جامع البيان في تفسير القرآن للإيجي - الإيجي محيي الدين  
{وَلَا تَنفَعُ ٱلشَّفَٰعَةُ عِندَهُۥٓ إِلَّا لِمَنۡ أَذِنَ لَهُۥۚ حَتَّىٰٓ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمۡ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمۡۖ قَالُواْ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡكَبِيرُ} (23)

{ ولا تنفع{[4151]} الشفاعة عنده } أي : شفاعة شافع لمشفوع ، { إلا لمن أذن{[4152]} له } : أن يشفع ، أو أن يشفع له ، { حتى إذا فزع عن قلوبهم } : أزيل الفزع وكشف عنها ، { قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق } ، توجيهه على رأي المتأخرين أن حتى غاية لما فهم من السابق من أن ثمة انتظارا وتربصا للإذن ، كأنه قيل : يتربصون فزعين حتى إذا كشف الفزع عن قلوبهم بكلمة تكلم بها رب المغفرة والعزة قال بعضهم لبعض- على وجه السؤال : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : قال القول الحق وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى ، وأما كلام السلف هو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي أرعد أهل السماوات من الهيبة ، فيلحقهم كالغشي فإذا جلى عن قلوبهم سأل بعضهم بعضا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : القول الحق ، أي المطابق للواقع يعني : أخبر بعضهم بعضا بما قال الله من غير زيادة ونقصان ، وفي البخاري والترمذي وابن ماجة أحاديث صريحة في هذا المعنى ، وعلى هذا طباق الآية مشكل ويمكن أن يقال : إن المشركين يعبدون الملائكة زاعمين أنهم شفعاء{[4153]} لهم فبين سبحانه مقام عظمته وجبروته أن لا يجترئ أحد منهم أن يشفع لأحد إلا بإذنه فهم خلف سرادق الهيبة متحيرون متربصون حتى إذا أزيل عنهم الفزع قالوا : { ماذا قال ربكم } الآية ، كأنه قال : لا تنفع الشفاعة إلا لمن لا يثبت عند سماع كلام الحق ولا يقدر التكلم حتى إذا أزيل الفزع وعن بعض السلف{[4154]} معناه : حتى إذا نزع الغفلة عن قلوب المشركين عند الاحتضار ويوم القيامة قالت الملائكة لهم : ماذا قال ربكم في الدنيا بالوحي ؟ قالوا ''الحق'' فأقروا حين لا ينفعهم الإقرار ، وعلى هذا أيضا توجيهها مشكل اللهم إلا أن يقال معناها : قل يا محمد للمشركين ادعوا آلهتكم أي : اعبدوهم ، فيكون الأمر للتهديد ، حتى إذا نزع الغفلة عن قلوبهم ، ويكون حتى غاية لعبادتهم ، ويكون قوله عن قلوبهم التفات من الخطاب ، والله أعلم ، { وهو العلي الكبير } : له العلو والكبرياء ،


[4151]:ذكر الرازي تحت هذه الآية مذاهب المشركين وقال: واعلم أن المذاهب المفضية إلى الشرك أربعة، ثم ذكرها إلى أن قال، ورابعها: قول من قال: إنا نعبد الأصنام التي هي صور الملائكة ليشفعوا لنا، فقال تعالى في إبطال قولهم: ''ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له'' فلا فائدة لعبادتكم غير الله فإن الله لا يأذن في الشفاعة لمن يعبد غيره، فبطلبكم الشفاعة تفوتون على أنفسكم الشفاعة / 12.
[4152]:في هذه الآية قطع لأصول الشرك ومواده، وقلع لعروقه وهدم لأساسه لأن المشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له به من النفع، والنفع لا يكون إلا في من فيه خصلة من هذه الخصال الأربعة إماما لك لما يريد عابده منه، فإن لم يكن مالكا كان شريكا للمالك، فإن لم يكن شريكا له كان معينا وظهيرا، فإن لم يكن معينا ولا ظهيرا كان شفيعا عنده، فنفى سبحانه وتعالى المراتب الأربعة نفيا مرتبا منتقلا من الأعلى إلى ما دونه، فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك وأثبت شفاعة لا نصيب فيها للمشرك، وهي بإذن الله تعالى فكفى هذه الآية نورا وبرهانا ونجاة وتجريدا للتوحيد وقطعا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها، والقرآن مملوء من أمثالها، ونظائرها ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمنه له ويظنه في نوع وقوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثا وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن، ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم وشر منهم ودونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك، ولكن الأمر كما قال عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه: إنما ينقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية، وهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك وما عابه القرآن وذمه وقع فيه وأقره ودعا إليه وصوبه وحسنه، وهو لا يعرف أنه هو الذي كان عليه الجاهلية أو نظيره أو شر منه أو دونه، فينتقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا والمنكر معروفا والبدعة سنة والسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد ويبدع بتجريد متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم- ومفارقة الأهواء والبدع، ومن له بصيرة وقلب حي سليم يرى ذلك عيانا، والله سبحانه هو المستعان وعليه التكلان هذا ما قاله العلامة الحافظ ابن القيم شرح المنازل في باب التوبة / 12.
[4153]:قال تعالى {وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} [النجم: 26] وقال تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشية ربهم مشفقون} [الأنبياء: 28] 12 منه، وفي الوجيز، بل أصل عبادة الأحجار أنهم نحتوا كل صنم على مثال ملك بزعمهم / 12.
[4154]:صرح بذلك مجاهد، وعبد الرحمان بتريد ابن أسلم والحسن / 12 منه.