الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَلَا تَنفَعُ ٱلشَّفَٰعَةُ عِندَهُۥٓ إِلَّا لِمَنۡ أَذِنَ لَهُۥۚ حَتَّىٰٓ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمۡ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمۡۖ قَالُواْ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡكَبِيرُ} (23)

قوله تعالى : " ولا تنفع الشفاعة " أي شفاعة الملائكة وغيرهم . " عنده " أي عند الله . " إلا لمن أذن له " قراءة العامة " أذن " بفتح الهمزة ؛ لذكر الله تعالى أولا . وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي " أذن " بضم الهمزة على ما لم يسم فاعله . والآذن هو الله تعالى . و " من يجوز أن ترجع إلى الشافعين ، ويجوز أن ترجع إلى المشفوع لهم . " حتى إذا فزع عن قلوبهم " قال ابن عباس : خلي عن قلوبهم الفزع . قطرب : أخرج ما فيها من الخوف . مجاهد : كشف عن قلوبهم الغطاء يوم القيامة ، أي إن الشفاعة لا تكون من أحد هؤلاء المعبودين من دون الله من الملائكة والأنبياء والأصنام ، إلا أن الله تعالى يأذن للأنبياء والملائكة في الشفاعة وهم على غاية الفزع من الله ، كما قال : " وهم من خشيته مشفقون " {[13041]} [ الأنبياء : 28 ] والمعنى : أنه إذا أذن لهم في الشفاعة وورد عليهم كلام الله فزعوا ؛ لما يقترن بتلك الحال من الأمر الهائل والخوف أن يقع في تنفيذ ما أذن لهم فيه تقصير ، فإذا سري عنهم قالوا للملائكة فوقهم وهم الذين يوردون عليهم الوحي بالإذن : ماذا قال ربكم " أي ماذا أمر الله به ، فيقولون لهم : " قالوا الحق " وهو أنه أذن لكم في الشفاعة للمؤمنين . " وهو العلي الكبير " فله أن يحكم في عباده بما يريد . ثم يجوز أن يكون هذا إذنا لهم في الدنيا في شفاعة أقوام ، ويجوز أن يكون في الآخرة . وفي الكلام إضمار ، أي ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ففزع لما ورد عليه من الإذن تهيبا لكلام الله تعالى ، حتى إذا ذهب الفزع عن قلوبهم أجاب بالانقياد . وقيل : هذا الفزع يكون اليوم للملائكة في كل أمر يأمر به الرب تعالى ، أي لا تنفع الشفاعة إلا من الملائكة الذين هم اليوم فزعون ، مطيعون لله تعالى دون الجمادات والشياطين . وفي صحيح الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا قضى الله في السماء أمرا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنها سلسلة على صفوان{[13042]} فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق وهو العلي الكبير - قال - والشياطين بعضهم فوق بعض ) قال : حديث حسن صحيح . وقال النواس بن سمعان قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله إذا أراد أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السموات منه رجفة أو رعدة شديدة خوفا من الله تعالى ، فإذا سمع أهل السموات ذلك صعقوا وخروا لله تعالى سجدا فيكون أول من يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله تعالى ، ويقول له من وحيه ما أراد ، ثم يمر جبريل بالملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل ؟ فيقول جبريل : قال الحق وهو العلى الكبير - قال فيقول كلهم كما قال جبريل فينتهي جبريل بالوحي حيث أمره الله تعالى ) . وذكر البيهقي عن ابن عباس في قوله تعالى : " حتى إذا فُزِّع عن قلوبهم " قال : كان لكل قبيل من الجن مقعد من السماء يستمعون منه الوحي ، وكان إذا نزل الوحي سمع له صوت كإمرار السلسلة على الصفوان ، فلا ينزل على أهل سماء إلا صعقوا فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ، ثم يقول : يكون العام كذا ويكون كذا فتسمعه الجن فيخبرون به الكهنة والكهنة الناس يقولون يكون العام كذا وكذا فيجدونه كذلك ، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم دحروا بالشهب ، فقالت العرب حين لم تخبرهم الجن بذلك : هلك من في السماء ، فجعل صاحب الإبل ينحر كل يوم بعيرا ، وصاحب البقر ينحر كل يوم بقرة ، وصاحب الغنم ينحر كل يوم شاة ، حتى أسرعوا في أموالهم فقالت ثقيف وكانت أعقل العرب : أيها الناس ! أمسكوا على أموالكم ، فإنه لم يمت من حيث السماء ، وإن هذا ليس بانتثار ، ألستم ترون معالمكم من النجوم كما هي والشمس والقمر والليل والنهار ! قال فقال إبليس : لقد حدث في الأرض اليوم حدث ، فأتوني من تربة كل أرض فأتوه بها ، فجعل يشمها فلما شم تربة مكة قال : من ها هنا جاء الحدث ، فنصتوا فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث . وقد مضى هذا المعنى مرفوعا مختصرا في سورة " الحجر " {[13043]} ، ومعنى القول أيضا في رميهم بالشهب وإحراقهم بها ، ويأتي في سورة " الجن " {[13044]} بيان ذلك إن شاء الله تعالى . وقيل : إنما يفزعون من قيام الساعة . وقال الكلبي وكعب : كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام فترة خمسمائة وخمسون سنة لا يجيء فيها الرسل ، فلما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم كلم الله تعالى جبريل بالرسالة ، فلما سمعت الملائكة الكلام ظنوا أنها الساعة قد قامت ، فصعقوا مما سمعوا ، فلما انحدر جبريل عليه السلام جعل يمر بكل سماء فيكشف عنهم فيرفعون رؤوسهم ويقول بعضهم لبعض : ماذا قال ربكم ؟ فلم يدروا ما قال ولكنهم قالوا : قال الحق وهو العلي الكبير ، وذلك أن محمدا عليه السلام عند أهل السموات من أشراط الساعة . وقال الضحاك : إن الملائكة المعقبات الذين يختلفون إلى أهل الأرض يكتبون أعمالهم ، يرسلهم الرب تبارك وتعالى ، فإذا انحدروا سمع لهم صوت شديد فيحسب الذين هم أسفل من الملائكة أنه من أمر الساعة ، فيخرون سجدا ويصعقون حتى يعلموا أنه ليس من أمر الساعة . وهذا تنبيه من الله تعالى وإخبار أن الملائكة مع اصطفائهم ورفعتهم لا يمكن أن يشفعوا لأحد حتى يؤذن لهم ، فإذا أذن لهم وسمعوا صعقوا ، وكان هذه حالهم ، فكيف تشفع الأصنام أو كيف تؤملون أنتم الشفاعة ولا تعترفون بالقيامة . وقال الحسن وابن زيد ومجاهد : حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين . قال الحسن ومجاهد وابن زيد : في الآخرة عند نزول الموت ، إقامة للحجة عليهم قالت الملائكة لهم : ماذا قال ربكم في الدنيا قالوا الحق وهو العلي الكبير ، فأقروا حين لا ينفعهم الإقرار ، أي قالوا قال الحق .

وقراءة العامة " فزع عن قلوبهم " . وقرأ ابن عباس " فزع عن قلوبهم " مسمى الفاعل وفاعله ضمير يرجع إلى اسم الله تعالى . ومن بناه للمفعول فالجار والمجرور في موضع رفع ، والفعل في المعنى لله تبارك وتعالى ، والمعنى في القراءتين : أزيل الفزع عن قلوبهم ، حسبما تقدم بيانه . ومثله : أشكاه ، إذا أزال عنه ما يشكوه . وقرأ الحسن : " فزع " مثل قراءة العامة ، إلا أنه خفف الزاي ، والجار والمجرور في موضع رفع أيضا ، وهو كقولك : انصرف عن كذا إلى كذا . وكذا معنى " فزع " بالراء والغين المعجمة والتخفيف ، غير مسمى الفاعل ، رويت عن الحسن أيضا وقتادة . وعنهما أيضا " فرغ " بالراء والغين المعجمة مسمى الفاعل ، والمعنى : فرغ الله تعالى قلوبهم أي كشف عنها ، أي فرغها من الفزع والخوف ، وإلى ذلك يرجع البناء للمفعول ، على هذه القراءة وعن الحسن أيضا " فرغ " بالتشديد .


[13041]:راجع ج 11 ص 281.
[13042]:الصفوان: الصخر الأملس.
[13043]:راجع ج 10 ص 10.
[13044]:راجع ج 19 ص 10 فما بعد.