معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا وَتَشۡتَكِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ} (1)

مقدمة السورة:

سورة المجادلة مدنية وآياتها ثنتان وعشرون .

قوله تعالى : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } الآية . نزلت في خولة بنت ثعلبة كانت تحت أوس بن الصامت ، وكانت حسنة الجسم ، وكان به لمم فأرادها فأبت ، فقال لها : أنت علي كظهر أمي ، ثم ندم على ما قال . وكان الظهار والإيلاء من طلاق أهل الجاهلية . فقال لها : ما أظنك إلا قد حرمت علي . فقالت : والله ما ذاك طلاق ، وأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم -وعائشة رضي الله عنها تغسل شق رأسه- فقالت : يا رسول الله إن زوجي أوس بن الصامت تزوجني وأنا شابة غنية ذات مال وأهل حتى إذا أكل مالي وأفنى شبابي وتفرق أهلي وكبر سني ظاهر مني ، وقد ندم ، فهل من شيء يجمعني وإياه تنعشني به ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حرمت عليه ، فقالت : يا رسول الله والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقاً وإنه أبو ولدي وأحب الناس إلي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حرمت عليه ، فقالت : أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي قد طالت صحبتي ونفضت له بطني . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أراك إلا قد حرمت عليه ، ولم أؤمر في شأنك بشيء ، فجعلت تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : حرمت عليه هتفت وقالت : أشكو إلى الله فاقتي وشدة حالي وإن لي صبيةً صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا ، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول : اللهم إني أشكو إليك ، اللهم فأنزل على لسان نبيك فرجي ، وكان هذا أول ظهار في الإسلام ، فقامت عائشة تغسل شق رأسه الآخر ، فقالت : انظر في أمري جعلني الله فداءك يا نبي الله ، فقالت عائشة : أقصري حديثك ومجادلتك أما ترين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ -وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه أخذه مثل السبات- ، فلما قضى الوحي قال لها : ادعي زوجك فدعته ، فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : { قد سمع الله قول التي تجادلك } الآيات . قالت عائشة : تبارك الذي وسع سمعه الأصوات كلها ، إن المرأة لتحاور رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في ناحية البيت أسمع بعض كلامها ، ويخفى علي بعضه إذ أنزل الله : { قد سمع الله } الآيات . ومعنى قوله : { قول التي تجادلك } تخاصمك وتحاورك وتراجعك في زوجها ، { وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما } مراجعتكما الكلام ، { إن الله سميع بصير } سميع لما تناجيه وتتضرع إليه ، بصير بمن يشكو إليه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا وَتَشۡتَكِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ} (1)

مقدمة السورة:

سورة المجادلة مدنية وقيل العشر الأول مكي والباقي مدني وآيها اثنتان وعشرون آية .

بسم الله الرحمن الرحيم { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله }روي أن خولة بنت ثعلبة ظاهر عنها زوجها أوس بن الصامت فاستفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال حرمت عليه فقالت ما طلقني فقال حرمت عليه فاغتمت لصغر أولادها وشكت إلى الله تعالى فنزلت هذه الآيات الأربع وقد تشعر بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أو المجادلة يتوقع أن الله يسمع مجادلتها وشكواها ويفرج عنها كربها وأدغم حمزة والكسائي وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر دالها في السين والله يسمع تحاوركما تراجعكما الكلام وهو على تغليب الخطاب " إن الله سميع بصير " للأقوال والأحوال .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا وَتَشۡتَكِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ} (1)

مقدمة السورة:

( 58 ) سورة المجادلة مدنية وآياتها ثنتان وعشرون ، وهي مدنية بإجماع ، إلا أن النقاش حكى أن قوله تعالى { ما يكون من نجوى ثلاثة } [ المجادلة : 7 ] الآية مكي{[1]} ، وروى أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من قرأ سورة المجادلة كتب من حزب الله ){[2]} .

{ سمع الله } عبارة عن إدراكه المسموعات على ما هي عليه بأكمل وجوه ذلك دون جارحة ولا محاداة ولا تكييف ولا تحديد تعالى الله عن ذلك .

وقرأ الجمهور : { قد سمع } بالبيان : وقرأ ابن محيصن : { قد سمع } بالإدغام ، وفي قراءة ابن مسعود : «قد يسمع الله قول التي » ، وفيها : «والله قد يسمع تحاوركما » .

واختلف الناس في اسم التي تجادل ، فقال قتادة هي خويلة بنت ثعلبة ، وقيل عن عمر بن الخطاب أنه قال : هي خولة بنت حكيم . وقال بعض الرواة وأبو العالية هي خويلة بنت دليج ، وقال المهدوي ، وقيل : خولة بنت دليج ، وقالت عائشة : هي خميلة . وقال ابن إسحاق : هي خولة بنت الصامت . وقال ابن عباس فيها : خولة بنت خويلد ، وقال محمد بن كعب القرظي ومنذر بن سعيد : هي خولة بنت ثعلبة ، قال ابن سلام : «تجادل » معناه تقاتل في القول ، وأصل الجدل القتل ، وأكثر الرواة على أن الزوج في هذه النازلة : أوس بن الصامت الأنصاري{[10997]} أخو عبادة بن الصامت . وحكى النقاش وهو في المصنفات حديثاً عن سلمة بن صخر البياضي{[10998]} أنه ظاهر من امرأته أن واقعها مدة شهر رمضان فواقعها ليلة فسأل قومه أن يسألوا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا وهابوا ذلك وعظموا عليه ، فذهب هو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وسأله واسترشدوه فنزلت الآية . وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أتعتق رقبة ؟ فقال له والله ما أملك رقبة غير رقبتي ، فقال : أتصوم شهرين متتابعين ؟ فقال يا رسول الله وهل أتيت إلا في الصوم ، فقال : تطعم ستين مسكيناً ؟ » فقال : لا أجد ، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقات قومه فكفر بها فرجع سلمة إلى قومه فقال : إني وجدت عندكم الشدة والغلظة ، ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الرخصة والرفق وقد أعطاني صدقاتكم{[10999]} .

وأما ما رواه الجمهور في شأن أوس بن الصامت ، فاختصاره : أن أوساً ظاهر من امرأته خولة بنت خويلد ، وكان الظهار في الجاهلية يوجب عندهم فرقة مؤبدة ، قاله أبو قلابة وغيره ، فلما فعل ذلك أوس ، جاءت زوجته رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن أوساً أكل شبابي ، ونثرت له بطني فلما كبرت ومات أهلي ، ظاهر مني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما أراك إلا قد حرمت عليه » ، فقالت يا رسول الله : لا تفعل فإني وحيدة ليس لي أهل سواه ، فراجعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل مقالته ، فراجعته ، فهذا هو جدالها ، وكانت في خلال جدالها تقول : اللهم إليك أشكو حالي وفقري وانفرادي إليه ، وروي أنها كانت تقول : اللهم إن لي منه صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إلي جاعوا ، فهذا هو اشتكاؤها إلى الله ، فنزل الوحي عند جدالها على رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات .

وكانت عائشة حاضرة لهذه القصة كلها فكانت تقول : سبحان من وسع سمعه الأصوات ، لقد كنت حاضرة وكان بعض كلام خولة يخفى علي ، وسمع الله جدالها ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوس فقال له : «أتعتق رقبة ؟ فقال والله ما أملكها ، فقال أتصوم شهرين متتابعين ؟ فقال : والله ما أقدر أن أصبر إلا على أكلات ثلاث في اليوم ، ومتى لم أفعل ذلك غشي بصري فقال له : أتطعم ؟ » فقال له لا أجد إلا أن تعينني يا رسول الله بمعونة وصلاة يريد الدعاء ، فأعانه رسول الله بخمسة عشر صاعاً ودعا له ، وقيل بثلاثين صاعاً ، فكفر بالإطعام وأمسك أهله .

وفي مصحف عبد الله بن مسعود : «تحاورك في زوجها » ، والمحاورة مراجعة القول ومعاطاته .


[1]:- أي فيمن نزلت، أفي المؤمنين جميعا أم في مؤمني أهل الكتاب؟
[2]:- ولم يكن الله ليمتن على رسوله بإيتائه فاتحة الكتاب وهو بمكة، ثم ينزلها بالمدينة، ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضع عشرة سنة يصلي بلا فاتحة الكتاب، هذا ما لا تقبله العقول، قاله الواحدي. وقوله تعالى: (ولقد آتيناك...) هو من الآية رقم (87) من سورة الحجر.
[10997]:هو أوس بن الصامت بن قيس، الخزرجي، الأنصاري، أخو عبادة بن الصامت، ذكروه فيمن شهد بدرا، قال ابن حبان: مات في أيام عثمان وله خمس وثمانون سنة، وقيل: مات سنة أربع وثلاثين بالرملة، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة.(الإصابة). وقد ذكرت أكثر المصادر والروايات أنه هو الذي ظاهر من زوجته.
[10998]:هو سلمة بن صخر بن سليمان بن الصمة-بكسر الصاد وشد الميم منا في المغني- الأنصاري، الخزرجي، ويقال: سلمان، ويقال له: البياضي، صحابي، قال البغوي: لا أعلم له حديثا مسندا إلا حديث الظهار.(الإصابة).
[10999]:أخرجه عبد الرزاق في المصنف من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن، وذكر البغوي أن الذين رووا عنه حديث الظهار هم: سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وأبو سلمة، وسماك بن عبد الرحمن، ومحمد بن عبد الرحمن.(راجع الإصابة والدر المنثور).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا وَتَشۡتَكِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ} (1)

مقدمة السورة:

سميت هذه السورة في كتب التفسير وفي المصاحف وكتب السنة { سورة المجادلة } بكسر الدال أو بفتحه كما سيأتي . وتسمى { سورة قد سمع } وهذا الاسم مشتهر في الكتاتيب في تونس ، وسميت في مصحف أبي بن كعب { سورة الظهار } .

ووجه تسميتها { سورة المجادلة } لأنها افتتحت بقضية مجادلة امرأة أوس بن الصامت لدى النبي صلى الله عليه وسلم في شأن مظاهرة زوجها .

ولم يذكر المفسرون ولا شاركوا كتب السنة ضبطه بكسر الدال أو فتحها . وذكر الخفاجي في حاشية البيضاوي عن الكشف أن كسر الدال هو المعروف ولم أدر ما أراد الخفاجي بالكشف الذي عزا إليه هذا ، فكشف القزويني على الكشاف لا يوجد فيه ذلك ، ولا في تفسير المسمى الكشف والبيان للثعلبي . فلعل الخفاجي رأى ذلك في الكشف الذي ينقل عنه الطيبي في مواضع تقريرات لكلام الكشاف وهو غير معروف في عداد شروح الكشاف ، وكسر الدال أظهر لأن السورة افتتحت بذكر التي تجادل في زوجها فحقيقة أن تضاف إلى صاحبة الجدال ، وهي التي ذكرها الله بقوله { التي تجادلك في زوجها } . ورأيت في نسخة من حاشية محمد الهمذاني على الكشاف المسماة توضيح المشكلات ، بخط مؤلفها جعل علامة كسرة تحت دال المجادلة . وأما فتح الدال فهو مصدر مأخوذ من فعل { تجادلك } كما عبر عنها بالتحاور في قوله تعالى { والله يسمع تحاوركما } .

وهذه السورة مدنية قال ابن عطية بالإجماع . وفي تفسير القرطبي عن عطاء : أن العشر الأولى منها مدني وباقيها مكي . وفيه عن الكلبي أنها مدنية إلا قوله تعالى { وما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } الآية نزلت بمكة .

وهي السورة المائة وثلاث من عداد نزول سور القرآن نزلت بعد سورة المنافقين وقبل سورة التحريم .

والذي يظهر أن سورة المجادلة نزلت قبل سورة الأحزاب لأن الله تعالى قال في سورة الأحزاب { وما جعل أزواجكم اللاء تظهرون منهن أمهاتكم } ، وذلك يقتضي أن تكون هذه الآية نزلت بعد إبطال حكم الظهار بما في سورة المجادلة لأن قوله { ما جعل } يقتضي إبطال التحريم بالمظاهرة . وإنما أبطل بآية سورة المجادلة . وقال السخاوي : نزلت سورة المجادلة بعد سورة المنافقين وقبل سورة الحجرات .

وآيها في عد أهل المدينة وأهل مكة إحدى وعشرون ، وفي عد أهل الشام والبصرة والكوفة إثنتان وعشرون .

أغراض هاته السورة

الحكم في قضية مظاهرة أوس بن الصامت من زوجه خولة .

وإبطال ما كان في الجاهلية من تحريم المرأة إذا ظاهر منها زوجها وإن عمله المخالف لما أراده الله وأنه من أوهامهم وزورهم التي كبتهم الله بإبطالها . وتخلص من ذلك إلى ضلالات المنافقين ومنها مناجاتهم بمرأى المؤمنين ليغيضوهم ويحزنوهم .

ومنها موالاتهم اليهود . وحلفهم على الكذب .

وتخلل ذلك التعرض بآداب مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم .

وشرع التصدق قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم .

والثناء على المؤمنين في مجافاتهم اليهود والمشركين .

وأن الله ورسوله وحزبهما هم الغالبون .

افتتحت آيات أحكام الظهار بذكر سبب نزولها تنويهاً بالمرأة التي وجَّهت شَكواها إلى الله تعالى بأنها لم تقصّر في طلب العدل في حقها وحق بَنِيها . ولم ترضَ بعُنجهية زوجها وابتداره إلى ما ينثر عقد عائلته دون تبصّر ولا روية ، وتعليماً لنساء الأمة الإِسلامية ورجالها واجب الذود عن مصالحها .

تلك هي قضية المرأة خولة أو خُويلة مصغراً أو جميلة بنت مالك بن ثعلبة أو بنت دُلَيْج ( مصغراً ) العَوْفية . وربما قالوا : الخزرجية ، وهي من بني عوف بن مالك بن الخزرج ، من بطون الأنصار مع زوجها أوس بن الصامت الخزرجي أخي عُبادة بن الصامت .

قيل : إن سبب حدوث هذه القضية أن زوجها رآها وهي تصلي وكانت حسنة الجسم ، فلما سلمت أرادها فأبت فغضب وكان قد ساء خلقه فقال لها : أنت عليّ كظهر أمي .

قال ابن عباس : وكان هذا في الجاهلية تحريماً للمرأة مؤبَّداً ( أي وعمل به المسلمون في المدينة بعلم من النبي صلى الله عليه وسلم وإقراره الناس عليه فاستقرّ مشروعاً ) فجاءت خولة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت له ذلك ، فقال لها : حَرُمتتِ عليه ، فقالت للرسول صلى الله عليه وسلم إن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إليّ جاعوا ، فقال : « ما عندي في أمركِ شيء » ، فقالت : يا رسول الله ما ذكَر طلاقاً . وإنما هو أبو وَلَدِي وأحب الناس إليّ فقال : « حَرُمتِ عليه » . فقالت : أشكو إلى الله فاقتي ووجدي . كلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « حَرُمتِ عليه » هتفت وشكت إلى الله ، فأنزل الله هذه الآيات .

وهذا الحديث رواه أبو داود في كتاب الظهار مجملاً بسند صحيح . وأما تفصيل قصته فمن روايات أهل التفسير وأسباب النزول يزيد بعضها على بعض ، وقد استقصاها الطبري بأسانيده عن ابن عباس وقتادة وأبي العالية ومحمد بن كعب القرظي وكلها متفقة على أن المرأة المجادِلة خولة أو خويلة أو جميلة ، وعلى أن زوجها أَوس بن الصامت .

وروى الترمذي وأبو داود حديثاً في الظهار في قصة أخرى منسوبة إلى سَلمة بن صخر البَيَاضي تشبه قصة خولة أنه ظاهرَ من امرأته ظهاراً موقناً برمضان ثم غلبته نفسهُ فَوطئها واستفتى في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخر القصة ، إلاّ أنهما لم يذكرا أن الآية نزلت في ذلك .

وإنما نسب ابنُ عطية إلى النقاش أن الآية نزلت بسبب قصة سلمة ولا يعرف هذا لغيره . وَأحسب أن ذلك اختلاط بين القصتين وكيف يصح ذلك وصريح الآية أن السائلة امرأة والذي في حديث سلمة بن صخر أنه هو السائل .

و { قد } أصله حرف تحقيق للخبر ، فهو من حروف توكيد الخبر ولكن الخطاب هنا للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو لا يخامره تردد في أن الله يعلم ما قالته المرأة التي جادلت في زوجها .

فتعيّن أن حرف { قد } هنا مستعمل في التوقع ، أي الإِشعار بحصول ما يتوقعه السامع . قال في « الكشاف » : لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجادِلة كانا يتوقعان أن يسمع الله لمجادلتها وشكواها وينزل في ذلك ما يفرج عنها اهـ .

ومعنى التوقع الذي يؤذن به حرف { قد } في مثل هذا يؤول إلى تنزيل الذي يَتوقع حصول أمر لشدة استشرافه له منزلةَ المتردد الطالب فتحقيق الخبر من تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر لنكتة كما قالوا في تأكيد الخبر ب ( إنَّ ) في قوله تعالى : { ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون } [ المؤمنون : 27 ] إنه جُعل غير السائل كالسائل حيث قُدم إليه ما يلوِّح إليه بالخبر فيستشرف له استشراف الطالب المتردد . ولهذا جزم الرضيّ في « شرح الكافية » بأن { قَد } لا بدّ فيها من معنى التحقيق . ثم يضاف إليه في بعض المواضع معان أخرى .

والسماع في قوله : { سمع } معناه الاستجابة للمطلوب وقبُوله بقرينة دخول { قد } التوقعية عليه فإن المتوقَّع هو استجابة شكواها .

وقد استُحضرت المرأة بعنوان الصلة تنويهاً بمجادلتها وشكواها لأنها دلت على توكلها الصادق على رحمة ربها بها وبأبنائها وبزوجها .

والمجادلة : الاحتجاج والاستدلال ، وتقدمت في قوله : { يجادلونك في الحق بعد ما تبين } في سورة [ الأنفال : 6 ] .

والاشتكاء : مبالغة في الشكوى وهي ذكر ما آذاه ، يقال : شكا وتشكى واشتكى وأكثرها مبالغة . اشتكى ، والأكثر أن تكون الشكاية لقصد طلب إزالة الضرّ الذي يشتكي منه بحكم أو نصر أو إشارة بحيلةِ خلاص .

وتعلق فعل التجادل بالكون في زوجها على نية مضاف معلوم من المقام في مثل هذا بكثرة : أي في شأن زوجها وقضيته كقوله تعالى : { يجادلنا في قوم لوط } [ هود : 74 ] ، وقوله : { ولا تخاطبني في الذين ظلموا } [ المؤمنون : 27 ] وهو من المسألة الملقبة في « أصول الفقه » بإضافة التحليل والتحريم إلى الأعْيان في نحو { حرمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] .

والتحاور تفاعل من حار إذا أجاب . فالتحاور حصول الجواب من جانبين ، فاقتضت مراجعةً بين شخصين .

والسماع في قوله : { والله يسمع تحاوركما } مستعمل في معناه الحقيقي المناسب لصفات الله إذ لا صارف يصرف عن الحقيقة . وكون الله تعالى عالماً بما جرى من المحاورة معلوم لا يراد من الإِخبار به إفادة الحكم ، فتعيّن صرف الخبر إلى إرادة الاعتناء بذلك التحاور والتنويه به وبعظيم منزلته لاشتماله على ترقّب النبي صلى الله عليه وسلم ما ينزله عليه من وحي ، وترقب المرأة الرحمةَ ، وإلا فإن المسلمين يعلمون أن الله عالم بتحاورهما .

وجملة { والله يسمع تحاوركما } في موضع الحال من ضمير { تجادلك } . وجيء بصيغة المضارع لاستحضار حالة مقارنة علم الله لتحاورهما زيادة في التنويه بشأن ذلك التحاور .

وجملة { الله سميع بصير } تذييل لجملة { والله يسمع تحاوركما } أي : أن الله عالم بكل صوت وبكل مرئيّ . ومن ذلك محاورة المجادلة ووقوعها عند النبي صلى الله عليه وسلم وتكرير اسم الجلالة في موضع إضماره ثلاث مرات لتربية المهابة وإثارة تعظيم منته تعالى ودواعي شكره .