معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ إِنَّ ٱلۡكَٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمۡ عَدُوّٗا مُّبِينٗا} (101)

قوله تعالى : { وإذا ضربتم في الأرض } أي : سافرتم .

قوله تعالى : { فليس عليكم جناح } أي : حرج وإثم .

قوله تعالى : { أن تقصروا من الصلاة } ، يعني من أربع ركعات إلى ركعتين ، وذلك في صلاة الظهر والعصر والعشاء .

قوله تعالى : { إن خفتم أن يفتنكم } أي : يغتالكم ويقتلكم .

قوله تعالى : { الذين كفروا } ، في الصلاة ، نظيره قوله تعالى : { على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم } [ يونس :83 ] أي : يقتلهم .

قوله تعالى : { إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً } أي : ظاهر العداوة .

اعلم أن قصر الصلاة في السفر جائز بإجماع الأمة ، واختلفوا في جواز الإتمام . فذهب أكثرهم إلى أن القصر واجب ، وهو قول عمر ، وعلي ، وابن عمر ، وجابر ، وابن عباس رضي الله عنهم . وبه قال الحسن ، وعمر بن عبد العزيز ، وقتادة ، وهو قول مالك وأصحاب الرأي ، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين في الحضر والسفر ، فأقرت صلاة السفر ، وزيد صلاة الحضر .

وذهب قوم إلى جواز الإتمام ، روي ذلك عن عثمان ، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما ، وبه قال الشافعي رضي الله عنه ، إن شاء أتم هو ، وإن شاء قصر ، والقصر أفضل .

أخبرنا الإمام عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا إبراهيم بن محمد ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : كل ذلك قد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر الصلاة وأتم . وظاهر القرآن يدل على ذلك ، لأن الله تعالى قال :{ فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } ، ولفظ " لا جناح " إنما يستعمل في الرخص لا فيما يكون حتماً ، فظاهر الآية يوجب أن القصر لا يجوز إلا عند الخوف ، وليس الأمر على ذلك ، إنما نزلت الآية على غالب أسفار النبي صلى الله عليه وسلم ، وأكثرها لم يخل عن خوف العدو . والقصر جائز في السفر في حال الأمن عند عامة أهل العلم ، والدليل عليه ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا مسلم بن خالد وعبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي داود ، عن ابن جريج ، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار عن عبد الله بن باباه عن يعلى بن أمية ، قال : قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : إنما قال الله تعالى : { أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } ، وقد أمن الناس ، فقال عمر رضي الله عنه : عجبت مما عجبت منه ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته ) .

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا عبد الوهاب عن أيوب السختياني ، عن محمد بن سيرين ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة آمناً ، لا يخاف إلا الله ، فصلى ركعتين .

وذهب قوم إلى أن ركعتي المسافر ليستا بقصر ، إنما القصر أن يصلي ركعة واحدة في الخوف ، يروى ذلك عن جابر رضي الله عنه وهو قول عطاء ، وطاووس ، والحسن ، ومجاهد ، وجعلوا شرط الخوف المذكور في الآية باقياً ، وذهب أكثر أهل العلم إلى أن الاقتصار على ركعة واحدة لا يجوز . خائفاً كان أو آمناً . واختلف أهل العلم في مسافة القصر فقالت طائفة : يجوز القصر في السفر الطويل والقصير ، روي ذلك عن أنس رضي الله عنه . وقال عمرو بن دينار : قال لي جابر بن زيد : اقصر بعرفة . أما عامة الفقهاء فلا يجوزون القصر في السفر القصير ، واختلف في حد ما يجوز به القصر ، فقال الأوزاعي : مسيرة يوم ، وكان ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم يقصران ويفطران في أربعة برد ، وهي ستة عشر فرسخاً ، وإليه ذهب مالك ، وأحمد ، وإسحاق ، وهو قول الحسن ، والزهري قريب من ذلك ، فإنهما قالا : مسيرة يومين ، وإليه ذهب الشافعي رضي الله عنه ، قال : مسيرة ليلتين قاصدتين ، وقال في موضع : ستة وأربعون ميلاً بالهاشمي ، وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي : مسيرة ثلاثة أيام . وقيل : قوله : { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } متصل بما بعده من صلاة الخوف ، منفصل عما قبله . روي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال : نزل قوله : { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } هذا القدر ثم بعد حول سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الخوف فنزل : { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ، إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً وإذا كنت فيهم } الآية . ومثله في القرآن كثير ، أن يجيء الخبر بتمامه ثم ينسق عليه خبر آخر ، وهو في الظاهر كالمتصل به ، وهو منفصل عنه ، كقوله تعالى : { الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين } [ يوسف :51 ] وهذه حكاية عن امرأة العزيز ، وقوله : { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } [ يوسف :52 ] إخبار عن يوسف عليه السلام .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ إِنَّ ٱلۡكَٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمۡ عَدُوّٗا مُّبِينٗا} (101)

يقول تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ } أي : سافرتم في البلاد ، كما قال تعالى : { عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ [ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ]{[8180]} } الآية [ المزمل : 20 ] .

وقوله : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } أي : تخَفّفوا فيها ، إما من كميتها بأن تجعل{[8181]} الرباعية ثنائية ، كما فهمه الجمهور من هذه الآية ، واستدلّوا بها على قصر الصلاة في السفر ، على اختلافهم في ذلك : فمن قائل لا بد أن يكون سفر طاعة ، من جهاد ، أو حج ، أو عمرة ، أو طلب علم ، أو زيارة ، وغير ذلك ، كما هو مروي عن ابن عمر وعطاء ، ويحكى عن مالك في رواية عنه نحوه ، لظاهر قوله : { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا }

ومن قائل{[8182]} لا يشترط سفر القربة ، بل لا بد أن يكون مباحا ، لقوله : { فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ [ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ]{[8183]} } [ المائدة : 3 ] أباح له تناول الميتة مع اضطراره إلا بشرط ألا يكون عاصيا بسفره . وهذا قول الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة .

وقد قال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا وَكِيع ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله ، إني رجل تاجر ، أختلف إلى البحرين " فأمره أن يصلي ركعتين " وهذا مرسل{[8184]} .

ومن قائل : يكفي مطلق السفر ، سواء كان مباحا أو محظورا ، حتى لو خرج لقطع الطريق وإخافة السبيل ، تَرَخَّص ، لوجود مطلق السفر . وهذا قول أبي حنيفة ، رحمه الله ، والثوري وداود ، لعموم الآية وخالفهم الجمهور . وأما قوله : { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } فقد يكون هذا خُرِّج مخرج الغالب حال نزول هذه الآية ، فإن في مبدأ الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة ، بل ما كانوا ينهضون إلا إلى غزو عام ، أو في سرية خاصة ، وسائر الأحيان حرب الإسلام وأهله ، والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب أو على حادثة فلا مفهوم له ، كقوله{[8185]} { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } [ النور : 33 ] ، وكقوله :{[8186]} { وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ } الآية [ النساء : 23 ] .

وقال الإمام أحمد : حدثنا ابن إدريس ، حدثنا ابن جُرَيْج ، عن ابن أبي عمار ، عن عبد الله بن بابَيْه ، عن يعلى بن أمية قال : سألت عمر بن الخطاب قلت : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } وقد أمَّن الله الناس{[8187]} ؟ فقال لي عمر : عجبتُ مما عجبتَ منه ، فسألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : " صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته " .

وهكذا رواه مسلم وأهل السنن ، من حديث ابن جريج ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار ، به . وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . وقال علي بن المديني : هذا حديث صحيح من حديث عمر ، ولا يحفظ إلا من هذا الوجه ، ورجاله معروفون{[8188]} وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا مالك بن مِغْول ، عن أبي حنظلة الحذَّاء قال : سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال : ركعتان . فقلت : أين قوله تعالى : { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } ونحن آمنون ؟ فقال : سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم{[8189]} .

وقال ابن مَرْدُويه : حدثنا عبد الله بن محمد بن عيسى ، حدثنا علي بن محمد بن سعيد ، حدثنا مِنْجَاب ، حدثنا شُرَيْك ، عن قيس بن وهب ، عن أبي الودَّاك : سألت ابن عمر عن ركعتين في السفر ؟ فقال : هي رخصة ، نزلت من السماء ، فإن شئتم فردوها .

وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا ابن عَوْن ، عن ابن سِيرِين ، عن ابن عباس قال : صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة ، ونحن آمنون ، لا نخاف بينهما ، ركعتين ركعتين .

وكذا رواه النسائي ، عن محمد بن عبد الأعلى ، عن خالد الحذَّاء{[8190]} عن عبد الله بن عون ، به{[8191]} قال أبو عمر بن عبد البر : وهكذا رواه أيوب ، وهشام ، ويزيد بن إبراهيم التُّسْتَرِي ، عن محمد بن سيرين ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله .

قلت : وهكذا رواه الترمذي والنسائي جميعا ، عن قتيبة ، عن هُشَيم ، عن منصور بن زَاذَان ، عن محمد بن سيرين ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مكة ، لا يخاف إلا ربَّ العالمين ، فصلى ركعتين ، ثم قال الترمذي : صحيح{[8192]} .

وقال البخاري : حدثنا أبو مَعْمَر ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا يحيى بن أبي إسحاق قال : سمعت أنسا يقول : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة ، فكان يصلي ركعتين ركعتين ، حتى رجعنا إلى المدينة . قلت : أقمتم بمكة شيئا ؟ قال : أقمنا بها عَشْرًا .

وهكذا أخرجه بقية الجماعة من طرق عن يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي ، به{[8193]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا سُفْيان ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن وهب الخُزَاعي قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر بمنى - أكثر ما كان الناس وآمنه - ركعتين .

ورواه الجماعة سوى ابن ماجه من طرق ، عن أبي إسحاق السَّبِيعي ، عنه ، به{[8194]} ولفظ البخاري : حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة ، أنبأنا أبو إسحاق ، سمعت حارثة بن وهب قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن ما كان بمنى ركعتين .

وقال البخاري : حدثنا مُسَدَّد ، حدثنا يحيى ، حدثنا عبيد الله ، أخبرنا نافع ، عن عبد الله بن عمر قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ، وأبي بكر وعمر ، ومع عثمان صدرا من إمارته ، ثم أتمها .

وكذا رواه مسلم من حديث يحيى بن سعيد القطان [ الأنصاري ]{[8195]} به{[8196]} .

وقال البخاري : حدثنا قتيبة ، حدثنا عبد الواحد ، عن الأعمش ، حدثنا إبراهيم ، سمعت عبد الرحمن بن يزيد يقول : صلى بنا عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، بمنى أربع ركعات ، فقيل في ذلك لعبد الله بن مسعود فاسترجع ، ثم قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين ، وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين ، وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين ، فليت حظي مع{[8197]} أربع ركعات ركعتان متقبلتان .

ورواه البخاري أيضا من حديث الثوري ، عن الأعمش ، به . وأخرجه مسلم من طرق ، عنه . منها عن قتيبة كما تقدم{[8198]} .

فهذه الأحاديث دالة صريحا على أن القصر ليس من شرطه وجود الخوف ؛ ولهذا قال من قال من العلماء : إن المراد من القصر هاهنا إنما هو قصر الكيفية لا الكمية . وهو قول مجاهد ، والضحاك ، والسدي كما سيأتي بيانه ، واعتضدوا أيضا بما رواه الإمام مالك ، عن صالح بن كيسان ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، أنها قالت : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في السفر والحضر ، فَأقرَّت صلاة السفر ؛ وَزِيد في صلاة الحضر .

وقد روى هذا الحديث البخاري عن عبد الله بن يوسف التنَّيسي ، ومسلم عن يحيى بن يحيى ، وأبو داود عن القَعْنَبي ، والنَّسائي عن قتيبةَ ، أربعتهم عن مالك ، به{[8199]} .

قالوا : فإذا كان أصل الصلاة في السفر هي الثنتين ، فكيف يكون المراد بالقصر هاهنا قصر الكمية ؛ لأن ما هو الأصل لا يقال فيه : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } ؟

وأصرح من ذلك دلالة على هذا ، ما رواه الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا سفيان - وعبد الرحمن حدثنا سفيان - عن زُبَيْد اليامي ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن عمر ، رضي الله عنه ، قال : صلاة السفر ركعتان ، وصلاة الأضحى{[8200]} ركعتان ، وصلاة الفطر ركعتان ، وصلاة الجمعة ركعتان ، تمام غير قصر ، على لسان محمد صلى الله عليه وسلم .

وهكذا رواه النسائي وابن ماجه ، وابن حبان في صحيحه ، من طرق عن زُبَيْد اليامي{[8201]} به{[8202]} .

وهذا إسناد على شرط مسلم . وقد حَكَم مسلم في مقدمة كتابه بسماع ابن أبي ليلى ، عن عمر . وقد جاء مصرحا به في هذا الحديث وفي غيره ، وهو الصواب إن شاء الله . وإن كان يحيى بن مَعين ، وأبو حاتم ، والنسائي قد قالوا : إنه لم يسمع منه . وعلى هذا أيضا ، فقد وقع في بعض طرق أبي يَعْلى الموصِلي ، من طريق الثوري ، عن زُبَيد ، عن عبد الرحمن [ بن أبي ليلى ]{[8203]} عن الثقة ، عن عمر فذكره ، وعند ابن ماجه من طريق يزيد بن أبي زياد بن أبي الجعد ، عن زبيد ، عن عبد الرحمن ، عن كعب بن عُجْرَة ، عن عمر ، به . ، فالله أعلم{[8204]} .

وقد روى مسلم في صحيحه ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، من حديث أبي عَوَانة الوضاح بن عبد الله اليَشْكُري - زاد مسلم والنسائي : وأيوب بن عائد - كلاهما عن بُكَير بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عباس قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا ، وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة ، [ هكذا رواه وكيع وروح بن عبادة عن أسامة بن زيد الليثي : حدثني الحسن بن مسلم بن يَسَاف عن طاوس عن ابن عباس قال : فرض الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الصلاة في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين ]{[8205]} فكما يصلى في الحضر قبلها وبعدها ، فكذلك يصلى في السفر{[8206]} .

ورواه ابن ماجه من حديث أسامة بن زيد ، عن طاوس نفسه{[8207]} .

فهذا ثابت عن ابن عباس ، رضي الله عنهما{[8208]} ولا ينافي ما تقدم عن عائشة ؛ لأنها أخبرت أن أصل الصلاة ركعتان ، ولكن زيد في صلاة الحضر ، فلما استقر ذلك صح أن يقال : إن فرض صلاة الحضر أربع ، كما قاله ابن عباس ، والله أعلم . لكن اتفق حديث ابن عباس وعائشة على أن صلاة السفر ركعتان ، وأنها تامة غير مقصورة ، كما هو مصرح به في حديث عمر ، رضي الله عنه ، وإذا كان كذلك ، فيكون المراد بقوله تعالى : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } قصر الكيفية كما في صلاة الخوف ؛ ولهذا قال : { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا ]{[8209]} } .

ولهذا قال بعدها : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ [ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ ]{[8210]} } الآية{[8211]} فبين المقصود من القصر هاهنا وذكر صفته وكيفيته ؛ ولهذا لما اعتضد{[8212]} البخاري " كتاب{[8213]} صلاة الخوف " صدره بقوله تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } إلى قوله : { إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا }

وهكذا قال جُوَيبر ، عن الضحاك في قوله : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } قال : ذاك عند القتال ، يصلي الرجل الراكب تكبيرتين حيث كان وجهه .

وقال أسباط ، عن السدي في قوله : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ } الآية : إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر فهي تمام ، التقصير لا يحل ، إلا أن تخاف من الذين كفروا أن يفتنوك عن الصلاة ، فالتقصير ركعة .

وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } يوم كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعُسفان والمشركون{[8214]} بضجْنان ، فتوافقوا ، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر أربع ركعات ، بركوعهم وسجودهم وقيامهم معا جميعا ، فَهَمَّ بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم .

روى ذلك ابن أبي حاتم . ورواه ابن جرير ، عن مجاهد والسدي ، وعن جابر وابن عمر ، واختار ذلك أيضا ، فإنه قال بعد ما حكاه من الأقوال في ذلك : وهو الصواب . وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، حدثنا ابن أبي فُدَيْك ، حدثنا ابن أبي ذئب ، عن ابن شهاب ، عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد : أنه قال لعبد الله بن عمر : إنا نجد في كتاب الله قصر صلاة الخوف ، ولا نجد قصر صلاة المسافر ؟ فقال عبد الله : إنا وجدنا نبينا صلى الله عليه وسلم يعمل عملا عملنا به .

فقد سمى صلاة الخوف مقصورة ، وحمل الآية عليها ، لا على قصر صلاة المسافر ، وأقره ابن عمر على ذلك ، واحتج على قصر الصلاة في السفر بفعل الشارع لا بنص القرآن .

وأصرح من هذا ما رواه ابن جرير أيضا : حدثني أحمد بن الوليد القرشي ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن سِمَاك الحنفي : سألت ابن عمر عن صلاة السفر ، فقال : ركعتان تمام غير قصر ، إنما القصر صلاة المخافة . فقلت : وما صلاة المخافة ؟ فقال : يصلي الإمام بطائفة ركعة ، ثم يجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء ، ويجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء ، فيصلي بهم ركعة ، فيكون للإمام ركعتان ، ولكل طائفة ركعة ركعة{[8215]} .


[8180]:زيادة من ر، أ.
[8181]:في ر: "ترجع".
[8182]:في ر: "ومن قال".
[8183]:زيادة من ر، أ.
[8184]:المصنف (2/448).
[8185]:في ر: "لقوله".
[8186]:في ر: "لقوله".
[8187]:في أ: "البأس".
[8188]:المسند (1/25) وصحيح مسلم برقم (686) وسنن أبي داود برقم (1199) وسنن النسائي (3/116) وسنن ابن ماجه برقم (1065).
[8189]:المصنف (2/447) ورواه أحمد في مسنده (2/31) عن طريق يزيد بن إسماعيل عن أبي حنظلة عن ابن عمر رضي الله عنه.
[8190]:في أ: "ابن الحارث".
[8191]:المصنف (2/448) وسنن النسائي (3/117).
[8192]:سنن الترمذي برقم (547) وسنن النسائي (3/117).
[8193]:صحيح البخاري برقم (1081) وصحيح مسلم برقم (693) وسنن أبي داود برقم (1233) وسنن الترمذي برقم (548) وسنن النسائي (3/118) وسنن ابن ماجه برقم (1077).
[8194]:المسند (4/306) وصحيح البخاري برقم (1083) وصحيح مسلم برقم (696) وسنن أبي داود برقم (1965) وسنن الترمذي برقم (882) وسنن النسائي (3/120).
[8195]:زيادة من أ.
[8196]:صحيح البخاري برقم (1082) وصحيح مسلم برقم (694) وسنن النسائي (3/121).
[8197]:في ر، أ: "من".
[8198]:صحيح البخاري برقم (1084) و ( 1657) وصحيح مسلم برقم (695).
[8199]:الموطأ في قصر الصلاة في السفر برقم (8)، (1/146) وصحيح البخاري برقم (350) وصحيح مسلم برقم (685) وسنن أبي داود برقم (1198) وسنن النسائي (1/225).
[8200]:في أ: "الضحى".
[8201]:في ر: "الأيامى".
[8202]:المسند (1/37) وسنن النسائي (3/111) وسنن ابن ماجه برقم (1063) وصحيح ابن حبان (4/197).
[8203]:زيادة من أ.
[8204]:انظر صحيح مسلم المقدمة (1/34) والمراسيل لابن أبي حاتم (125) وتاريخ الدروي عن يحيى بن معين (2/356). والصحيح أن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من عمر، بل قال ابن معين في رواية ابن أبي شيبة عنه: لم يسمع من عمر ولا عثمان وسمع من علي. وانظر: تهذيب الكمال للمزي (17/376) وحاشية الدكتور بشار عواد عليه.
[8205]:زيادة من أ.
[8206]:صحيح مسلم برقم (687) وسنن أبي داود برقم (1247) وسنن النسائي (3/169) وسنن ابن ماجه برقم (1068).
[8207]:سنن ابن ماجه برقم (1072).
[8208]:في ر: "عنه".
[8209]:زيادة من ر، أ.
[8210]:زيادة من ر، أ.
[8211]:في ر، أ: "إلى آخرها".
[8212]:في أ: "عقد".
[8213]:في ر: "في كتاب".
[8214]:في ر: "والمسلمون".
[8215]:تفسير الطبري (9/134).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ إِنَّ ٱلۡكَٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمۡ عَدُوّٗا مُّبِينٗا} (101)

{ وإذا ضربتم في الأرض } سافرتم . { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } بتنصيف ركعاتها ونفي الحرج فيه يدل على جوازه دون وجوبه ، ويؤيده أن عليه الصلاة والسلام أتم في السفر . وأن عائشة رضي الله تعالى عنها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت : يا رسول الله قصرت وأتممت ، وصمت وأفطرت . فقال " أحسنت يا عائشة " . وأوجبه أبو حنيفة لقول عمر رضي الله تعالى عنه : صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم ، ولقول عائشة رضي الله تعالى عنها أول ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر . فظاهرهما يخالف الآية الكريمة فإن صحا فالأول مؤول بأنه كالتمام في الصحة والإجزاء ، والثاني لا ينفي جواز الزيادة فلا حاجة إلى تأويل الآية . بأنهم ألفوا الأربع فكانوا مظنة لأن يخطر ببالهم أن ركعتي السفر قصر ونقصان ، فسمي الإتيان بهما قصرا على ظنهم . ونفي الجناح فيه لتطيب به نفوسهم ، وأقل سفر تقصر فيه أربعة برد عندنا وستة عند أبي حنيفة .

قرئ { تقصروا } من أقصر بمعنى قصر ومن الصلاة صفة محذوف أي : شيئا من الصلاة عند سيبويه ، ومفعول تقصروا بزيادة عند الأخفش . { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا } شريطة باعتبار الغالب في ذلك الوقت ، ولذلك لم يعتبر مفهومها كما لم يعتبر في قوله تعالى : { فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به } وقد تظاهرت السنن على جوازه أيضا في حال الأمن . وقرئ من الصلاة أن يفتنكم بغير إن خفتم بمعنى كراهة أن يفتنكم : وهو القتال والتعرض بما يكره .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ إِنَّ ٱلۡكَٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمۡ عَدُوّٗا مُّبِينٗا} (101)

انتقال إلى تشريع آخر بمناسبة ذكر السفر للخروج من سلطة الكفر ، على عادة القرآن في تفنين أغراضه ، والتماس مناسباتها . والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها . والضرب في الأرض : السفر .

( وإذا ) مضمّنة معنى الشرط كما هو غالب استعمالها ، فلذلك دخلت الفاء على الفعل الذي هو كجواب الشرط . ( وإذا ) منصوبة بفعل الجواب .

وقصر الصلاة : النقص منها ، وقد عُلم أنّ أجزاء الصلاة هي الركعات بسجداتها وقراءاتها ، فلا جرم أن يعلم أنّ القصر من الصلاة هو نقص الركعات ، وقد بيّنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذ صيّر الصلاة ذات الأربع الركعات ذات ركعتين . وأجملت الآية فلم تعيّن الصلوات التي يعتريها القصر ، فبيّنته السنّة بأنّها الظهر والعصر والعشاء . ولم تقصر الصبح لأنّها تصير ركعة واحدة فتكون غير صلاة ، ولم تقصر المغرب لئلاّ تصير شفعاً فإنّها وتر النهار ، ولئلاّ تصير ركعة واحدة كما قلنا في الصبح .

وهذه الآية أشارت إلى قصر الصلاة الرباعية في السفر ، ويظهر من أسلوبها أنّها نزلت في ذلك ، وقد قيل : إنّ قصر الصلاة في السفر شُرع في سنة أربع من الهجرة وهو الأصحّ ، وقيل : في ربيع الآخر من سنة اثنتين ، وقيل : بعد الهجرة بأربعين يوماً . وقد روى أهل الصحيح قول عائشة رضي الله عنها : فُرِضت الصلاة ركعتين فأقِرّت صلاة السفر وزيدت صلاة الحضر ، وهو حديث بيّن واضح . ومحمل الآية على مقتضاه : أنّ الله تعالى لمّا فرض الصلاة ركعتين فتقرّرت كذلك فلمّا صارت الظهر والعصر والعشاء أربعاً نسخ ما كان من عددها ، وكان ذلك في مبدأ الهجرة ، وإذ قد كان أمر الناس مقاماً على حالة الحضر وهي الغالب عليهم ، بطل إيقاع الصلوات المذكورات ركعتين ، فلمّا غزوا خفف الله عنهم فأذنهم أن يصلّوا تلك الصلوات ركعتين ركعتين ، فلذلك قال تعالى : { فليس عليكم جناح } وقال : { أن تقصروا من الصلاة } وإنّما قالت عائشة « أقرت صلاة السفر » حيث لم تتغيّر عن الحالة الأولى ، وهذا يدلّ على أنّهم لم يصلّوها تامّة في السفر بعد الهجرة ، فلا تعارض بين قولها وبين الآية .

وقوله : { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } شرط دلّ على تخصيص الإذن بالقصر بحَال الخوف من تمكّن المشركين منهم وإبطالِهم عليهم صلاتهم ، وأنّ الله أذن في القصر لتقع الصلاة عن اطمئنان ، فالآية هذه خاصّة بقصر الصلاة عند الخوف ، وهو القصر الذي له هيئة خاصّة في صلاة الجماعة ، وهذا رأي مالك ، يدلّ عليه ما أخرجه في « الموطأ » : أنّ رجلاً من آل خالد بن أسِيد سأل عبد الله بن عُمر « إنّا نجد صلاة الخوف وصلاة الحضر في القرآن ولا نجد صلاة السفر » ، فقال ابن عمر : « يابن أخي إنّ الله بعث إلينا محمداً ولا نعلم شيئاً فإنّما نفعل كما رأيناه يفعل » ، يعني أنّ ابن عمر أقرّ السائل وأشعره بأنّ صلاة السفر ثبتت بالسنّة ، وكذلك كانت ترى عائشة وسعد بن أبي وقّاص أنّ هذه الآية خاصّة بالخوف ، فكانا يكمّلان الصلاة في السفر .

وهذا التأويل هو البيّن في محمل هذه الآية ، فيكون ثبوت القصر في السفر بدون الخوف وقصر الصلاة في الحضر عند الخوف ثابتين بالسنّة ، وأحدهما أسبق من الآخر ، كما قال ابن عمر . وعن يعلى بن أمية أنّه قال : قلت لعمر بن الخطاب : إنّ الله تعالى يقول : { إن خفتم } وقد أمِن الناس . فقال : عجبتُ ممّا عجبتَ منه فسألتُ رسول الله عن ذلك فقال " صدقةٌ تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقَته " . ولا شكّ أنّ محمل هذا الخبر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ عمرَ على فهمه تخصيصَ هذه الآية بالقصر لأجل الخوف ، فكان القصر لأجل الخوف رخصة لدفع المشقّة ، وقوله : له صدقة الخ ، معناه أنّ القصر في السفر لغير الخوف صدقة من الله ، أي تخفيف ، وهو دون الرخصة فلا تردّوا رخصته ، فلا حاجة إلى ما تَمَحّلوا به في تأويل القيد الذي في قوله : { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } وتقتصر الآية على صلاة الخوف ، ويستغني القائلون بوجوب القصر في السفر مثل ابن عباس ، وأبي حنيفة ، ومحمد بن سحنون ، وإسماعيل بن إسحاق من المالكية ؛ والقائلون بتأكيد سنّة القصر مثل مالك بن أنس وعامّة أصحابه ، عن تأويل قوله : { فليس عليكم جناح } بما لا يلائم إطلاق مثل هذا اللفظ . ويكون قوله : { وإذا ضربتم في الأرض } إعادة لتشريع رخصة القصر في السفر لقصد التمهيد لقوله : { وإذا كنت فيهم } الآيات .

أمّا قصر الصلاة في السفر فقد دلّت عليه السنّة الفعلية ، واتَّبعه جمهور الصحابة إلاّ عائشة وسعدَ بن أبي وقاص ، حتّى بالغ من قال بوجوبه من أجل حديث عائشة في « الموطأ » و« الصحيحين » لدلالته على أنّ صلاة السفر بقيت على فرضها ، فلو صلاّها رباعية لكانت زيادة في الصلاة ، ولقول عمر فيما رواه النسائي وابن ماجة : صلاة السفر ركعتان تمامٌ غيرُ قصر . وإنّما قال مالك بأنّه سنّة لأنّه لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة السفر إلاّ القصر ، وكذلك الخلفاء من بعده . وإنّما أتمّ عثمان بن عفّان الصلاة في الحج خشية أن يتوهّم الأعراب أنّ الصلوات كلّها ركعتان . غير أنّ مالكاً لم يقل بوجوبه من أجل قوله تعالى : { فليس عليكم جناح } لمنافاته لصيغ الوجوب . ولقد أجاد محامل الأدلّة .

وأخْبِر عن الكافرين وهو جمع بقوله : { عَدُوّاً } وهو مفرد . وقد قدّمنا ذلك عند قوله تعالى : { فإن كان من قوم عدوَ لكم } [ النساء : 92 ] .