فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيۡنَيۡكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعۡنَا بِهِۦٓ أَزۡوَٰجٗا مِّنۡهُمۡ زَهۡرَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا لِنَفۡتِنَهُمۡ فِيهِۚ وَرِزۡقُ رَبِّكَ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰ} (131)

{ ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى ( 131 ) وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى ( 132 ) وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أو لم تأتيهم بينة ما في الصحف الأولى ( 133 ) ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى ( 134 ) قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى ( 135 ) } .

{ ولا تمدن } أي لا تطل نظر { عينيك } بطريق الرغبة والميل { إلى ما متعنا به } أي لذذنا ، فالإمتاع والتمتيع معناه الإيقاع في اللذة { أزواجا منهم } مدّ النظر تطويله وأن لا يكاد يرده استحسانا للمنظور إليه وإعجابا به ، وفيه أن النظر غير الممدود معفو عنه ، وذلك أن يبادر الشيء بالنظر ثم يغض الطرف ، ولقد شدد المتقون في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة وعدد الفسقة في ملابسهم ومراكبهم ، حتى قال الحسن : " لا تنظروا إلى دقدقة{[1198]}هماليج{[1199]}الفسقة ، ولكن انظروا كيف يلوح ذل المعصية من تلك الرقاب " وهذا لأنهم اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة ، فالناظر إليها محصل لغرضهم ومغر لهم على اتخاذها ، وقد تقدم تفسير هذه الآية في الحجر .

{ زهرة الحياة الدنيا } أي زينتها وبهجتها بالنبات وغيره ، وقرئ زهرة بفتح الهاء وهي نور النبات ، وذكر السمين في نصبه تسعة أوجه . وأخرج ابن حاتم عن أبي حاتم عن أبي سعيد أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا ، قالوا : وما زهرة الدنيا يا رسول الله ؟ قال : بركات الأرض ) .

{ لنفتنهم فيه } أي لنجعل ذلك فتنة لهم وضلالة ابتلاء منا لهم ، كقوله : { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم } وقيل لنعذبهم في الآخرة ، وقيل لنشدد عليهم في التكليف ، وقيل أزيد لهم النعمة فيزيدوا بذلك كفرا وطغيانا { ورزق ربك } أي ثواب الله في الجنة وما ادخر لصالحي عباده في الآخرة { خير } مما رزقهم في الدنيا على كل حال ، وأيضا فإن ذلك لا ينقطع وهذا ينقطع وهو معنى { وأبقى } وقيل المراد بهذا الرزق ما يفتح الله على المؤمنين من الغنائم ونحوها ، والأول أولى لأن الخيرية المحققة والدوام الذي لا ينقطع إنما يتحققان في الرزق الأخروي لا الدنيوي وإن كان حلالا طيبا ، قال تعالى : { ما عندكم ينفد وما عند الله باق } .

عن أبي رافع قال : أضاف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ضيفا ولم يكن عند النبي ما يصلحه ، فأرسلني إلى رجل من اليهود أن بعنا أو أسلفنا دقيقا إلى هلال رجب ، فقال : لا إلى برهن ، فأتيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبرته ، فقال : ( أما والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض ، ولئن أسلفني أو باعني لأديت إليه ، اذهب بدرعي الحديد ، فلم أخرج من عنده حتى نزلت هذه الآية ، كأنه يعزيه عن الدنيا ) أخرجه البزار وأبو يعلى وابن أبي شيبة وغيرهم{[1200]} .


[1198]:الدقدقة حكاية أصوات حوافر الدواب مثل الطقطقة. إ هـ صحاح.
[1199]:الهملاج من البراذين واحد الهماليج ومشيها الهملجة فارسي معرب إ هـ صحاح.
[1200]:صحيح الجامع الصغير1349.