جامع البيان في تفسير القرآن للإيجي - الإيجي محيي الدين  
{وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ إِنَّ ٱلۡكَٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمۡ عَدُوّٗا مُّبِينٗا} (101)

{ وإذا ضربتم في الأرض } سافرتم { فليس عليكم جناح } حرج { أن تقصُروا من الصلاة } هذه العبارة تدل على جواز القصر لا على وجوبه ، لكن أكثر السلف على وجوبه ، وقال كثير منهم : هذه الآية في صلاة الخوف ، فالمراد : أن تقصروا من جميع الصلوات بأن تجعلوها ركعة واحدة أو من كيفيتها لا من كميتها ، والآية التي بعدها تبيين وتفصيل لها كما سنذكر ، سئل ابن عمر رضي الله عنهما أنا نجد في كتاب الله قصر صلاة الخوف ولا تجد قصر صلاة المسافر ؟ فقال ابن عمر : إنا وجدنا نبينا يعمل فعملنا به{[1099]} وما يدل على ذلك كثير ولهذا لما عقد البخاري كتاب صلاة الخوف{[1100]} صدره بهذه الآية وعلى هذا قوله { إن خفتم أن{[1101]} يفتنكم الذين كفروا } شرط{[1102]} له لا باعتبار الغالب في ذلك الوقت ويعتبر ولا يعتبر مفهومه فإن الإجماع على جواز القصر في السفر من غير خوف { إن الكافرين كانوا لهم عدوّا مبينا }


[1099]:أخرجه ابن جرير في (تفسيره) (5/155، 156) من طريق: ابن أبي ذئب عن ابن شهاب عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد أنه قال لعبد الله بن عمر.... فذكره. وذكره ابن كثير في (تفسيره) (1/547) والسيوطي في (الدر المنثور) (3/273).
[1100]:الفتح (2/497).
[1101]:إن كان المراد من الآية صلاة الخوف فهذا شرط لا يجوز قصر الخوف بدون هذا، وإن كان المراد قصر السفر فهذا بيان واقع غالب أسفارهم ونظير ذلك وربائبكم اللاتي في حجوركم كما بينا، وفي مسلم: (سئل عمر إن شرط قصر الصلاة في القرآن الخوف وقد أمن؟ الناس فقال عمر: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما سألتم عنه فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته/12 وجيز. [أخرجه مسلم (2/337) ط الشعب].
[1102]:ظاهر الآية يدل على جواز القصر في مطلق السفر، وأن قليل السفر وكثيره سواء في حصول الرخصة، لأن قوله تعالى: (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) جملة مركبة من شرط وجزاء الشرط هو الضرب في الأرض والجزاء هو جواز القصر، وإذا حصل الشرط وجب أن يترتب عليه الجزاء لا يقال فهذا يقتضي حصول الرخصة، عند انتقال الإنسان من محلة إلى محلة، ومن دار إلى دار؛ لأنا نقول الانتقال من محلة إلى محلة لا يسمى ضربا في الأرض لا شرعا ولا عرفا، وأن قوله تعالى: (وإذا ضربتم في الأرض) يدل على جعل الضرب في الأرض شرطا لحصول هذه الرخصة فلو كان الضرب في الأرض اسما لمطلق الانتقال لكان ذلك حاصلا دائما امتنع جعله شرطا لثبوت هذا الحكم، فلما جعل الله الضرب شرطا لثبوت هذا الحكم علمنا أنه مغاير لمطلق الانتقال؛ وذلك هو الذي يسمى سفرا، ومعلوم أن اسم السفر واقع على القريب والبعيد فعلمنا دلالة الآية على حصول الرخصة في مطلق السفر وأيضا اضطراب أقوال الفقهاء في ذلك يدل على أنهم لم يجدوا في المسألة دليلا قويا في تقدير المدة، إذ لو حصل في المسألة دليل ظاهر الدلالة لما حصل هذا الاضطراب، وأما سكوت سائر الصحابة عن حكم هذه المسألة فلعله إنما كان لأنهم اعتقدوا أن هذه الآية دالة على ارتباط الحكم بمطلق السفر، فكان هذا الحكم ثابتا في مطلق السفر بحكم هذه الآية، وإذا كان الحكم مذكورا في نص القرآن لم يكن بهم حاجة إلى الاجتهاد والاستنباط، فلهذا سكتوا عن هذه المسألة وأيضا السفر واقعة تعم الحاجة على معرفة حكمها، لأن الحاجة إليها عامة لأن أكثر الصحابة كانوا في أكثر الأوقات في السفر وفي الغزو، فلو كانت رخص السفر مخصوصة بسفر مقدر كانت الحاجة إلى مقدار السفر المقيد للرخص حاجة عامة في حق المكلفين ولو كان الأمر كذلك لعرفوها ولنقلوها نقلا متواترا لاسيما وهو على خلاف ظاهر القرآن وأيضا دلائل الشافعية ودلائل الحنفية صارت متقابلة متدافعة، وإذا تعارضت تساقطت فوجب الرجوع إلى ظاهر القرآن والله أعلم/12. وفي معالم التنزيل اختلف أهل العلم في مسافة القصر فقالت طائفة: يجوز القصر في السفر الطويل والقصير روي ذلك عن أنس وقال عمر بن دينار: قال لي جابر بن زيد: أقصر بعرفة، أما عامة الفقهاء فلا يجوزون القصر في السفر القصير، واختلفوا في حد ما يجوز به القصر فقال الأوزاعي: مسيرة يوم وكان ابن عمر وابن عباس يقصران ويفطران في أربعة برد وهي ستة عشر فرسخا، وإليه ذهب مالك وأحمد وإسحاق ولكن قول الحسن والزهري قريب من ذلك قالا: مسيرة يومين وإليه ذهب الشافعي قال: مسيرة ليلتين قاصدتين وقال في موضع: ستة أربعون ميلا بالهاشمي، وفي الكبير قال مالك والشافعي: أربعة برد كل بريد أربعة فراسخ كل فرسخ ثلاثة أميال بأميال هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي قدر أميال البادية كل ميل اثنا عشر ألف قدم وهي أربعة آلاف خطوة فإن كل ثلاثة أقدام خطوة/12.