معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَلَا تَنفَعُ ٱلشَّفَٰعَةُ عِندَهُۥٓ إِلَّا لِمَنۡ أَذِنَ لَهُۥۚ حَتَّىٰٓ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمۡ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمۡۖ قَالُواْ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡكَبِيرُ} (23)

قوله تعالى : { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } الله في الشفاعة ، قاله تكذيباً لهم حيث قالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، ويجوز أن يكون المعنى إلا لمن أذن الله في أن يشفع له ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي : { أذن } بضم الهمزة . { حتى إذا فزع عن قلوبهم } قرأ ابن عامر ، ويعقوب بفتح الفاء والزاي ، وقرأ الآخرون بضم الفاء وكسر الزاي أي : كشف الفزع وأخرج عن قلوبهم ، فالتفزيع إزالة الفزع كالتمريض والتفريد . واختلفوا في الموصوفين بهذه الصفة ، فقال قوم : هم الملائكة ، ثم اختلفوا في ذلك السبب فقال بعضهم : إنما يفزع عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماع كلام الله عز وجل . وروينا عن أبي هريرة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : { إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان " فإذا فزع عن قلوبهم { قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير } .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، قال : أنبأني محمد بن الفضل بن محمد ، أنبأنا أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة ، أنبأنا زكريا بن يحيى بن أبان المصري ، أنبأنا نعيم بن حماد ، أنبأنا أبو الوليد بن مسلم ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن أبي زكريا ، عن رجاء بن حيوة ، عن النواس بن سمعان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السموات منه رجفة أو قال : رعدة شديدة خوفاً من الله تعالى ، فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجداً ، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل ، فيكلمه الله من وحيه بما أراد ، ثم يمر جبريل على الملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل ؟ فيقول جبريل : قال الحق وهو العلي الكبير ، قال فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل ، فينتهي جبريل بالوحي حيث أمره " .

وقال بعضهم إنما يفزعون حذراً من قيام الساعة . قال مقاتل والكلبي والسدي : كانت الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام ، خمسمائة وخمسين سنة ، وقيل ستمائة سنة لم تسمع الملائكة فيها وحياً ، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وكل جبريل عليه السلام بالرسالة إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، فلما سمعت الملائكة ظنوا أنها الساعة ، لأن محمدا صلى الله عليه وسلم عند أهل السموات بعثته من أشراط الساعة ، فصعقوا مما سمعوا خوفا من قيام الساعة ، فلما انحدر جبريل جعل يمر بأهل كل سماء فيكشف عنهم فيرفعون رؤوسهم ويقول بعضهم لبعض : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : قال الحق ، يعني الوحي ، وهو العلي الكبير . وقال جماعة : الموصوفون بذلك المشركون . قال الحسن وابن زيد : حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين عند نزول الموت بهم إقامة للحجة عليهم قالت لهم الملائكة ماذا قال ربكم في الدنيا ؟ قالوا : الحق ، فأقروا به حين لا ينفعهم الإقرار .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَا تَنفَعُ ٱلشَّفَٰعَةُ عِندَهُۥٓ إِلَّا لِمَنۡ أَذِنَ لَهُۥۚ حَتَّىٰٓ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمۡ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمۡۖ قَالُواْ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡكَبِيرُ} (23)

وقال :{[24304]} { وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } أي : لعظمته [ وجلاله ]{[24305]} وكبريائه لا يجترئ أحد أن يشفع عنده تعالى في شيء إلا بعد إذنه له في الشفاعة ، كما قال تعالى : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] ، وقال : { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ [ وَيَرْضَى{[24306]} ] } [ النجم : 26 ] ، وقال : { وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [ الأنبياء : 28 ] .

ولهذا ثبت في الصحيحين{[24307]} ، من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو سيد ولد آدم ، وأكبر شفيع عند الله - : أنه حين يقوم المقام المحمود ليشفع في الخلق كلّهم أن يأتي ربّهم لفصل القضاء ، قال : «فأسجد لله فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الآن ، ثم يقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل يُسمع{[24308]} ، وسل تُعْطَه واشفع تشفع » الحديث بتمامه .

وقوله : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ } . وهذا أيضا مقام رفيع في العظمة . وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي ، سمع أهل السموات كلامه ، أرْعدوا من الهيبة حتى يلحقهم مثل الغشي . قاله ابن مسعود ومسروق ، وغيرهما .

{ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِم } أي : زال الفزع عنها . قال ابن عباس ، وابن عمر وأبو عبد الرحمن السلمي والشعبي ، وإبراهيم النَّخَعيّ ، والضحاك والحسن ، وقتادة في قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِم } يقول : جُلِّى عن قلوبهم ، وقرأ بعض السلف - وجاء مرفوعا - : " [ حَتَّى ]{[24309]} إذَا فرغ " بالغين{[24310]} المعجمة ، ويرجع إلى الأول .

فإذا كان كذلك يسأل بعضهم بعضا : ماذا قال ربكم ؟ فيخبر بذلك حملة العرش للذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم لمن تحتهم ، حتى ينتهي الخبر إلى أهل السماء الدنيا ؛ ولهذا قال : { قَالُوا الْحَقّ } أي : أخبروا بما قال من غير زيادة ولا نقصان ، { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } .

وقال آخرون : بل معنى قوله : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ } يعني : المشركين عند الاحتضار ، ويوم القيامة إذا استيقظوا مما كانوا فيه من الغفلة في الدنيا ، ورجعت إليهم عقولهم يوم القيامة ، قالوا : ماذا قال ربكم ؟ فقيل لهم : الحق وأخبروا به مما كانوا عنه لاهين في الدنيا .

قال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ } : كشف عنها الغطاء يوم القيامة .

وقال الحسن : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ } يعني : ما فيها من الشك والتكذيب . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ } يعني : ما فيها من الشك ، قال : فزع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم وأمانيهم وما كان يضلهم ، { قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } قال : وهذا في بني آدم ، هذا عند الموت ، أقروا حين لا ينفعهم الإقرار .

وقد اختار ابن جرير القول الأول : أن الضمير عائد على الملائكة{[24311]} . هذا هو الحق الذي لا مرية فيه ، لصحة الأحاديث فيه والآثار ، ولنذكر منها طرفا يدل على غيره :

قال البخاري عند تفسير هذه الآية الكريمة في صحيحه : حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو ، سمعت عِكْرِمة ، سمعت أبا هُرَيرة{[24312]} يقول : إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : «إذا قضى الله الأمرَ في السماء ، ضربت الملائكة بأجنحتها خُضعانًا لقوله ، كأنه سلسلة على صفوانَ ، فإذا فُزِّع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا للذي قال : الحقّ ، وهو العلي الكبير فيسمعها مُسْتَرق السمع ، ومسترق السمع - هكذا بعضه{[24313]} فوق بعض - ووصف سفيان بيده - فَحَرّفها وبَدّد{[24314]} بين أصابعه - فَيسمع الكلمة ، فيلقيها إلى مَنْ تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى مَنْ تحته ، حتى يلقيَها على لسان الساحر{[24315]} أو الكاهن ، فَربما أدركه الشّهاب قبل أن يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه ، فيكذب معها مائة كَذْبَة ، فيقال : أليس قد قال لنا يومَ كذا وكذا : كذا {[24316]} وكذا ؟ فيصدّق بتلك الكلمة التي سُمعت من السماء .

انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم من هذا الوجه . وقد رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، من حديث سفيان بن عيينة ، به . {[24317]}

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر وعبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، أخبرنا الزهري ، عن علي بن الحسين ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم [ جالسًا ]{[24318]} في نفر من أصحابه - قال عبد الرزاق : " من الأنصار " - فَرُميَ بنجم فاستنار ، [ قال ]{[24319]} : " ما كنتم تقولون إذا كان مثلُ هذا في الجاهلية ؟ " قالوا : كنا نقول يُولَد عظيم ، أو يموت{[24320]} عظيم - قلت للزهري : أكان يرمى بها في الجاهلية ؟ قال : نعم ، ولكن غُلّظت حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم - قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته ، ولكن ربنا ، تبارك وتعالى ، إذا قضى أمرا سبح حَمَلةُ العرش [ ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم ، حتى يبلغ التسبيح هذه{[24321]} الدنيا ، ثم يستخبر أهل السماء الذين يَلُونَ حملة العرش ، فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش ]{[24322]} : ماذا قال ربكم ؟ فيخبرونهم ، ويخبر أهل كل سماء سماء ؛ حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء ، وتخطف الجن السمع فيرمون ، فما جاؤوا به على وجهه فهو حق ، ولكنهم يفرقون فيه ويزيدون .

هكذا رواه الإمام أحمد{[24323]} . وقد أخرجه مسلم في صحيحه ، من حديث صالح بن كَيْسَان ، والأوزاعي ، ويونس ومَعْقِل بن عبيد الله{[24324]} ، أربعتهم عن الزهري ، عن علي بن الحسين ، عن ابن عباس عن رجل من الأنصار ، به{[24325]} . ورواه وقال يونس : عن رجال من الأنصار{[24326]} ، وكذا رواه النسائي{[24327]} في " التفسير " من حديث الزبيدي ، عن الزهري ، به{[24328]} . ورواه الترمذي فيه عن الحُسَين بن حريث ؛ عن الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ، عن الزهري ، عن عُبَيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن رجل من الأنصار ، رضي الله عنه{[24329]} ، والله{[24330]} أعلم .

حديث آخر : قال ابن أبى حاتم : حدثنا محمد بن عوف وأحمد بن منصور بن سيار الرمادي - والسياق لمحمد بن عوف - قالا حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا الوليد - هو ابن مسلم - عن عبد الرحمن بن يزيد{[24331]} بن جابر ، عن عبد الله بن أبي زكرياء ، عن رجاء بن حيوة ، عن النواس بن سَمْعان{[24332]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أراد الله أن يوحي بأمره تكلم بالوحي ، فإذا تكلم أخذت السموات منه{[24333]} رجفة - أو قال : رعدة - شديدة ؛ من خوف الله ، فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجدا ، فيكون أول مَنْ يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد ، فيمضي به جبريل على الملائكة ، كلما مَرّ بسماء سماء سأله ملائكتها : ماذا قال ربنا يا جبريل ؟ فيقول : قال : الحقّ ، وهو العلي الكبير . فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل ، فينتهي جبريل بالوحي حيث أمره الله من السماء والأرض " .

وكذا رواه ابن جرير وابن خُزَيمة ، عن زكريا بن أبان المصري ، عن نعيم بن حماد ، به . {[24334]}

قال ابن أبي حاتم : سمعت أبي يقول : ليس هذا الحديث بالشام عن الوليد بن مسلم ، رحمه الله .

وقد روى ابن أبي حاتم من حديث العَوفي ، عن ابن عباس - وعن قتادة : أنهما فسرا هذه الآية بابتداء إيحاء الله سبحانه إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعد الفترة التي كانت بينه وبين عيسى ، ولا شك أن هذا أولى ما دخل في هذه الآية .


[24304]:- في ت: "ثم قال".
[24305]:- زيادة من أ.
[24306]:- زيادة من ت ، أ.
[24307]:- تقدمت أحاديث الشفاعة عند تفسير الآية: 79 من سورة الإسراء.
[24308]:- في س ، أ: "تسمع".
[24309]:- زيادة من أ.
[24310]:- في ت: "بالعين".
[24311]:- تفسير الطبري (22/64).
[24312]:- في ت: "قال البخاري عند تفسيره هذه الآية الكريمة في صحيحه بإسناده عن أبي هريرة".
[24313]:- في أ: "بعضهم".
[24314]:- في أ: "وسدد".
[24315]:- في أ: "الآخر".
[24316]:- في أ: "وكذا ، يوم كذا".
[24317]:- صحيح البخاري برقم (4800) وسنن أبي داود برقم (3989) وسنن الترمذي برقم (3223) وسنن ابن ماجه برقم (194).
[24318]:- زيادة من ت ، س ، والمسند.
[24319]:- زيادة من ت ، س ، والمسند.
[24320]:- في ت ، س: "ويموت".
[24321]:- في تـ س: "السماء".
[24322]:- زيادة من ت ، س ، والمسند.
[24323]:- المسند (1/218).
[24324]:- في س: "بن عبد الله".
[24325]:- صحيح مسلم برقم (2229).
[24326]:- صحيح مسلم برقم (2229).
[24327]:- في ت: "وكذا رواه النسائي والترمذي".
[24328]:- سنن الترمذي برقم (3224).
[24329]:- النسائي في السنن الكبرى برقم (11272).
[24330]:- في س: "فالله".
[24331]:- في أ: "زيد".
[24332]:- في ت: "حديث آخر رواه ابن جرير بإسناده عن النواس بن سمعان".
[24333]:- في أ: "منها".
[24334]:- تفسير الطبري (22/63) والتوحيد لابن خزيمة ص (95) ورواه ابن عاصم في السنة برقم (515) من طريق محمد بن عوف ، عن نعيم بن حماد ، به.