قوله تعالى : { ولا تقف ما ليس لك به علم } ، قال قتادة : لا تقل : رأيت ، ولم تره ، وسمعت ، ولم تسمعه ، وعلمت ، ولم تعلمه . وقال مجاهد : لا ترم أحداً بما ليس لك به علم . وقال القتيبي : لا تتبعه بالحدس والظن . وهو في اللغة اتباع الأثر ، يقال : قفوت فلاناً أقفوه وفقيته ، وأقفيته إذا اتبعت أثره ، وبه سميت القافية لتتبعهم الآثار . قال القتيبي : هو مأخوذ من القفا كأنه يقفو الأمور ، يكون في إقفائها يتبعها ويتعرفها . وحقيقة المعنى : لا تتكلم أيها الإنسان بالحدس والظن . { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } ، قيل : معناه يسأل المرء عن سمعه وبصره وفؤاده . وقيل : يسأل السمع والبصر والفؤاد عما فعله المرء . وقوله : { كل أولئك } أي : كل هذه الجوارح والأعضاء . وعلى القول الأول يرجع { أولئك } إلى أربابها .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو طاهر أحمد بن محمد بن الحسين ، أنبأنا أبو علي حامد ابن محمد الرفاء ، حدثنا أبو الحسن علي بن عبد العزيز ، أنبأنا الفضل بن دكين ، حدثنا سعد بن أوس العبسي ، حدثني بلال بن يحيى العبسي أن شتر بن شكل أخبره عن أبيه شكل بن حميد قال : " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا نبي الله علمني تعويذاً أتعوذ به ، فأخذ بيدي ثم قال : قل : اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي ، وشر بصري ، وشر لساني ، وشر قلبي ، وشر منيي قال : فحفظتها ، قال سعد : المني ماؤه " .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يقول : لا تقل .
وقال العوفي عنه : لا تَرْم أحدًا بما ليس لك به علم .
وقال محمد بن الحَنفية : يعني شهادة الزور .
وقال قتادة : لا تقل : رأيت ، ولم تر ، وسمعت ، ولم تسمع ، وعلمت ، ولم تعلم ؛ فإن الله سائلك عن ذلك كله .
ومضمون ما ذكروه : أن الله تعالى نهى عن القول بلا علم ، بل بالظن الذي هو التوهم والخيال ، كما قال تعالى : { اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } [ الحجرات : 12 ] ، وفي الحديث : " إياكم والظن ؛ فإن الظن أكذبُ الحديث " {[17488]} . وفي سنن أبي داود : " بئس مطيةُ الرجل : زعموا " {[17489]} ، وفي الحديث الآخر : " إن أفرى الفِرَى أن يُرِي{[17490]} عينيه ما لم تريا " {[17491]} . وفي الصحيح : " من تحلم حلما كُلف يوم القيامة أن يعقد بين شَعيرتين ، وليس بعاقد{[17492]} {[17493]} .
وقوله : { كُلُّ أُولَئِكَ } أي : هذه الصفات من السمع والبصر والفؤاد { كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا } أي : سيسأل العبد عنها يوم القيامة ، وتُسأل{[17494]} عنه وعما عمل فيها . ويصح استعمال " أولئك " مكان " تلك " ، كما قال الشاعر{[17495]} :
ذُمَّ المَنَازلَ بَعْدَ مَنزلة اللِّوَى *** وَالْعَيْش بَعْدَ أولئِكَ الأيّام
القول في تأويل قوله تعالى { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّ السّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فقال بعضهم : معناه : ولا تقل ما ليس لك به علم . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ يقول : لا تقل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنّ السّمْعَ والبَصَرَ والفُؤَادَ كُلّ أُولَئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْئُولاً لا تقل رأيت ولم تر ، وسمعت ولم تسمع ، فإن الله تبارك وتعالى سائلك عن ذلك كله .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ قال : لا تقل رأيت ولم تر ، وسمعت ولم تسمع ، وعلمت ولم تعلم .
حُدثت عن محمد بن ربيعة ، عن إسماعيل الأزرق ، عن أبي عمر البزار ، عن ابن الحنفية قال : شهادة الزور .
وقال آخرون : بل معناه : ولا ترم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ يقول : لا ترم أحدا بما ليس لك به علم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَلا تَقْفُ ولا ترمِ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وهذان التأويلان متقاربا المعنى ، لأن القول بما لا يعلمه القائل يدخل فيه شهادة الزور ، ورمى الناس بالباطل ، وادّعاء سماع ما لم يسمعه ، ورؤية ما لم يره . وأصل القفو : العضه والبهت . ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : «نَحْنُ بَنُو النّضْرِ بْنِ كِنانَة لا نَقْفُو أمّنا وَلا نَنْتَفِي مِنُ أبِينا » ، وكان بعض البصريين ينشد في ذلك بيتا :
وَمِثْلُ الدّمَى شُمّ العَرَانِينِ ساكِنٌ *** بِهِنّ الحَياءُ لا يُشِعْنَ التّقافِيا
يعني بالتقافي : التقاذف . ويزعم أن معنى قوله لا تَقْفُ لا تتبع ما لا تعلم ، ولا يعنيك . وكان بعض أهل العربية من أهل الكوفة ، يزعم أن أصله القيافة ، وهي اتباع الأثر وإذ كان كما ذكروا وجب أن تكون القراءة : «وَلا تَقُفْ » بضم القاف وسكون الفاء ، مثل : ولا تقل . قال : والعرب تقول : قفوت أثره ، وقُفت أثره ، فتقدّم أحيانا الواو على الفاء وتؤخرها أحيانا بعدها ، كما قيل : قاع الجمل الناقة : إذا ركبها وقَعَا وعاثَ وعَثَى وأنشد سماعا من العرب .
ولَوْ أنّي رَمَيْتُكَ مِنْ قَرِيبٍ *** لَعاقَكَ مِنْ دُعاءٍ الذّئْبِ عاقِ
يعني عائق ، ونظائر هذا كثيرة في كلام العرب .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : لا تقل للناس وفيهم ما لا علم لك به ، فترميهم بالباطل ، وتشهد عليهم بغير الحقّ ، فذلك هو القفو .
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال فيه بالصواب ، لأن ذلك هو الغالب من استعمال العرب القفو فيه .
وأما قوله إنّ السّمْعَ والبَصَرَ والفُؤَادَ كُلّ أُولَئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْئُولاً فإن معناه : إن الله سائل هذه الأعضاء عما قال صاحبها ، من أنه سمع أو أبصر أو علم ، تشهد عليه جوارحه عند ذلك بالحقّ ، وقال «أولئك » ، ولم يقل «تلك » ، كما قال الشاعر :
ذُمّ المَنازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللّوَى *** والعَيْشَ بَعْدِ أُولَئِكَ الأيّامِ
وإنما قيل : أولئك ، لأن أولئك وهؤلاء للجمع القليل الذي يقع للتذكير والتأنيث ، وهذه وتلك للجمع الكثير فالتذكير للقليل من باب أَنْ كان التذكير في الأسماء قبل التأنيث . لك التذكير للجمع الأوّل ، والتأنيث للجمع الثاني ، وهو الجمع الكثير ، لأن العرب تجعل الجمع على مثال الأسماء .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.