فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلَا تَنفَعُ ٱلشَّفَٰعَةُ عِندَهُۥٓ إِلَّا لِمَنۡ أَذِنَ لَهُۥۚ حَتَّىٰٓ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمۡ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمۡۖ قَالُواْ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡكَبِيرُ} (23)

{ وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تنفع الشفاعة في حال من الأحوال إلا كائنة لمن أذن له أن يشفع من الملائكة والنبيين ونحوهم من أهل العلم والعمل ومعلوم أن هؤلاء لا يشفعون إلا لمن يستحق الشفاعة لا للكافرين ، ويجوز أن يكون المعنى : لا تنفع الشفاعة من الشفعاء المتأهلين لها في حال من الأحوال إلا كائنة لمن أذن له أي لأجله وفي شأنه من المستحقين للشفاعة لهم لا من عداهم من غير المستحقين لها .

قيل : والمراد بقوله لا تنفع الشفاعة أنها لا توجد أصلا إلا لمن أذن له ، وإنما علق النفي بنفعها لا بوقوعها تصريحا بنفي ما هو غرضهم من وقوعها ، قرأ الجمهور : أذن بفتح الهمزة أي أذن له الله سبحانه لأن اسمه سبحانه مذكور قبل هذا ، وقرئ على البناء للمفعول ، والآذن هو الله سبحانه ، ومثل هذه الآية قوله تعالى : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } وقوله تعالى : { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } ، وهذا تكذيب لقولهم { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } ، ثم أخبر الله سبحانه عن خوف هؤلاء الشفعاء والمشفوع لهم فقال :

{ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } قرئ مبنيا للمفعول ، والفاعل هو الله سبحانه ، وقرئ مبنيا للفاعل وفاعله ضمير يرجع إلى الله سبحانه ، وكلتا القراءتين بتشديد ، الزاي ، وفعل معناه السلب ، فالتفريغ إزالة الفزع وقرئ مخففا وقرئ : فرغ بالراء المهملة والغين المعجمة من الفراغ ، والمعنى فرغ الله قلوبكم أي كشف عنها الخوف ، وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه افر نقع من الأفر نقاع وهو التفرق قال قطرب معنى فزع أخرج ما فيها من الفزع وهو الخوف وقال مجاهد كشف عن قلوبكم الغطاء يوم القيامة وقال ابن عباس فزع جلى وهو التفرق والمعنى أن الشفاعة لا تكون من أحد من هؤلاء المعبودين من دون الله من الملائكة والأنبياء والأصنام كائنا من كان إلا أن يأذن الله سبحانه للملائكة والأنبياء ونحوهم في الشفاعة لمن يستحقها وهم على غاية الفزع من الله كما قال تعالى : وهم من خشيته مشفقون ، فإذا أذن لهم في الشفاعة فزعوا لما يقترن بتلك الحالة من الأمر الهائل والخوف الشديد من أن يقع في تنفيذ ما أذن لهم فيه تقصيرا ويحدث شيء من أقدار الله فإذا سرى عنهم .

{ قَالُوا } للملائكة فوقهم وهم الذين يوردون عليهم الوحي بالإذن { مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ } أي ماذا أمر الله به { قَالُوا } أي ليقولون لهم قال القول { الْحَقَّ } هو قبول شفاعتكم للمستحقين لها دون غيرهم { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } فله أن يحكم في عباده بما يشاء ، ويفعل ما يريد ، ليس لملك ولا نبي أن يتكلم ذلك اليوم إلا بإذنه ، وأن يشفع إلا لمن ارتضى ، وقيل : هذا الفزع يكون للملائكة في كل أمر يأمر به الرب والمعنى لا تنفع الشفاعة إلا من الملائكة الذين هم فزعون اليوم مطيعون لله دون الجمادات والشياطين ، وقيل إن الذين يقولون ماذا قال ربكم هم المشفوع لهم والذين أجابوهم هم الشفعاء من الملائكة والأنبياء وقال الحسن وابن زيد ومجاهد معنى الآية حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين في الآخرة قالت لهم الملائكة : ماذا قال ربكم في الدنيا ؟ قالوا الحق فأقروا حين لا ينفعهم الإقرار ، وقيل إنما يفزعون حذرا من قيام الساعة ، وقيل : كشف الفزع عن قلوبهم عند نزول الموت ، أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه

عن ابن عباس قال : لما أوحى الجبار إلى محمد صلى الله عليه وسلم دعا الرسول من الملائكة ليبعثه بالوحي فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي فلما كشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله ، فقالوا الحق ، وقد علموا أن الله لا يقول إلا حقا . قال ابن عباس : وصوت الوحي كصوت الحديد على الصفا ، فلما سمعوا خروا سجدا ، فلما رفعوا رؤوسهم . قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير .

وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم أيضا عنه قال : ينزل الأمر إلى السماء الدنيا له وقعه كوقعة السلسلة على الصخرة فيفزع له جميع أهل السموات ، فيقولون : ماذا قال ربكم ؟ ثم يرجعون إلى أنفسهم ، فيقولون : الحق وهو العلي الكبير .

وأخرج البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله ، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا للذي قال : الحق ، وهو العلي الكبير ، الحديث ] ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .

وعن ابن مسعود قال : [ إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات صلصلة كجرس السلسلة على الصفاة فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل فإذا جاء فزع عن قلوبهم فيقولون : يا جبريل ماذا قال ربك ؟ فيقول : الحق ] أخرجه أبو داود ، والصلصلة صوت الأجراس الصلبة بعضها على بعض وفي معناه أحاديث .