجة لأبي علي 1/265 ومعاني الأخفش 1/208.
[17252]:اخرجه النسائي (2/139) والبيهقي (2/368) والحاكم (1/558) والترمذي (5/184) والطحاوي في "مشكل الآثار" (1/467) والطبري في "تفسيره" (6/212) من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة. وقال الترمذي: حسن صحيح.
[17253]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/211) وذكره البغوي في "معالم التنزيل" (2/240).
[17254]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/212) وانظر معالم التنزيل للبغوي (6/211).
[17255]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/213).
[17256]:أخرجه الطبري (6/214) والحاكم (2/328) عن ابن عباس وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وذكره السيوطي في "الدر المنثور": (3/320) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وحنيش بن أصرم في الاستقامة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وأخرجه الطبري أيضا (6/214) عن الضحاك. وذكره البغوي في "معالم التنزيل" (2/241).
[17257]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/215) وذكره البغوي في "معالم التنزيل" (2/241).
[17258]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/213) وانظر معالم التنظيل (2/241) وأخرجه الطبري أيضا عن ابن عباس (6/213-214).
[17259]:ينظر: المحرر الوجيز 2/514، والبحر المحيط 4/477، الدر المصون 3/410.
[17260]:المصدر السابق.