التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَلَا تَنفَعُ ٱلشَّفَٰعَةُ عِندَهُۥٓ إِلَّا لِمَنۡ أَذِنَ لَهُۥۚ حَتَّىٰٓ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمۡ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمۡۖ قَالُواْ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡكَبِيرُ} (23)

حتى إذا فزع عن قلوبهم : التفزيع هو إزالة الفزع وكشفه . ومعنى الجملة : حتى إذا زال أثر الدهشة والفزع عن قلوبهم .

{ قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ( 22 ) ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ( 23 ) قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ( 24 ) قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون ( 25 ) قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم ( 26 ) قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم ( 27 ) وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( 28 ) } [ 22 – 28 ] .

شرك : بمعنى شركة وشراكة .

ظهير : معين ومظاهر .

في الآيات :

أمر للنبي عليه السلام بتحدي الكفار بدعوة من يزعمون أنهم شركاء الله .

وتقرير بكون أولئك الشركاء لا يملكون مثقال ذرة في السماوات والأرض وليس لهم فيهما شركة ما ، وليس لله منهم معين ومظاهر .

وتقرير بأن الشفاعة عند الله لن تنفع أحدا إلا بإذن الله ورضائه .

وتقرير ما سوف يكون من أمر الكفار يوم القيامة حينما يبعثون وستزول آثار الدهشة والفزع عنهم ويسألون عما وعدهم الله ؛ حيث يعترفون بأن ما وعد الله هو الحق وأن الله هو العلي الكبير الذي لا يدانيه أحد في علوه وعظمته .

وأمر آخر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بتحديهم بتعين الشركاء الذين أشركوهم مع الله وألحقوهم به وجعلوا لهم صلة به أو جعلوهم جزءا منه . وبنفي ذلك عن الله عز وجل ؛ لأنه العزيز القوي الذي لا يحتاج إلى شريك ، الحكيم الذي تكون كل أعماله وفقا لمقتضيات الحكمة .

وأمر آخر بسؤالهم عن الرازق الحقيقي لهم من السماء والأرض وبالإجابة على ذلك بأنه هو الله وحده .

وأمر آخر بتوجيه الكلام إليهم على سبيل المساجلة والجدل بأنه لا بد من أن يكون أحد الفريقين ( النبي والمؤمنون من ناحية ، وهم أي الكفار من ناحية ) ضالا وأحدهما على هدى ، وبأن كل فريق هو المسؤول وحده عن عمله وما قد يقترفه ، وبأن الله سيجمع بينهما معا ثم يقضي بينهما بالحق وهو الحاكم العادل العليم بأعمال الناس ونواياهم وأحوالهم .

وانتهت الآيات بآية وجه الخطاب فيها للنبي عليه السلام بأن الله إنما أرسله كافة للناس بشيرا ونذيرا ولو لم يدرك هذا أكثرهم .

والآيات بمجموعها احتوت – كما هو المتبادر – صورة لموقف من مواقف الجدل والمناظرة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين الكفار . وهي قوية في لذعها وتحديها وتنديدها ومساجلتها وإنذارها ، وتدل على أن موقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان موقف الواثق المستعلي ، أو هي بسبيل بث الوثوق والاستعلاء في نفسه .

ولم نطلع على رواية خاصة بسبب نزولها ، ويتبادر لنا أنها ليست فصلا مستأنفا إنما هي استمرار في السياق المستمر في حكاية مواقف الكفار .

والمتبادر أن الآية الأخيرة قد انطوت على تطمين للنبي عليه السلام وتسلية ، فهو ليس مسؤولا عن موقف الجحود والعناد الذي يقفه الكفار وليس إلا بشيرا ونذيرا للناس . وهو ما تكرر كثيرا في المواقف المماثلة .

والآيات [ 24 و 25 و 26 ] قد جاءت بالأسلوب الذي جاءت على سبيل المساجلة ، وليس من محل للشك في قصد تقريرها أن فريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأتباعه هم الفريق المهتدي الفائز بحكم الله ورضائه ، وهذا أسلوب مألوف في التخاطب وبخاصة في مواقف الجدل والمناظرة . ومع ذلك فقد يكون فيها مظهر من المبدأ القرآني المقرر لحرية التدين بالنسبة لمختلف الأطراف وفي نطاق ما قررته سورة ( الكافرون ) وشرحناه شرحا وافيا في سياقها .

ولقد روى البخاري والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة في سياق جملة { حتى إذا فزع عن قلوبهم } حديثا جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( إذ قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله ، كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا للذي قال الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترقو السمع فيلقيها إلى من تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء ){[1730]}

ونحن في حيرة من هذا الحديث ؛ لأن مضمون الآية وسياقها وروح الآيات بصورة عامة تلهم أنها في صدد تحدي المشركين وشركائهم وحكاية مشهد من مشاهد البعث الأخروي أو نفي الشفاعة عند الله إلا لمن أذن له . وليس لها صلة قريبة أو بعيدة باستماع الشياطين لكلام السماء وأوامر الله حين يقضي قضاءه في شؤون خلقه في الحياة الدنيا .

على أن الطبري والبغوي وابن كثير الذين أوردوا هذا الحديث ، وحديثا آخر من بابه رووا تأويلات أخرى للجملة القرآنية عن بعض علماء التابعين مثل : مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير تفيد أن ما تضمنته الجملة هو ما يكون من أمر المشركين يوم القيامة ، أو حين ينزل فيهم الموت حيث يسألهم الملائكة سؤال التبكيت عن ما قال الله فيقروا أنه الحق حين لا ينفعهم الإقرار . وهذا التأويل متسق مع روح الجملة القرآنية أكثر كما هو المتبادر ، ويدل على أن هؤلاء العلماء لم يأخذوا الحديث على أنه تفسير للجملة .

وقد رأينا الزمخشري والخازن والطبرسي والنسفي والنيسابوري يؤولون الجملة كذلك على أنها حكاية محاورة بين الكفار والملائكة يوم القيامة أو عند الموت


[1730]:التاج ج 4 ص 191 – 192.