فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{وَلَا تَنفَعُ ٱلشَّفَٰعَةُ عِندَهُۥٓ إِلَّا لِمَنۡ أَذِنَ لَهُۥۚ حَتَّىٰٓ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمۡ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمۡۖ قَالُواْ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡكَبِيرُ} (23)

{ قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير 22 ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع على قلوبهم قالوا ما ذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير 23 }

روي أن ذلك نزل عند الجوع والقحط والسنين العجاف السبع التي أصابت قريشا ، فكأن القرآن الكريم يوبخ المشركين ويعجزهم ، ويتحداهم أن يملك من زعموهم آلهة دفع ما نزل بهم من بلاء ، ويتهكم بهم : أن ادعوهم لعلهم يستجيبون لكم إن صح دعواكم أنهم يقدرون على شيء ، ومناسبة هذا لما قبله : أننا ضربنا لهم الأمثال بما نتفضل به على المخلصين الشاكرين المصطفين الأخيار- من أمثال داود وسليمان عليهما السلام- وضربنا لهم المثل ببأسنا الذي لا يرد عن القوم المجرمين من أمثال سبأ ، فهل عند شركائكم قدرة على شيء من ذلك ؟ ! كلا ، ثم بين حال ما اتخذوه آلهة من دون الله وأنها إذا لم تملك وزن ذرة من خير أو شر أو نفع أو ضر فكيف تليق لها العبادة ؟ !

. . [ وذكر السماوات والأرض للتعميم عرفا ، فيراد بهما جميع الموجودات . . . . ويجوز أن يقال : إن ذكرهما لأن بعض آلهة المخاطبين سماوية كالملائكة والكواكب ، وبعضها أرضية كالأصنام ، فالمراد نفي قدرة السماوي منها على أمر سماوي ، والأرضي على أمر أرضي ، ويعلم نفي قدرته على غيره بطريق الأولى ]{[3744]}

{ وما لهم فيهما من شرك } ما لمعبوداتهم الباطلة أي شركة ما لا في الأرض ولا في السماوات لا خلقا ولا ملكا ولا تصرفا ، وما الله عز وجل ممن زعموهم شركاء من يعينه ، بل الله وحده هو الخلاق والمدبر ، الملك القدوس المهيمن ، وهو- دون سواه- المستحق للعبادة ، وما لأحد عند المولى تبارك وتعالى شفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا )وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى( {[3745]} .

. . [ إن الشفاعة لا تكون من أحد هؤلاء المعبودين من دون الله من الملائكة والأنبياء والأصنام ، إلا أن الله تعالى يأذن للأنبياء والملائكة في الشفاعة وهم على غاية الفزع من الله ، كما قال : ) . . وهم من خشيته مشفقون( {[3746]}والمعنى : أنه إذا أذن لهم في الشفاعة وورد عليهم كلام الله فزعوا ، لما يقترن بتلك الحال من الأمر الهائل والخوف . . . فإذا سري عنهم قالوا للملائكة فوقهم- وهم الذين يوردون عليهم الوحي بالإذن : { ماذا قال ربكم } أي ماذا أمر الله به ؟ فيقولون لهم : { قالوا الحق } وهو أنه أذن لكم في الشفاعة للمؤمنين . { وهو العلي الكبير } فله أن يحكم في عباده بما يريد ]{[3747]} وذهب كثير من المفسرين إلى أن هذا الوجل ثم انكشاف الفزع إنما يكون كلما سمعت الملائكة وحيا من وحي الله تعالى العلي الكبير واستشهدوا بأحاديث منها ما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن عكرمة قال : سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول : إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قضى الله تعالى الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الذي قال الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترق السمع ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض- ووصف سفيان بيده فحرفها ونشر بين أصابعه- فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء " . - هكذا نقله ابن كثير وأما الألوسي فبعد أن أورد أقوالا متعددة في تفسير تلك الآية الكريمة قال : وكأن الأكثر من المفسرين نظروا إلى ظاهر طباق اللفظ مع الحديث فنزلوا الآية على ذلك فوقعوا فيما وقعوا فيه . .

أقول : والذي أوردته أولا مطابق المقام ومتوافق مع السياق ، ولا تنافي بينه وبين الحديث الشريف .

{ *قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله }

في الآيتين الكريمتين السابقتين قامت حجة الله تعالى على المشركين ، وأن ما عبدوه من دون الله لا يملك شيئا في السماوات ولا في الأرض ، ولا يشارك في شيء منهما خلقا ولا ملكا ولا تصرفا ، وفي الآخرة هم وما يعبدون من دون الله حطب جهنم ، يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا ، وما لهم من شافعين ولا صديق حميم ، وفي هذه الآية المباركة يأمر الله تعالى نبيه أن يبكتهم ويذكرهم ويقررهم بأن الرزاق هو الله الكبير المتعال ذو القوة المتين ، إذ لا جواب سواه عندهم أيضا .


[3744]:مما أورد الألوسي.
[3745]:سورة النجم. الآية 26.
[3746]:سورة الأنبياء. من الآية 28.
[3747]:مما أورد القرطبي.