التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ إِنَّ ٱلۡكَٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمۡ عَدُوّٗا مُّبِينٗا} (101)

قوله تعالى : ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا ) الضرب في الأرض معناه السفر ، وهو مسوّغ لقصر الصلاة شرعا . والقصر في اللغة هو الإنقاص أو هو ضد الإطالة . فإذا كان أحد مسافرا فليس عليه من إثم إذا ما قصر صلاته حال السفر إلى أن ينوي الإقامة . ولا يكون القصر إلا في الصلاة الرباعية فيخرج من ذلك صلاة المغرب وصلاة الفجر فإنها باقية على حالها من غير قصر .

أما حكم القصر فهو سنّة عند جمهور السلف والخلف من الفقهاء فيكون القصر على هذا الأساس مستحبا لا مفروضا . ونقل عن الإمام مالك بأنه فرض ، وذهب عامة أصحابه إلى أن المفروض هو التخفيف ، فالمسافر مخيّر بين الإتمام والقصر ، وذلك ( التخيير ) هو المفروض وهو الراجح في المذاهب .

ولدى التحقيق في أقوال الأئمة وأهل العلم يتبين أن قصر الصلاة أمر مسنون وخلاف ذلك يعتبر مخالفة للسنة . وقد روي عن الشافعي قوله : من صلّى أربعا فلا شيء عليه ولا أحب لأحد أن يتم في السفر رغبة عن السنة .

وسئل أحمد بن حنبل عن الرجل يصلّي في السّفر أربعا قال : لا ، ما يعجبني ، السنّة ركعتان . وسأل رجل عبد الله بن عمر : إنا نجد صلاة الخوف وصلاة الحضر في القرآن ولا نجد صلاة السفر . فقال عبد الله بن عمر : إن الله بعث إلينا محمدا ( ص ) ولا نعلم شيئا فإنا نفعل كما رأيناه يفعل .

أما حد المسافة التي يقطعها المسافر ليتسنى له القصور فذلك موضع خلاف العلماء . فقد ذكر أصحاب المذهب الظاهري إلى جواز القصر في كل سفر سواء كان طويلا أو قصيرا استنادا إلى ظاهر النص القرآني هنا . وذهب مالك والشافعي وأحمد وآخرون إلى تحديده ، بيوم واحد وعوّلوا في ذلك على حصول المشقة غالبا وهي تحصل من السفر يوما تاما والاستناد في ذلك إلى الحديث : " لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم منها " .

وذهب أبو حنيفة إلى تحديده بثلاثة أيام ولياليها سيرا على الأقدام ، وهو قول عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وحذيفة ، واستدلوا في ذلك بما أخرجه البخاري عن ابن عمر أن النبي ( ص ) قال : " لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم " .

وثمة قول آخر في تحديد السفر لإباحة القصر وهو يومان وهو قول الحسن البصري والزهري استدلالا بما رواه أبو سعيد الخدري عن النبي ( ص ) أنه قال : " لا تسافر المرأة مسيرة ليلتين إلا مع زوج أو ذي محرم " {[821]} .

أما صفة السفر الذي يجوز فيه قصر الصلاة فذلك موضع خلاف العلماء أيضا على أن الإجماع حاصل فيما يتعلق بالسفر الذي تتحصل به الفرائض أو الواجبات أو السنن وذلك كالحج والجهاد والعمرة وصلة الأرحام وغير ذلك من وجوه السفر المأمور به ، فقصر الصلاة في ذلك جائز .

أما السفر الذي يتحصّل فيه المباح كالتجارة والنزهة والصيد والنكاح ونحو ذلك فقد ذهب جمهور العلماء إلى جواز قصر الصلاة فيه . ومرتبة القول بذلك هي دون الإجماع إذ هي قول الجمهور وقد روي عن عبد الله بن مسعود قوله بعدم قصر الصلاة إلا في سفر يتحقق به واجب كالحج أو الجهاد .

وإن كان السفر في معصية كالباغي وقاطع الطريق ونظارهما من المفسدين في الأرض ، فقد ذهب الجمهور إلى عدم القصر في مثل ذلك ؛ لأنه سفر معصية .

وخالف أبو حنيفة في ذلك وهو أن القصر في جميع ضروب السفر جائز يستوي في ذلك أن يكون السفر في طاعة أو معصية استنادا إلى عموم الآية .

على أن الراجح هو قول الجمهور بجواز القصر في السفر المباح فضلا عن جوازه حين أداء الفريضة . ومناط ذلك أن المقصود بشرعية القصر هو التخفيف عن المسافر إذا حصل له مشقة ، وهي حاصلة في غالب الأسفار . ومن المعلوم في الدين نفي العسر والحرج في عامة الأحوال لقوله تعالى : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) وقوله : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) .

أما السفر في المعصية فالراجح أنه لا قصر فيه ؛ لأن القول بالقصر طريق إلى المحظور وعون للمسافر العاصي على المعصية وهو سبحانه يقول : ( ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) {[822]} .

أما زمن القصر للمسافر ففيه خلاف كذلك . فثمّة قول بأنه ليس له أن يقصر حتى يخرج من بيوت البلدة التي ينوي السفر منها . وذلك مذهب جمهور العلماء .

وفي قول آخر لفريق من الصحابة وعطاء بن أبي رباح وهو جواز البدء في القصر عند العزم على السفر فله بذلك أن يقصر وهو في بيته يزمع على السير . وهذا المعنى مأخوذ من تأويل آخر للآية : ( وإذا ضربتم في الأرض ) أي المقصود هو فيما إذا عزمتم على الضرب في الأرض . وقيل غير ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم .

وتلك مسألة أخرى في مدة الإقامة التي إذا نواها المسافر بات مقيما وعليه الإتمام . وقد جاء فيها عدة أقوال :

أحدها : إذا نوى المسافر أن يقيم أربعة أيام فعليه الإتمام . وهو قول مالك والشافعي والليث وهو مروي عن سعيد بن المسيّب .

ثانيها : إذا نوى المسافر أن يقيم خمس عشرة ليلة فعليه الإتمام وإن نوى الإقامة أقل من ذلك سمح له أن يقصر . وهو قول أبي حنيفة وأصحابه . وقد روي هذا القول عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس .

ثالثها : أن يعزم المسافر على الإقامة مدة إحدى وعشرين صلاة مكتوبة ، فإن كان كذلك جاز له القصر ، وإن عزم على أن يقيم أكثر من هذه المدة وجب عليه أن يتم . وهو قول أحمد وداود الظاهري .

رابعها : جواز القصر أبدا ما دام المسافر بعيدا عن وطنه ولم ينو الإقامة فلو كان مسافرا وطال به حال السفر ولم ينو أن يقيم فهو معتبر مسافرا وله حق القصر حتى يعود إلى وطنه أو ينوي الإقامة بعيدا عن موطنه السابق . فقد روي عن أنس ( رضي الله عنه ) أنه كان قد أقام بنيسابور مدة سنتين وهو يقصر الصلاة من غير أن ينوي الإقامة ؛ إذ كان يؤخر من رجوعه من حين لآخر لما يعرض له من أسباب تعيق . وروي كذلك عن عبد الله بن عمر أنه أقام بأذربيجان مدة طويلة لم يستطع فيها الرجوع بسبب الثلوج المتراكمة وكان خلال هذه المدة يقصر صلاته من غير نية في الإقامة طيلة هذه المدة . لكنه كان مؤملا في الرجوع من وقت لآخر لولا أسباب تعرض له فتحول دون الإياب . فالمسافر والحالة هذه لا يعتبر مقيما ؛ لأنه لم يقصد الإقامة فجاز له القصر وذلك عندي هو الراجح المختار{[823]} .

قوله : ( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) الفتنة هي الشرك ، أو العذاب يحيق بالمؤمن فيردّه عن دينه إلى ملّة الكافرين .

يتبين من ظاهر هذه الآية أن قصر الصلاة حين الضرب في الأرض جائز بشرطين اثنين وهما : الضرب في الأرض والخوف معا . ذلك في الكتاب الكريم ، لكن السنّة قد ورد فيها جوز القصر لحصول السفر وحده من غير إشراك للخوف . وقد سأل ابن عمر النبي ( ص ) عن ذلك فقال : " تلك صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " .

وثبت عنه ( ص ) أنه قصر الصلاة من أربع ركعات إلى اثنتين في أسفاره جميعها حالة كونه آمنا وليس من خوف . وذلك معتبر سنّة من سننه ( ص ) مما ليس في القرآن له بيان . وهو عليه الصلاة والسلام مخوّل من ربه ليضطلع بوجيبة التشريع فيما يكون بيانا أو توضيحا للكتاب الحكيم لقوله سبحانه : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) .

ويقول عليه الصلاة والسلام في هذا الصدد عن مهمته في الإتيان بما ليس في الكتاب : " ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه " وهو يقصد بذلك السنة لما تنطوي عليه من معان وأحكام لا وجود لها في الكتاب .

والظاهر من قوله : ( إن خفتم أن يفتنكم ) أن ذلك قد خرج مخرج الغالب فقد كان المسلمون في غالب أسفارهم تحيق بهم أسباب الخوف فلا يشترط أن يقترن الخوف بالسفر لجواز القصر بل إن مجرّد السفر وحده يكفي .

ومن جهة أخرى فلو حصل الخوف وحده من غير سفر جاز القصر وتلك صلاة الخوف وهي لا لزوم لوجود الشرطين معا من أجل جوازها ، وذلك كما لو داهم العدوّ المسلمين في دارهم فيجوز القصر حينئذ من غير اشتراط لحصول السفر .

قوله : ( إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا ) ذلك بتوجيه للمسلمين كي يحاذروا ويأخذوا بأسباب اليقظة والحيطة فإن الكافرين لهم بالمرصاد يودّون أن يميلوا عليهم فيجتثوا شأفتهم . وقد يغتنمون فرصة انشغال المسلمين بالصلاة إذا كانت فترتها الزمنية طويلة نسبيا مثل الصلاة الرباعية . وبذلك فقد شرع الله للمسلمين أن يقصروا الصلاة تخفيفا لهما وإعجالا لكي يبادروا العدو بدوام الترقب والذر فلا يأخذهم على غرّة أو يجتاحهم في فترة يذهلون خلالها من أسلحتهم وأنفسهم وهم يصطفّون للصلاة خشّعاً آمنين متفرغين{[824]} .


[821]:- سبل السلام جـ 2 ص 38 ونيل الأوطار جـ 3 ص 230 والهداية جـة 1 ص 80 والمحلى جـ 4 ص 264.
[822]:- الهداية جـ 1 ص 82 والمحلى جـ 4 ص 264.
[823]:- الأم جـ 1 ص 186 وبلغة السلك على حاشية الدردير جـ 1 ص 172 وتحفة الفقهاء جـ 1 ص 258.
[824]:- تفسير القرطبي جـ 5 ص 360-363.