ثم إنه سبحانه بعد أن أمر بالجهاد ورغب في الهجرة أردف ذلك ببيان كيفية الصلاة عند الضرورات من تخفيف المؤنة ما يؤكد العزيمة على ذلك ، فقال سبحانه وتعالى :
{ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الارض } أي سافرتم أيّ سفر كان ، ولذا لم يقيد بما قيد به المهاجرة ، والشافعي رضي الله تعالى عنه يخص السفر بالمباح كسفر التجارة والطاعة كسفر الحج ويخرج سفر المعصية كقطع الطريق والإباق فلا يثبت فيه الحكم الآتي لأنه رخصة ، وهي إنما تثبت تخفيفاً وما كان كذلك لا يتعلق بما يوجب التغليظ لأن إضافة الحكم إلى وصف يقتضي خلافه فساد في الوضع ، ولنا إطلاق النصوص مع وجود قرينة في بعضها تشعر بإرادة المطلق وزيادة قيد عدم المعصية نسخ على ما عرف في موضعه ، ولأن نفس السفر ليس بمعصية إذ هو عبارة عن خروج مديد وليس في هذا شيء من المعصية ، وإنما المعصية ما يكون بعده كما في السرقة ، أو مجاوره كما في الإباق فيصلح من حيث ذاته متعلق الرخصة لإمكان الانفكاك عما يجاوره كما إذا غصب خفاً ولبسه فإنه يجوز له أن يمسح عليه لأن الموجب ستر قدمه ولا محظور فيه ، وإنما هو في مجاوره وهو صفة كونه مغصوباً وتمامه في الأصول والمراد من الأرض ما يشمل البر والبحر ، والمقصود التعميم أي إذا سافرتم في أي مكان يسافر فيه من بر أو بحر .
{ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } أي حرج وإثم { أَن تَقْصُرُواْ } أي في أن تقصروا ، والقصر خلاف المد يقال : قصرت الشيء إذا جعلته قصيراً بحذف بعض أجزائه أو أوصافه ، فمتعلق القصر إنما هو ذلك الشيء لا بعضه فإنه متعلق الحذف دون القصر ، فقوله تعالى : { مِنَ الصلاة } ينبغي على هذا أن يكون مفعولاً لتقصروا و { مِنْ } زائدة حسبما نقله أبو البقاء عن الأخفش القائل بزيادتها في الإثبات ، وأما على تقدير أن تكون تبعيضية ويكون المفعول محذوفاً والجار والمجرور في موضع الصفة على ما نقله الفاضل المذكور عن سيبويه أي شيئاً من الصلاة فينبغي أن يصار إلى وصف الجزء بوصف الكل ، أو يراد بالقصر الحبس كما في قوله تعالى : { حُورٌ مقصورات فِى الخيام } [ الرحمن : 72 ] أو يراد بالصلاة الجنس ليكون ( المقصود ) بعضاً منها وهي الرباعية أي فليس عليكم جناح في أن تقصروا بعض الصلاة بتنصيفها ، وقرىء { تَقْصُرُواْ } من أقصر ومصدره الإقصار وقرأ الزهري { تَقْصُرُواْ } بالتشديد ومصدره التقصير والكل بمعنى .
وأدنى مدة السفر الذي يتعلق به القصر في المشهور عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه مسيرة ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ، ومشي الأقدام بالاقتصاد في البر ، وجري السفينة والريح معتدلة في البحر ، ويعتبر في الجبل كون هذه المسافة من طريق الجبل بالسير الوسط أيضاً ، وفي رواية عنه رضي الله تعالى عنه التقدير بالمراحل وهو قريب من المشهور .
وقدر أبو يوسف بيومين وأكثر الثالث ، والشافعي رحمه الله تعالى في قول : بيوم وليلة ، وقدر عامة المشايخ ذلك بالفراسخ ، ثم اختلفوا فقال بعضهم : أحد وعشرون فرسخاً وقال آخرون ثمانية عشر ، وآخرون خمسة عشر ، والصحيح عدم التقدير بذلك ، ولعل كل من قدر بقدر مما ذكر اعتقد أنه مسيرة ثلاثة أيام ولياليها ، والدليل على هذه المدة ما صح من قوله صلى الله عليه وسلم : " يمسح المقيم كمال يوم وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها " لأنه صلى الله عليه وسلم عمم الرخصة الجنس ، ومن ضرورته عموم التقدير ، والقول بكون «ثلاثة أيام » ظرفاً للمسافر لا ليمسح يأباه أن السوق ليس إلا لبيان كمية مسح المسافر لا لإطلاقه ، وعلى تقدير كونه ظرفاً للمسافر يكون يمسح مطلقاً وليس بمقصود ، وأيضاً يبطل كونه ظرفاً لذلك أن المقيم يمسح يوماً وليلة إذ يلزم عليه اتحاد حكم السفر والإقامة في بعض الصور وهي صورة مسافر يوم وليلة لأنه إنما يمسح يوماً وليلة وهو معلوم البطلان للعلم بفرق الشرع بين المسافر والمقيم على أن ظرفية «ثلاثة » للمسافر تستدعي ظرفية اليوم للمقيم ليتفق طرفا الحديث ، وحينئذٍ يكون لا يكاد ينسب إلى أفصح من نطق بالضاد صلى الله عليه وسلم ، وربما يستدل للقصر في أقل من ثلاثة بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : «يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان » فإنه يفيد القصر في الأربعة برد وهي تقطع في أقل من ثلاثة ، وأجيب بأن راوي الحديث عبد الوهاب بن مجاهد ، وهو ضعيف عند النقلة جداً حتى كان سفيان يزريه بالكذب فليفهم .
واحتج الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه بظاهر الآية الكريمة على عدم وجوب القصر وأفضلية الإتمام ، وأيد ذلك بما أخرجه ابن أبي شيبة والبزار والدارقطني عن عائشة رضي الله تعالى عنها : «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم » وما أخرجه النسائي والدارقطني وحسنه البيهقي وصححه " أن عائشة رضي الله تعالى عنها لما اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت : يا رسول الله قصرت وأتممت وصمت وأفطرت ؟ فقال : أحسنت يا عائشة " وبما روي عن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه كان يتم ويقصر ، وعندنا يجب القصر لا محالة خلا أن بعض مشايخنا سماه عزيمة ، وبعضهم رخصة إسقاط بحيث لا مساغ للإتمام لا رخصة ( توفية ) إذ لا معنى للتخيير بين الأخف والأثقل ، وهو قول عمر وعلي وابن عباس وابن عمر وجابر وجميع أهل البيت رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وبه قال الحسن وعمر بن عبد العزيز وقتادة ، وهو قول مالك ، وأخرج النسائي .
وابن ماجه عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال : «صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم عليه الصلاة والسلام » وروى الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : «أول ما فرض الله تعالى الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر » وأما روي عنها من الإتمام فقد اعتذرت عنه ؛ وقالت : أنا أم المؤمنين فحيث حللت فهي داري كما اعتذر عثمان رضي الله تعالى عنه عن إتمامه بأنه تأهل بمكة وأزمع الإقامة بها كما روي عن الزهري فلا يرد أنها رضي الله تعالى عنها خالف رأيها روايتها ، وإذا خالف الراوي روايته في أمر لا يعمل بروايته فيه ، والقول : بأن حديثها غير مرفوع لأنها لم تشهد فرض الصلاة غير مسلم لجواز أنها سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم ، نعم ذكر بعض الشافعية أن الخبر مؤل بأن الفرض في قولها : «فرضت ركعتين » بمعنى البيان ، وقد ورد بهذا المعنى ك { فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أيمانكم } [ التحريم : 2 ] .
وقال الطبري : معناه فرضت لمن اختار ذلك من المسافرين ، وهذا كما قيل في الحاج : إنه مخير في النفر في اليوم الثاني والثالث ، وأياً فعل فقد قام بالفرض وكان صواباً ، وقال النووي : «المعنى فرضت ركعتين لمن أراد الاقتصار عليهما فزيد في ( صلاة ) الحضر ركعتان على سبيل التحتم ، وأقرت صلاة السفر على جواز ( الإتمام ) وحيث ثبتت دلائل ( جواز ) ( الإتمام ) وجب المصير إلى ذلك جمعاً بين الأدلة » ، وقال ابن حجر عليه الرحمة : «والذي يظهر لي في جمع الأدلة أن الصلاة فرضت ليلة الإسراء ركعتين ركعتين إلا المغرب ، ثم زيدت عقب الهجرة إلا الصبح كما رواه ابن خزيمة وابن حبان والبيهقي عن عائشة ، وفيه : وتركت الفجر لطول القراءة والمغرب لأنها وتر النهار ، ثم بعد ما استقر فرض الرباعية خفف منها في السفر عند نزول الآية ، ويؤيده قول ابن الأثير ( في شرح المسند ) : إن القصر كان في السنة الرابعة من الهجرة ، وهو مأخوذ من قول غيره : إن نزول آية الخوف ( كان ) ( 2 ) فيها ، وقيل : القصر كان في ربيع الآخر من السنة الثانية كما ذكره الدولابي ، وقال السهيلي : إنه بعد الهجرة بعام أو نحوه ، وقيل : بعد الهجرة بأربعين يوماً فعلى هذا قول عائشة رضي الله تعالى عنها «فأقرت صلاة السفر » أي باعتبار ما آل إليه الأمر من التخفيف لا أنها استمرت منذ فرضت فلا يلزم من ذلك أن القصر عزيمة » انتهى . واستبعد هذا الجمع بأنها لو كانت قبل الهجرة ركعتين لاشتهر ذلك ، وقال آخرون منهم : إن الآية صريحة في عدم وجوب الإتمام ، وما ذكر خبر واحد فلا يعارض النص الصريح على أنه مخصوص بغير الصبح والمغرب ، وحجية العام المخصوص مختلف فيها ، وذكر أصحابنا أن كثرة الأخبار ، وعمل الجم الغفير من الصحابة والتابعين وجميع العترة رضي الله تعالى عنهم أجمعين بما يقوي القول بالوجوب ووروده بنفي الجناح لأنهم ألفوا الإتمام فكانوا مظنة أن يخطر ببالهم أن عليهم نقصاناً في القصر فصرح بنفي الجناح عليهم لتطيب به نفوسهم وتطمئن إليه كما في قوله تعالى :
{ فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } [ البقرة : 158 ] مع أن ذلك الطواف واجب عندنا ، ركن عند الشافعي رحمه الله تعالى ، وعن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أنه تلا هذه الآية لمن استبعد الوجوب بنفي الجناح .
{ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ } جوابه محذوف لدلالة ما قبل عليه أي إن خفتم أن يتعرضوا لكم بما تكرهونه من القتال أو غيره فليس عليكم جناح الخ ، وقد أخذ بعضهم بظاهر هذا الشرط فقصر القصر على الخوف ، وأخرج ابن جرير عن عائشة رضي الله تعالى عنها ، والذي عليه الأئمة أن القصر مشروع في الأمن أيضاً ؛ وقد تظاهرت الأخبار على ذلك فقد أخرج النسائي والترمذي وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة ونحن آمنون لا نخاف شيئاً ركعتين » وأخرج الشيخان وغيرهما من أصحاب السنن عن حارثة بن وهب الخزاعي أنه قال : «صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر بمنى أكثر ما كان الناس وآمنه ركعتين » إلى غير ذلك ، ولا يتوهمن أنه مخالف للكتاب لأن التقييد بالشرط عندنا إنما يدل على ثبوت الحكم عند وجود الشرط ، وأما عدمه عند عدمه فساكت عنه فإن وجد له دليل ثبت عنده أيضاً ، وإلا يبقى على حاله لعدم تحقق دليله لا لتحقق دليل عدمه . وناهيك ما سمعت من الأدلة الواضحة ، وأما عند القائلين بالمفهوم فلأنه إنما يدل على نفي الحكم عند عدم الشرط إذا لم يكن فيه فائدة أخرى ، وقد خرج الشرط ههنا مخرج الأغلب كما قيل في قوله تعالى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ } [ البقرة : 229 ] بل قد يقال إن الآية الكريمة مجملة في حق مقدار القصر وكيفيته وفي حق ما يتعلق به من الصلوات وفي مقدار مدة الضرب الذي نيط به القصر فكلما ورد منه صلى الله عليه وسلم من القصر في حال الأمن وتخصيصه بالرباعيات على وجه التنصيف وبالضرب في المدة المعينة بيان لإجمال الكتاب كما قاله شيخ الإسلام ، وقال بعضهم : إن القصر في الآية محمول على قصر الأحوال من الإيماء وتخفيف التسبيح والتوجه إلى أي وجه وحينئذٍ يبقى الشرط على ظاهر مقتضاه المتبادر إلى الأذهان ، ونسب ذلك إلى طاوس والضحاك .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية : قصر الصلاة إن لقيت العدو وقد حانت الصلاة أن تكبر الله تعالى وتخفض رأسك إيماءاً راكباً كنت أو ماشياً ، وقيل : إن قوله تعالى : { إِنْ خِفْتُمْ } الخ متعلق بما بعده من صلاة الخوف منفصل عما قبله .
فقد أخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : «سأل قوم من التجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي ؟ فأنزل الله تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الارض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة } ثم انقطع الوحي فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر فقال المشركون : لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم ؟ فقال قائل منهم : إن لهم أخرى مثلها في إثرها فأنزل الله تعالى بين الصلاتين { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ } إلى قوله سبحانه وتعالى : { إِنَّ الله أَعَدَّ للكافرين عَذَاباً مُّهِيناً } [ النساء : 102 ] فنزلت صلاة الخوف » ولعل جواب الشرط على هذا محذوف أيضاً على طرز ما تقدم ، ونقل الطبرسي عن بعضهم أن القصر في الآية بمعنى الجمع بين الصلاتين وليس بشيء أصلاً . وقرأ أبيّ كما قال ابن المنذر : فأقصروا من الصلاة أن يفتنكم ، والمشهور أنه كعبد الله أسقط { إِنْ خِفْتُمْ } فقط ، وأياً مّا كان فإن في موضع المفعول له لما دل عليه الكلام بتقدير مضاف كأنه قيل : شرع لكم ذلك كراهة { أَن يَفْتِنَكُمُ } الخ فإن استمرار الاشتغال بالصلاة مظنة لاقتداء الكافرين على إيقاع الفتنة ، وقوله تعالى : { إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً } إما تعليل لذلك باعتبار تعلله بما ذكر ، أو تعليل لما يفهم من الكلام من كون فتنتهم متوقعة فإن كمال العداوة من موجبات التعرض بالسوء ، و { عَدُوّا } كما قال أبو البقاء : في موضع أعداء ، وقيل : هو مصدر على فعول مثل الولوع والقبول ، و { لَكُمْ } حال منه ، أو متعلق ب ( كان ) .
( هذا ومن باب الإشارة ) : في الآيات : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الارض } أي سافرتم في أرض الاستعداد لمحاربة عدو النفس أو لتحصيل أحوال الكمالات { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة } أي تنقصوا من الأعمال البدنية { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ } [ النساء : 101 ] أي حجبوا عن الحق من قوى الوهم والتخيل ، وحاصله الترخيص لأرباب السلوك عند خوف فتنة القوى أن ينقصوا من الأعمال البدنية ويزيدوا في الأعمال القلبية كالفكر والذكر ليصفوا القلب ويشرق نوره على القوى فتقل غائلتها فتزكو عند ذلك الأعمال البدنية ، ولا يجوز عند أهل الاختصاص ترك الفرائض لذلك كما زعمه بعض الجهلة { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ } ولم تكن غائباً عنهم بسيرك في غيب الغيب وجلال المشاهدة وعائماً في بحار «لي مع الله تعالى وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل »