قوله تعالى : { واكتب لنا } أوجب لنا .
قوله تعالى : { في هذه الدنيا حسنة } ، النعمة والعافية .
قوله تعالى : { وفي الآخرة } أي : وفي الآخرة { حسنة } ، أي المغفرة والجنة .
قوله تعالى : { إنا هدنا إليك } ، أي : تبنا إليك .
قوله تعالى : { قال } الله تعالى .
قوله تعالى : { عذابي أصيب به من أشاء } ، من خلقي .
قوله تعالى : { ورحمتي وسعت }أي عمت .
قوله تعالى : { كل شيء } قال الحسن وقتادة : وسعت رحمته في الدنيا البر والفاجر ، وهي يوم القيامة للمتقين خاصة ، قال عطية العوفي : وسعت كل شيء ولكن لا تجب إلا للذين يتقون ، وذلك أن الكافرين يرزقون ، ويدفع عنهم بالمؤمنين لسعة رحمة الله للمؤمنين ، فيعيش فيها ، فإذا صار إلى الآخرة وجبت للمؤمنين خاصة ، كالمستضيء بنار غيره إذا ذهب صاحب السراج بسراجه . قال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة وابن جريج : لما نزلت : { ورحمتي وسعت كل شيء } قال إبليس : إنا من ذلك الشيء . قوله تعالى : { فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون } فتمناها اليهود والنصارى ، وقالوا : نحن نتقي ، ونؤتي الزكاة ، ونؤمن ، فجعلها الله لهذه الأمة .
{ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ } هناك الفصل الأول من الدعاء دفع المحذور ، وهذا لتحصيل المقصود { وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ } أي : أوجب لنا وأثبت لنا فيهما حسنة ، وقد تقدم [ تفسير ]{[12173]} ذلك في سورة البقرة . [ الآية : 201 ]
{ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } أي : تبنا ورجعنا وأنبنا إليك . قاله ابن عباس ، وسعيد بن جُبَير ، ومجاهد ، وأبو العالية ، والضحاك ، وإبراهيم التيمي ، والسُّدِّي ، وقتادة ، وغير واحد . وهو كذلك لُغَة .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا أبي ، عن شريك ، عن جابر ، عن عبد الله بن نُجيَّ{[12174]} عن علي [ رضي الله عنه ]{[12175]} قال : إنما سميت اليهود لأنهم قالوا : { إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ }
جابر - هو ابن يزيد الجُعْفي - ضعيف .
قال تعالى مجيبا لموسى في قوله : { إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ [ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ ] }{[12176]} الآية : { عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ] }{[12177]} أي : أفعل ما أشاء ، وأحكم ما أريد ، ولي الحكمة والعدل في كل ذلك ، سبحانه لا إله إلا هو .
وقوله تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } آية عظيمة الشمول والعموم ، كقوله إخبارًا عن حَمَلة العرش ومن حوله أنهم يقولون : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } [ غافر : 7 ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا أبي ، حدثنا الجُرَيري ، عن أبي عبد الله الجُشَمي ، حدثنا جُنْدُب - هو ابن عبد الله البَجَلي ، رضي الله عنه - قال : جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم عَقَلها ثم صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى راحلته فأطلق عقالها ، ثم ركبها ، ثم نادى : اللهم ، ارحمني ومحمدًا ، ولا تشرك في رحمتنا أحدًا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتقولون هذا أضل أم بعيره ؟ ألم تسمعوا ما قال ؟ " قالوا : بلى . قال : " لقد حَظَرْت{[12178]} رحمةً واسعة ؛ إن الله ، عز وجل ، خلق مائة رحمة ، فأنزل رحمة واحدة يتعاطف بها الخلق ؛ جنّها وإنسها وبهائمها ، وأخَّرَ عنده تسعًا وتسعين{[12179]} رحمة ، أتقولون هو أضل أم بعيره ؟ " .
رواه أبو داود عن علي بن نصر ، عن عبد الصمد بن عبد الوارث ، به{[12180]}
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا يحيى بن سعيد عن سليمان ، عن أبي عثمان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن لله عز وجل ، مائة رحمة ، فمنها رحمة يتراحمُ بها الخلق ، وبها تعطف الوحوش على أولادها ، وأخر تسعًا وتسعين إلى يوم القيامة " .
تفرد{[12181]} بإخراجه مسلم ، فرواه من حديث سُلَيمان - هو ابن طِرْخان - وداود بن أبي هند كلاهما ، عن أبي عثمان - واسمه عبد الرحمن بن مل{[12182]} - عن سلمان ، هو الفارسي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، به{[12183]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد ، عن عاصم بن بَهْدَلَة ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ؛ أن النبي{[12184]} صلى الله عليه وسلم قال : " لله مائة رحمة ، عنده تسعة وتسعون ، وجعل عندكم واحدة تتراحمون بها بين{[12185]} الجن والإنس وبين الخلق ، فإذا كان يوم القيامة ضمها إليه " . تفرد به أحمد من هذا الوجه{[12186]}
وقال أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا عبد الواحد ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لله مائة رحمة ، فقسم منها جزءًا واحدًا بين الخلق ، فيه يتراحم الناس والوحش والطير " .
ورواه ابن ماجه من حديث أبي معاوية ، عن الأعمش ، به{[12187]}
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا سعد أبو غَيْلان الشيباني ، عن حماد بن أبي سليمان ، عن إبراهيم ، عن صلة بن زُفَر ، عن حذيفة بن اليمان ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ، ليدخلن الجنة الفاجرُ في دينه ، الأحمق في معيشته . والذي نفسي بيده ، ليدخلن الجنة الذي قد مَحَشته النار بذنبه . والذي نفسي بيده ، ليغفرن الله يوم القيامة مغفرة يتطاول لها إبليس رجاء أن تصيبه " .
هذا حديث غريب{[12188]} جدا ، " وسعد " هذا لا أعرفه{[12189]}
وقوله : { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } الآية ، يعني : فسأوجب حُصُول رحمتي مِنَّةً مني وإحسانا إليهم ، كما قال تعالى : { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } [ الأنعام : 54 ]
وقوله : { لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } أي : سأجعلها للمتصفين بهذه الصفات ، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يتقون ، أي : الشرك والعظائم من الذنوب .
{ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } قيل : زكاة النفوس . وقيل : [ زكاة ]{[12190]} الأموال . ويحتمل أن تكون عامة لهما ؛ فإن الآية مكية { وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } أي : يصدقون .
{ واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة } حسن معيشة وتوفيق طاعة . { وفي الآخرة } الجنة . { إنا هدنا إليك } تبنا إليك من هاد يهود إذا رجع . وقرئ بالكسر من هاده يهيده إذا أماله ، ويحتمل أن يكون مبنيا للفاعل وللمفعول بمعنى أملنا أنفسنا وأملنا إليك ، ويجوز أن يكون المضموم أيضا مبنيا للمفعول منه على لغة من يقول عود المريض . { قال عذابي أصيب به من أشاء } تعذيبه . { ورحمتي وسعت كل شيء } في الدنيا المؤمن والكافر بل المكلف وغيره . { فسأكتبها } فسأثبتها في الآخرة ، أو فسأكتبها كتبة خاصة منكم يا بني إسرائيل . { للذين يتقون } الكفر والمعاصي . { ويؤتون الزكاة } خصها بالذكر لإنافتها ولأنها كانت أشق عليهم . { والذين هم بآياتنا يؤمنون } فلا يكفرون بشيء منها .
{ اكتب } معناه أثبت واقض ، والكتب مستعمل في ما يخلد ، و { حسنة } لفظ عام في كل ما يحسن في الدنيا من عافية وغنى وطاعة لله تعالى وغير ذلك وحسنة الآخرة الجنة لا حسنة دونها ولا مرمى وراءها و { هُدنا } بضم الهاء معناه تبنا ، وقرأ أبو وجزة «هِدنا » بكسر الهاء ومعناه حركنا أنفسنا وجذبناها لطاعتك ، وهو مأخوذ من هاد يهيد إذا حرك ، وقوله تعالى : { قال عذابي أصيب به من أشاء } الآية ، قال الله عز وجل : إن الرجفة التي أنزلت بالقوم هي عذابي أصيب به من شئت ثم أخبر عن رحمته ، ويحتمل وهو الأظهر أن الكلام قصد به الخبر عن عذابه وعن رحمته من أول ما ابتدأ ، ويندرج أمر أصحاب الرجفة في عموم قوله عند { عذابي أصيب به من أشاء } وقرأ الحسنَ وطاوس وعمرو بن فائد «من أساء » من الإساءة أي من عمل غير صالح ، وللمعتزلة بهذه القراءة تعلق من وجهين : أحدهما إنفاذ الوعيد ، والآخر خلق المرء أفعاله وأن أساء لا فعل فيه لله ، وهذان التعلقان فيهما احتمال ينفصل عنه كما ينفصل عن سائر الظواهر إلا أن القرأة أطنبوا في التحفظ من هذه القراءة ، وقال أبو عمرو الداني : لا تصح هذه القراءة عن الحسن وطاوس ، وعمرو بن فائد رجل سوء ، وذكر أبو حاتم أن سفيان بن عيينة قرأها مرة واستحسنها فقام إليه عبد الرحمن المقبري وصاح به وأسمعه فقال سفيان : لم أدر ولم أفطن لما يقول أهل البدع ، وهذا إفراط من المقربين وحملهم على ذلك شحهم على الدين وظنهم أن الانفصال عن تعلق المعتزلة متعذر .
ثم وصف الله تعالى رحمته بأنها { وسعت كل شيء } فقال بعض العلماء : هو عموم في الرحمة وخصوص في قوله { كل شيء } والمراد من قد سبق في علم الله أن يرحمه دون من سواهم ، وقال بعضهم : هو عموم في رحمة الدنيا لأن الكافر والمؤمن والحيوان كله متقلب في رحمة الله الدنياوية ، وقالت فرقة : قوله : { ورحمتي } يراد به التوبة وهي خاصة على هذا في الرحمة وفي الأشياء لأن المراد من قد تقع منه التوبة ، وقال نوف البكالي : إن إبليس لما سمع قول الله تعالى : { ورحمتي وسعت كل شيء } طمع في رحمة الله فلما سمع { فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة } يئس إبليس وبقيت اليهود والنصارى ، فلما تمادت الصفة تبين أن المراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويئس اليهود والنصارى من الآية ، وقال نحوه قتادة ، وقوله : { فسأكتبها } أي أقدرها وأقضيها ، وقال نوف البكالي : إن موسى عليه السلام قال يا رب جعلت وفادتي لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال نوف البكالي : فاحمدوا الله الذي جعل وفادة بني إسرائيل لكم ، وقوله : { يتقون } في هذه الآية قالت فرقة : معناه يتقون الشرك ، وقالت فرقة : يتقون المعاصي .
قال القاضي أبو محمد : ومن قال : الشرك لا غير خرج إلى قول المرجئة ، ويرد عليه من الآية شرط الأعمال بقوله : { ويؤتون الزكاة } ، ومن قال المعاصي ولا بد خرج إلى قول المعتزلة ، والصواب بأن تكون اللفظة عامة ولكن ليس بأن نقول ولا بد من اتقاء المعاصي بل بأن نقول مع أن مواقع المعاصي في مشيئة الله تعالى ، ومعنى : { يتقون } يجعلون بينهم وبين المتقى وقاية وحجاباً ، فذكر الله تعالى الرتبة العالية ليتسابق السامعون إليها ، وقوله : { ويؤتون الزكاة } الظاهر من قوله { يؤتون } أنها الزكاة المختصة بالمال وخصها هنا بالذكر تشريفاً لها وجعلها مثالاً لجميع الطاعات ، وقال ابن عباس فيما روي عنه : ويؤتون الأعمال التي يزكون بها أنفسهم .
جملة : { قال } الخ جوابٌ لكلام موسى عليه السلام ، فلذلك فصلت لوقوعها على طريقة المحاورة ، كما تقدم غير مرة ، وكلام موسى ، وإن كان طلبا ، وهو لا يستدعي جواباً ، فإن جواب الطالب عناية به وفضْل .
والمراد بالعذاب هنا عذاب الدنيا ، لأن الكلام جواب لقول موسى : { أتهلكنا بما فعل السفهاء منا } والإهلاك عذاب ، فبيّن اللَّهُ له أن عذاب الدنيا يصيب الله به من يشاء من عباده ، وقد أجمل الله سبب المشيئة وهو أعلم به ، وموسى يعلمه إجمالاً ، فالكلام يتضمن طمأنة موسى من أن يناله العذاب هو والبزآء من قومه ، لأن الله أعظم من أن يعاملهم معاملةَ المجرمين . والمعنى إني قادر على تخصيص العذاب بمن عصوا وتنجية من لم يشارك في العصيان ، وجاء الكلام على طريقة مجملة شأن كلام مَن لا يُسأل عما يعقل .
وقوله : { ورحمتي وسعت كل شيء } مقابل قول موسى : { فاغفر لنا وارحمنا } . وهو وعد تعريض بحصول الرحمة المسؤولة له ولمن معه من المختارين ، لأنها لما وسعت كل شيء فهم أرجى الناس بها ، وأن العاصين هم أيضاً مغمورون بالرحمة ، فمنها رحمة الإمهال والرزق ، ولكن رحمة الله عباده ذات مراتب متفاوتة .
وقوله : { عذابي أصيب به من اشاء } إلى قوله { كل شيء } جواب إجمالي ، هو تمهيد للجواب التفصيلي في قوله : { فسأكتبها } .
والتفريع في قوله : { فسأكتبها } تفريع على سعة الرحمة ، لأنها لما وسعت كل شيء كان منها ما يكتب أي يعطى في المستقبل للذين أجريت عليهم الصفات ويتضمن ذلك وعداً لموسى ولصلحاء قومه لتحقق تلك الصفات فيهم ، وهو وعد ناظر إلى قول موسى { إنا هدنا إليك } والضمير المنصوب في { أكْتُبها } عائدِ إلى { رحمتي } فهو ضمير جنس ، وهو مساو للمعرف بلام الجنس ، أي اكتب فَردا من هذا الجنس لأصحاب هذه الصفات ، وليس المراد أنه يكتب جميع الرحمة لهؤلاء لأن هذا غير معروف في الاستعمال في الإخبار عن الأجناس ، لكن يُعلم من السياق أن هذا النوع من الرحمة نوع عظيم بقرينة الثناء على متعلِقها بصفات توذن باستحقاقها ، وبقرينة السكوت عن غيره ، فيعلم أن لهذا المتعلِق رحمة خاصة عظيمة وأن غيره داخل في بعض مراتب عموم الرحمة المعلومة من قوله : { وَسِعت كل شيء } وقد أفصح عن هذا المعنى الحصر في قوله في آخر الآية { أولئك هم المفلحون } .
وتقدم معنى { أكتبها } قريباً .
وقد تقدم معنى : { وسعت كل شيء } في قوله تعالى : { وسع ربنا كل شيء علما } في هذه السورة ( 89 ) .
والمعنى : أن الرحمة التي سألها موسى له ولقومه وعدَ اللَّهُ بإعطائِها لمن كان منهم متصفاً بأنه من المتقين والمؤتين الزكاة ، ولمن كان من المؤمنين بآيات الله ، والآياتُ تصدق : بدلاِئل صدق الرسل ، وبكلمات الله التي شرع بها للناس رَشادهم وهديهم ، ولا سيما القرآن لأن كل مقدار ثلاث آيات منه هو آية لأنهُ معجز فدال على صدق الرسول ، وهو المقصود هنا ، وهم الذين يتبعون الرسول الامي إذا جاءهم ، أي يطيعونه فيما يأمرهم ، ولما جعلت هذه الأشياء بسبب تلك الرحمة علم أن التحصيل على بعضها يحصّل بعض تلك الرحمة بما يناسبه ، بشرط الإيمان ، كما علم من آيات أخرى خاطب الله بها موسى كقوله آنفاً { والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا } [ الأعراف : 153 ] فتشمل هذه الرحمة من اتقى وآمن وآتى الزكاة من بني إسرائيل قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فإن أتباعهم إياه متعذر الحصول قبل بعثته ، ولكن يجب أن يكونوا عازمين على اتباعه عند مجيئه إن كانوا عالمين بذلك كما قال تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاقَ النبيئين لما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } [ آل عمران : 81 ، 82 ] . وتشمل الرحمة أيضاً الذين يؤمنون بآيات الله ، والمعنى بها الآيات التي ستجيء في المستقبل ، لأن آيات موسى قد استقر الإيمان بها يومئذ ، وهذا موجب إعادة اسم الموصول في ذكر أصحاب هذه الصلة ، للإشارة إلى أنهم طائفة أخرى ، وهم من يكون عند بعثة محمد عليه الصلاة والسلام ، ولذلك أبدل منهم قوله : { الذين يتبعون الرسولَ } إلخ .
وهو إشارة إلى اليهود والنصارى الكائنين في زمن البعثة وبعدها لقوله : { الذي يجدونه مكتوباً عندهم } ولقوله : { ويضع عنهم إصرهم والأغلالَ التي كانت عليهم } فإنه يدل على أنهم كانوا أهل شريعة فيها شدة وحرج ، والمراد بآيات الله : القرآن ، لأن ألفاظه هي المخصوصة باسم الآيات ، لأنها جُعلت معجزات للفصحاء عن معارضتها . ودالة على أنها من عند الله وعلى صدق رسوله ، كما تقدم في المقدمة الثامنة .
وفي هذه الآية بشارة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وهي مشيرة إلى ما في التوراة من الإصحاح العاشر حتى الرابع عشر ، والاصحاح الثامن عشر من سفر التثنية : فإن موسى بعد أن ذكَرهم بخطيئة عبادتهم العجل ، وذكر مناجاته لله للدعاء لهم بالمغفرة ، كما تضمنه الإصحاح التاسع من ذلك السفر ، وذكرناه آنفاً في تفسير قوله : { واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا } ، ثم ذكر في الإصحاح العاشر أمرهم بالتقوى بقوله : « فالآن يا إسرائيل ما يطلب منكَ الرب إلا أن تتقي ربك لتسلك في طرقه وتحبه » . ثم ذكر فيه وفي الثلاثة بعده وصايا تفصيلاً للتقوى ، ثم ذكر في الإصحاح الرابع عشر الزكاة فقال « تعشيراً تعشر كل محصول زرعك سنة بسنة عشر حنطتك وخمرك وزيتك وأبكار بقرك وغنمك ، وفي آخر ثلاث سنين تخرج كل عشر محصولك في تلك السنة فتضعه في أبوابك فيأتي اللاوي والغريب واليتيم والأرملة الذين على أبوابك فيأكلون ويشبعون » إلخ . ثم ذكر أحكاماً كثيرة في الإصحاحات الثلاثة بعده .
ثم في الإصحاح الثامن عشر قوله : « يُقيم لك الرب نبياً ومن وسط إخواتك مثلي له تسمعون حسب كل ما طلبتُ من الرب في حُوريب ( أي جبل الطور حين المناجاة ) يوم الاجتماع قال لي الرب أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك وأجعلُ كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به » فدل هذا على أن هذا النبي من غير بني إسرائيل لقوله : « من وسط أخوتك » فإن الخطاب لبني إسرائيل ، ولا يكونون إخوة لأنفسهم . وإخوتُهم هم أبناء أخي أبيهم : إسماعيل أخي إسحاق ، وهم العرب ، ولو كان المراد به نبيئاً من بني إسرائيل مثل ( صمويل ) كما يؤوله اليهود لقال : من بينكم أو من وسطكم ، وعُلم أن النبي رسول بشرع جديد من قوله : « مثلك » فإن موسى كان نبياً رسولاً ، فقد جمع القرآن ذلك كله في قوله : { للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون } إلخ .
ومن نكت القرآن الجمع في هذه الآية بين وصفي النبوة والرسالة للإشارة إلى أن اليهود بدّلوا وصف الرسول ، وعبروا عنه بالنبي ، ليصدق على أنبياء ليصدق على أنبياء بني إسرائيل ، وغفلوا عن مفاد قوله مثلك ، وحذفوا وصف الأمي ، وقد كانت هذه الآية سبب إسلام الحبر العظيم الأندلسي السموأل بن يحيى اليهودي ، كما حكاه عن نفسه في كتابه الذي سماه « غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود » .
فهذه الرحمة العظيمة تختص بالذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى ، وتشمل الرسل والأنبياء الذين أخذ الله عليهم العهد بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فكانوا عالمين ببعثته يقيناً فهم آمنوا به ، وتنزلوا منزلة من اتبع ما جاء به ، لأنهم استعدوا لذلك ، وتشمل المسلمين من العرب وغيرهم غير بني إسرائيل ، لأنهم ساروا من آمن بمحمد عليه الصلاة والسلام من اليهود في اتباع الرسول النبي الأمي .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة}، يعني المغفرة، {وفي الآخرة} حسنة، يعني الجنة، {إنا هدنا إليك}، يعني تبنا إليك، {قال} الله: {عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء}، يعني ملأت كل شيء، {فسأكتبها}، يعني الرحمة، {للذين يتقون}... ربهم، {ويؤتون الزكاة}، يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم، {والذين هم بآياتنا يؤمنون}، يعني بالقرآن يصدقون أنه من الله...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن دعاء نبيه موسى عليه السلام أنه قال فيه:"وَاكْتُبْ لَنا": أي اجعلنا ممن كتبت له "فِي هَذِهِ الدّنْيا حَسَنَةً "وهي الصالحات من الأعمال، "وَفي الاَخِرَةِ "ممن كتبت له المغفرة لذنوبه...
وقوله: "إنّا هُدْنا إلَيْكَ" يقول: إنا تبنا إليك...
"قالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أشاءُ وَرَحْمَتي وَسِعَتْ كُلّ شَيْءٍ فَسأَكْتُبُها لِلّذِينَ يَتّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزّكاةَ والّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ" يقول تعالى ذكره: قالَ الله لموسى: هذا الذي أصبت به قومك من الرجفة "عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أشاءُ" من خلقي، كما أصيب به هؤلاء الذين أصبتهم به من قومك. "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلّ شَيْءٍ" يقول: ورحمتي عمت خلقي كلهم. وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: مخرجه عامّ ومعناه خاصّ، والمراد به: ورحمتي وسعت المؤمنين بي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، واستشهد بالذي بعده من الكلام، وهو قوله: "فَسأَكْتُبُها للّذِينَ يَتّقُونَ..."...
وقال آخرون: بل ذلك على العموم في الدنيا وعلى الخصوص في الآخرة... عن الحسن وقتادة، في قوله: "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلّ شَيْءٍ" قالا: وسعت في الدنيا البرّ والفاجر، وهي يوم القيامة للذين اتقوا خاصة.
وقال آخرون: هي على العموم، وهي التوبة... وأما قوله: "فَسأَكْتُبُها للّذِينَ يَتّقُونَ" فإنه يقول: فسأكتب رحمتي التي وسعت كلّ شيء... للقوم الذين يخافون الله ويخشون عقابه على الكفر به والمعصية له في أمره ونهيه، فيؤدون فرائضه، ويجتنبون معاصيه...
وأما الزكاة وإيتاؤها، فقد بيّنا صفتها فيما مضى بما أغنى عن إعادته.
وقد ذُكر عن ابن عباس في هذا الموضع أنه قال في ذلك..."وَيُؤْتُونَ الزّكاةَ" قال: يطيعون الله ورسوله، فكأن ابن عباس تأوّل ذلك بمعنى أنه العمل بما يزكي النفس ويطهّرها من صالحات الأعمال.
وأما قوله: "وَالّذِينَ هُمْ بآياتِنا يُؤْمِنُونَ" فإنه يقول: وللقوم الذين هم بأعلامنا وأدلتنا يصدّقون ويقرّون.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله -عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ..)
تحتمل الكتابة الإيجاب، أي: أوجب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة أو الإثبات، أي: أثبت لنا وأعطنا في هذه الدنيا حسنة ويكون كقوله: (آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَاكْتُبْ لَنَا)، أي: وفق لنا العمل الذي نستوجب به الحسنة في الدنيا والآخرة.
وقوله- عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً) تختم بها الدنيا وتنقضي بها، وإلا ما من مسلم إلا وله في هذه الدنيا حسنة أتاه إياها، وعلى ذلك يخرج قوله: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) أنهم إنما سألوا حسنة لأن يختموا عليها، ويكون قوله: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ)، كذا، واللَّه أعلم بذلك.
وقوله -عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (هُدْنَا إِلَيْكَ)، أي: ملنا إليك...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله "قال عذابي أصيب به من أشاء "حكاية عما أجابهم الله به من أن عذابه يصيب به من يشاءه ممن استحقه بعصيانه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
نَطَقَ بلسان التضرع والابتهال حيث صَفَّى إليه الحاجة، وأخلص له في السؤال فقال: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الآخِرَةِ} أي اهدنا إليك. وفي هذه إشارة إلى تخصيص نبيِّنا -صلى الله عليه وسلم- في التبري من الحول والقوة والرجوع إلى الحقِّ لأن موسى -عليه السلام قال: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي...} ونبيُّنا صلى الله عليه وسلم قال: "لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقلَّ من ذلك"، وقال:"... ويقال في قوله تعالى: {وَسِعَتْ كُلَّ شَيء} مجالٌ لآمالِ العُصَاة؛ لأنهم وإن لم يكونوا من جملة المطيعين والعبادين والعارفين فهم شيء... "فَسَأَكْتُبُهَا"...أي سأوجبها لهم، فيجب الثواب للمؤمنين من الله ولا يجب لأحدٍ شيء على الله إذ لا يجب عليه شيءٍ لعزِّه في ذاته...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{واكتب لَنَا} وأثبت لنا وأقسم {فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ}: عافية وحياة طيبة وتوفيقاً في الطاعة، {وَفِي الآخرة} الجنة. {هُدْنَا إِلَيْكَ} تبنا إليك، وهاد إليه يهود إذا رجع وتاب. والهود: جمع هائد، وهو التائب...
وقرأ أبو وجرة السعدي: «هِدنا إليك» (بكسر الهاء)، من هاده يهيده: إما حرّكه وأماله، ويحتمل أمرين؛ أن يكون مبنياً للفاعل والمفعول بمعنى حركنا إليك أنفسنا وأملناها أو حرّكنا إليك وأملنا على تقدير: فعلنا، كقولك: عدت يا مريض بكسر العين، فعلت من العيادة...
{عَذَابِي} من حاله وصفته أني {أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء} أي من وجب عليّ في الحكمة تعذيبه، ولم يكن في العفو عنه مساغ لكونه مفسدة. وأمّا {رَّحْمَتِي} فمن حالها وصفتها أنها واسعة تبلغ كل شيء، ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلاّ وهو متقلب في نعمتي... فسأكتب هذه الرحمة كتبه خاصة منكم يا بني إسرائيل للذين يكونون في آخر الزمان من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، الذين هم بجميع آياتنا وكتبنا يؤمنون، لا يكفرون بشيء منها.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {حسنة} لفظ عام في كل ما يحسن في الدنيا من عافية وغنى وطاعة لله تعالى وغير ذلك وحسنة الآخرة الجنة لا حسنة دونها ولا مرمى وراءها...
ومعنى: {يتقون}: يجعلون بينهم وبين المتقى وقاية وحجاباً...
: {عذابي أصيب به من أشاء} معناه إني أعذب من أشاء وليس لأحد علي اعتراض لأن الكل ملكي، ومن تصرف في خالص ملكه فليس لأحد أن يعترض عليه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
وكأنه أحسن العفو عنهم فقال عاطفاً على سؤاله فيه: {واكتب لنا} أي في مدة إحيائك لنا {في هذه الدنيا} أي الحاضرة والدنية {حسنة} أي عيشة راضية طيبة {وفي} الحياة {الآخرة} أي كذلك؛ ثم علل ذلك بقوله: {إنا هدنا} أي تبنا {إليك} أي عما لا يليق بجنابك كما أمرتنا أن نجبر ما عساه يقع منا بالمبادرة إلى التوبة، فبدأ بذكر عزة الربوبية وثنى بذلة العبودية وهما أقوى أسباب السعادة، وهذا تلقين لهم وتعليم وتحذير من مثل ما وقعوا فيه وحث على التسليم، وكأنه لما كان ذنبهم الجهر بما لا يليق به سبحانه من طلب الرؤية، عبر بهذا اللفظ أو ما يدل على معناه تنبيهاً لهم على أن اسمهم يدل على التوبة والرجوع إلى الحق والصيرورة إلى الصلاح واللين والضعف في الصوت والاستكانة في الكلام والسكوت عما لا يليق، وأن يهودا الذي أخذ اسمه من ذلك إنما سموا به ونسبوا إليه تفاؤلاً لهم ليتبادروا إلى التوبة.
ولما كان في كلامه عليه السلام إنكار إهلاك الطائع بذنب العاصي وإن كان ذلك إنما كان على سبيل الاستعطاف منه والتملق مع العلم بأنه عدل منه تعالى وله أن يفعل ما يشاء بدليل قوله: {ولو شئت أهلكتهم من قبل وإياي} [الأعراف: 155] استأنف سبحانه الإخبار عن الجواب عن كلامه على وجه منبه للجماهير على أن له التصرف المطلق بقوله: {قال عذابي} أي انتقامي الذي يزيل كل عذوبة عمن وقع به {أصيب به} أي في الدنيا والآخرة {من أشاء} أي أذنب أو لم يذنب {ورحمتي} أي إنعامي وإكرامي.
ولما كان الإيجاد من الرحمة فإنه خير من العدم فهو إكرام في الجملة، قال: {وسعت كل شيء} أي هذا شأنها وصفتها في نفس الأمر وإن بلغ في القبائح ما عساه أن يبلغ، وهذا معنى حديث أبي هريرة في الصحيح "إن رحمتي سبقت -وفي رواية: غلبت- غضبي "سواء قلنا:إن السبق بمعنى الغلبة، أو قلنا إنه على بابه، أما الأول فلأن تعلق الرحمة أكثر، لأن كل ما تعلق به الغضب تعلقت به الرحمة بإيجاد وإفاضة الرزق عليه، ولا عكس كالحيوانات العجم والجمادات وأهل السعادة من المؤمنين والملائكة والحور وغيرهم من جنود الله التي لا تحصى. ولما أعلم أن رحمته واسعة وقدرته شاملة، وكان ذلك موسعاً للطمع، سبب عن ذلك قوله ذاكراً شرط إتمام تلك الرحمة ترهيباً لمن يتوانى عن تحصيل ذلك الشرط: {فسأكتبها} أي أخص بدوامها بوعد لا خلف فيه لأجل تمكني بتمام القدرة مما أريد مبتوتاً أمرها بالكتابة {للذين يتقون} أي يوجد لهم هذا الوصف الحامل على كل خير ولا يخلّ بوسعها أن أمنع دوامها بعد الإيجاد من غيرهم، فإن الكل لو دخلوا فيها دائماً ما ضاقت بهم، فهي في نفسها واسعة و لكني أفعل ما أشاء.
ولما ذكر نظرهم إلى الخالق بالانتهاء عما نهى عنه والائتمار بما أمر به، أتبعه النظر إلى الخلائق فقال: {ويؤتون الزكاة} ولعله خصها لأن فرضها كان في هذا الميقات كما تقدم في البقرة ولأنها أمانة فيما بين الخلق والخالق كما أن صفات النبي صلى الله عليه وسلم التي كتبها لهم وشرط قبول أعمالهم باتباعه كذلك؛ ثم عمم بذكر ثمرة التقوى فقال مخرجاً لمن يوجد منه ذانك الوصفان في الجملة على غير جهة العموم: {والذين هم بآياتنا} أي كلها {يؤمنون} أي يصدقون بالقلب ويقرون باللسان ويعملون تصديقاً لذلك بالأركان، فلا يكفرون ببعض ويؤمنون ببعض.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة، إنا هدنا إليك).
رجعنا إليك، والتجأنا إلى حماك، وطلبنا نصرتك.
وهكذا قدم موسى -عليه السلام- لطلب المغفرة والرحمة، بالتسليم لله والاعتراف بحكمة ابتلائه، وختمه بإعلان الرجعة إلى الله والالتجاء إلى رحابه. فكان دعاؤه نموذجاً لأدب العبد الصالح في حق الرب الكريم؛ ونموذجاً لأدب الدعاء في البدء والختام.
(قال: عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء)..
تقريراً لطلاقة المشيئة، التي تضع الناموس اختياراً، وتجريه اختياراً: وإن كانت لا تجريه إلا بالعدل والحق على سبيل الاختيار أيضاً، لأن العدل صفة من صفاته تعالى لا تتخلف في كل ما تجري به مشيئته، لأنه هكذا أراد.. فالعذاب يصيب به من يستحق عنده العذاب.. وبذلك تجري مشيئته.. أما رحمته فقد وسعت كل شيء؛ وهي تنال من يستحقها عنده كذلك.. وبذلك تجري مشيئته، ولا تجري مشيئته -سبحانه- بالعذاب أو بالرحمة جزافاً أو مصادفة. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وبعد تقرير القاعدة يطلع الله نبيه موسى على طرف من الغيب المقبل، إذ يطلعه على نبأ الملة الأخيرة التي سيكتب الله لها رحمته التي وسعت كل شيء.. بهذا التعبير الذي يجعل رحمة الله أوسع من ذلك الكون الهائل الذي خلقه، والذي لا يدرك البشر مداه.. فيالها من رحمة لا يدرك مداها إلا الله!
(فسأكتبها للذين يتقون، ويؤتون الزكاة، والذين هم بآياتنا يؤمنون).
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والتفريع في قوله: {فسأكتبها} تفريع على سعة الرحمة، لأنها لما وسعت كل شيء كان منها ما يكتب أي يعطى في المستقبل للذين أجريت عليهم الصفات ويتضمن ذلك وعداً لموسى ولصلحاء قومه لتحقق تلك الصفات فيهم، وهو وعد ناظر إلى قول موسى {إنا هدنا إليك} والضمير المنصوب في {أكْتُبها} عائدِ إلى {رحمتي}...
والمعنى: أن الرحمة التي سألها موسى له ولقومه وعدَ اللَّهُ بإعطائِها لمن كان منهم متصفاً بأنه من المتقين والمؤتين الزكاة، ولمن كان من المؤمنين بآيات الله، والآياتُ تصدق: بدلاِئل صدق الرسل، وبكلمات الله التي شرع بها للناس رَشادهم وهديهم، ولا سيما القرآن لأن كل مقدار ثلاث آيات منه هو آية لأنهُ معجز فدال على صدق الرسول، وهو المقصود هنا، وهم الذين يتبعون الرسول الامي إذا جاءهم، أي يطيعونه فيما يأمرهم، ولما جعلت هذه الأشياء بسبب تلك الرحمة علم أن التحصيل على بعضها يحصّل بعض تلك الرحمة بما يناسبه، بشرط الإيمان، كما علم من آيات أخرى خاطب الله بها موسى كقوله آنفاً {والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا} [الأعراف: 153] فتشمل هذه الرحمة من اتقى وآمن وآتى الزكاة من بني إسرائيل قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فإن أتباعهم إياه متعذر الحصول قبل بعثته، ولكن يجب أن يكونوا عازمين على اتباعه عند مجيئه إن كانوا عالمين بذلك كما قال تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاقَ النبيئين لما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} [آل عمران: 81، 82]. وتشمل الرحمة أيضاً الذين يؤمنون بآيات الله، والمعنى بها الآيات التي ستجيئ في المستقبل، لأن آيات موسى قد استقر الإيمان بها يومئذ، وهذا موجب إعادة اسم الموصول في ذكر أصحاب هذه الصلة، للإشارة إلى أنهم طائفة أخرى، وهم من يكون عند بعثة محمد عليه الصلاة والسلام، ولذلك أبدل منهم قوله: {الذين يتبعون الرسولَ} إلخ.
وهو إشارة إلى اليهود والنصارى الكائنين في زمن البعثة وبعدها لقوله: {الذي يجدونه مكتوباً عندهم} ولقوله: {ويضع عنهم إصرهم والأغلالَ التي كانت عليهم} فإنه يدل على أنهم كانوا أهل شريعة فيها شدة وحرج، والمراد بآيات الله: القرآن، لأن ألفاظه هي المخصوصة باسم الآيات، لأنها جُعلت معجزات للفصحاء عن معارضتها. ودالة على أنها من عند الله وعلى صدق رسوله...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ولقد ذكر الله تعالى حسنة الدنيا، وطوى في الذكر حسنة الآخرة؛ لأنها ليست عملا، بل هي جزاء على عمل في الدنيا ثمرة الأولى، فمن حسنت دنياه وكانت للخير، حسنت آخرته، وكان نعيما مقيما وقوله تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء} العموم فيها عموم كامل صادق، وقال سبحانه وتعالى: {كل شيء} ولم يقل كل شخص، للإشارة إلى أن الرحمة شاملة عامة للأشياء والأشخاص، فشريعته عدل ورحمة وإرساله الرسل عدل ورحمة وخلقه الكون وما فيه من شمس مشرقة مضيئة للكون، وقمر منير، ونجوم ذات بروج، وسحاب ورياح مرسلات رحمة، وهكذا كل ما سخره الله تعالى للإنسان، وما مكنه من رحمة به.