قوله تعالى : { ولا تمدن عينيك } قال أبو رافع : " نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ضيف فبعثني إلى يهودي فقال لي : قل له إن رسول الله يقول لك بعني كذا وكذا من الدقيق وأسلفني إلى هلال رجب فأتيته فقلت له ذلك فقال : والله لا أبيعه ولا أسلفه إلا برهن ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال : والله لئن باعني وأسلفني لقضيته وإني لأمين في السماء وأمين في الأرض ، اذهب بدرعي الحديد إليه ، فنزلت هذه الآية : { ولا تمدن عينيك } ، لا تنظر ، { إلى ما متعنا به } أعطينا { أزواجاً } أصنافاً ، { منهم زهرة الحياة الدنيا } أي زينتها وبهجتها ، وقرأ يعقوب : ( زهرة ) بفتح الهاء وقرأ العامة بجزمها ، { لنفتنهم فيه } ، أي لنجعل ذلك فتنة لهم بأن أزيد لهم النعمة فيزيدوا كفراً وطغياناً ، { ورزق ربك } في المعاد ، يعني : الجنة ، { خير وأبقى } ، قال أبي بن كعب : من لم يستعز بعزة الله تقطعت نفسه حسرات ، ومن يتبع بصره فيما في أيدي الناس يطل حزنه ، ومن ظن أن نعمة الله في مطعمه ومشربه وملبسه فقد قل علمه وحضر عذابه .
يقول تعالى لنبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه : لا تنظر إلى هؤلاء المترفين{[19562]} وأشباههم ونظرائهم ، وما فيه من النعم{[19563]} فإنما هو زهرة زائلة ، ونعمة حائلة ، لنختبرهم بذلك ، وقليل من عبادي الشكور .
وقال مجاهد : { أَزْوَاجًا مِنْهُمْ } يعني : الأغنياء فقد آتاك [ الله ]{[19564]} خيرًا مما آتاهم ، كما قال في الآية الأخرى : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ } [ الحجر : 87 ، 88 ] ، وكذلك{[19565]} ما ادخره الله تعالى لرسوله في الدار الآخرة أمر عظيم لا يُحَدّ ولا يوصف ، كما قال تعالى : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } [ الضحى : 5 ] ولهذا قال : { وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } .
وفي الصحيح : أن عمر بن الخطاب لما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك المشربة التي كان قد اعتزل فيها نساءه ، حين آلى منهم فرآه متوسدًا مضطجعًا على رمال حصير وليس في البيت إلا صُبْرَة من قَرَظ ، وأهَب{[19566]} معلقة ، فابتدرت عينا عمر بالبكاء ، فقال رسول الله : " ما يبكيك{[19567]} ؟ " .
فقال : يا رسول الله ، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه ، وأنت صفوة الله من خلقه ؟ فقال : " أوفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم عُجِّلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا " . {[19568]}
فكان صلوات الله وسلامه عليه{[19569]} أزهد الناس في الدنيا مع القدرة عليها ، إذا حصلت له ينفقها هكذا وهكذا ، في عباد الله ، ولم يدخر لنفسه شيئًا لغد .
قال ابن أبي حاتم : أنبأنا يونس ، أخبرني ابن وهب ، أخبرني مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يَسَار ، عن أبي سعيد ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله{[19570]} من زهرة{[19571]} الدنيا " . قالوا : وما زهرة الدنيا يا رسول الله ؟ قال : " بركات الأرض " {[19572]} .
وقال قتادة والسدي : زهرة الحياة الدنيا ، يعني : زينة الحياة الدنيا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ تَمُدّنّ عَيْنَيْكَ إِلَىَ مَا مَتّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ولا تنظر إلى ما جعلنا لضُرباء هؤلاء المعرضين عن آيات ربهم وأشكالهم ، مُتْعة في حياتهم الدنيا ، يتمتعون بها ، من زهرة عاجل الدنيا ونضرتها لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ يقول : لنختبرهم فيما متعناهم به من ذلك ، ونبتليهم ، فإِن ذلك فانٍ زائل ، وغُرور وخُدَع تضمحلّ وَرِزْقُ رَبّكَ الذي وعدك أن يرزقكه في الاَخرة حتى ترضى ، وهو ثوابه إياه خَيْرٌ لك مما متعناهم به من زهرة الحياة الدنيا . وأبْقَى يقول : وأدوم ، لأنه لانقطاع له ولا نفاذ . وذُكر أن هذه الاَية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من أجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى يهوديّ يستسلف منه طعاما ، فأبى أن يُسْلفه إلاّ برهن . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن موسى بن عبيدة ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي رافع ، قال : أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهودي يستسلفه ، فأبى أن يعطيه إلاّ برهن ، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : وَلا تَمُدّنّ عَيَنَيْكَ إلى ما مَتّعْنا بِهِ أزْوَاجا مِنهُمْ زَهْرَةَ الحَياةِ الدّنْيا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا محمد بن كثير ، عن عبد الله بن واقد ، عن يعقوب بن يزيد ، عن أبي رافع ، قال : نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ضيف ، فأرسلني إلى يهوديّ بالمدينة يستسلفه ، فأتيته ، فقال : لا أسلفه إلاّ برهن ، فأخبرته بذلك ، فقال : «إنّي لأَمِينٌ فِي أهْلِ السّماءِ وفِي أهْلِ الأرْضِ ، فاحْمِلْ دِرْعِي إلَيْهِ » فنزلت : " وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعا مِنَ المَثانِي والقُرآنَ العَظِيمِ " .
وقوله : " وَلا تَمُدّنّ عَيَنَيْكَ إلى ما مَتّعْنا بِهِ أزْوَاجا مِنْهُمْ زَهْرةَ الحَياةِ الدّنْيا " إلى قوله : " وَالعاقِبَةُ للتّقْوَى " .
ويعني بقوله : أزْوَاجا مِنْهُمْ رجالاً منهم أشكالاً ، وبزهرة الحياة الدنيا : زينة الحياة الدنيا . كما :
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : زَهْرَةَ الحَياةِ الدّنْيا : أي زينة الحياة الدنيا .
ونصب زهرة الحياة الدنيا على الخروج من الهاء التي في قوله به من مَتّعْنا بِهِ ، كما يقال : مررت به الشريف الكريم ، فنصب الشريف الكريم على فعل مررت ، وكذلك قوله : إلى ما مَتّعْنا بِهِ أزْوَاجا مِنْهُم زَهْرَةَ الحَياةِ الدّنْيا تنصب على الفعل بمعنى : متعناهم به زهرة الحياة الدنيا وزينة لهم فِيها . وذكر الفراء أن بعض بني فقعس أنشده :
أبَعْدَ الّذِي بالسّفْحِ سَفْحِ كُوَاكِبٍ *** رَهِينَةَ رَمْسٍ مِنْ تُرابٍ وَجَنْدَلِ
فنصب رهينة على الفعل من قوله : «أبعد الذي بالسفح » ، وهذا لا شكّ أنه أضعف في العمل نصبا من قوله : مَتّعْنا بِهِ أزْوَاجا مِنْهُمْ لأن العامل في الاسم وهو رهينة ، حرف خافض لا ناصب . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ قال : لنبتليهم فيه وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وأبقَى مما متّعنا به هؤلاء من هذه الدنيا .
{ ولا تمدن عينيك } أي نظر عينيك . { إلى ما متعنا به } استحسانا له وتمنيا أن يكون لك مثله . { أزواجا منهم } وأصنافا من الكفرة ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في به والمفعول منهم أي الذي متعنا به ، وهو أصناف بعضهم أو ناسا منهم . { زهرة الحياة الدنيا } منصوب بمحذوف دل عليه { متعنا } أو { به } على تضمينه معنى أعطينا ، أو بالبدل من محل به أو من أزواجا بتقدير مضاف ودونه ، أو بالذم وهي الزينة والبهجة . وقرأ يعقوب بالفتح وهو لغة كالجهرة في الجهرة ، أو جمع زاهر وصف لهم بأنهم زاهر والدنيا لتنعمهم وبهاء زيهم بخلاف ما عليه المؤمنون الزهاد . { لنفتنهم فيه } لنبلوهم ونختبرهم فيه أو لنعذبهم في الآخرة بسببه . { ورزق ربك } وما ادخر لك في الآخرة ، أو ما رزقك من الهدى والنبوة { خير } مما منحهم في الدنيا { وأبقى } فإنه لا ينقطع .