الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{وَلَا تَنفَعُ ٱلشَّفَٰعَةُ عِندَهُۥٓ إِلَّا لِمَنۡ أَذِنَ لَهُۥۚ حَتَّىٰٓ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمۡ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمۡۖ قَالُواْ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡكَبِيرُ} (23)

ثم قال تعالى : { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } أي : لا تنفع شفاعة شافع لأحد إلا لمن أذن الله له في الشفاعة والله لا يأذن بالشفاعة لأحد من أهل الكفر وأنتم أهل كفر فكيف تعبدون من تعبدون من دون الله زعما منكم أنكم تعبدونه ليقربكم إلى الله وليشفع لكم عند ربكم " فمن " على هذا التأويل للمشفوع له والتقدير : إلا لمن أذن له أن يشفع فيه .

وقيل : هي للشافع يراد به الملائكة أي لمن أذن له أن يشفع في غيره من الملائكة مثل قوله : { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى }{[55950]} .

قيل : من قال لا إله إلا الله ودل على ذلك قوله : { حتى إذا فزع عن قلوبهم } .

ثم قال تعالى : { حتى إذا فزع عن قلوبهم } أي : كشف عنها الفزع ومن فتح{[55951]} فمعناه : إذا كشف الله عن قلوبهم الجزع .

وقرأ الحسن : " فزع " الراء والعين غير معجمة{[55952]} .

وروي عنه بالراء وعين معجمة{[55953]} .

والمعنى أزيل عن قلوبهم الفزع .

قال ابن عباس : " فزع عن قلوبهم " جلي{[55954]} .

وقال مجاهد : كشف عنهم الغطاء{[55955]} وهم الملائكة وذلك أن ابن مسعود قال : إذا حدث أمر عند ذي العرش ، سمع من دونه من الملائكة صوتا كجر السلسلة على الصفا{[55956]} فيغشى عليهم ، فإذا ذهب الفزع عن قلوبهم نادوا ماذا قال ربكم ؟ فيقول من شاء الله : قال الحق وهو العلي الكبير{[55957]} .

وروى أبو هريرة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق وهو العلي الكبير " {[55958]} .

وقال ابن جبير : ينزل الأمر من عند رب العزة إلى سماء الدنيا فيسمعون مثل وقع الحديد على الصفا ، فيفزع أهل السماء الدنيا حتى يستبين لهم الأمر الذي نزل فيه فيقول بعضهم لبعض ماذا قال ربكم ؟ فيقولون : قال الحق وهو العلي الكبير{[55959]} .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا أراد الله جل ذكره أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي ، أخذت السماوات منه رجفة أو قال رعدة شديدة ، خوفا من الله فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجدا فيكون أول من يرفع رأسه جبريل صلى الله عليه وسلم فيكلمه الله جل وعز من وحيه بما أراد ثم يمر جبريل على الملائكة صلى الله عليهمكلما مر بسماء سألته ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل ؟ فيقول جبريل صلى الله عليه وسلم : قال الحق وهو العلي الكبير : قال : فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل ، فينتهي جبريل عليه السلام بالوحي حيث أمره الله عز وجل{[55960]} .

قال قتادة : يوحي الله جل ذكره إلى جبريل صلى الله عليه وسلم فتفرق{[55961]} الملائكة مخافة أن يكون شيئا من أمور الساعة ، فإذا أجلي عن قلوبهم وعلموا أن ذلك ليس من أمور الساعة ، قالوا : ماذا قال ربكم{[55962]} .

وقال الضحاك : زعم ابن مسعود أن الملائكة المعقبات{[55963]} يختلفون إلى أهل الأرض يكتبون أعمالهم ، فإذا أرسلهم الرب وانحدروا سمع لهم صوت شديد فيحسب الذين هم أسفل منهم من الملائكة أنه من أمر الساعة فيخرون سجدا وهذا كلما مروا عليهم يفعلون ذلك من خوف الله{[55964]} .

وذكر ابن سحنون محمد{[55965]} حدثنا بسنده إلى ابن عباس أنه قال : إن الله تبارك وتعالى إذا تكلم بالوحي سمع أهل السماوات صوتا كصوت الحديد وقع على الصفا فيخرون سجدا ، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق وهو العلي الكبير .

وروى محمد حدثنا بسنده إلى ابن مسعود أنه قال : إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة{[55966]} كجر السلسلة على الصفا فيصعقون ، فلا يزالون كذلك حتى تأتيهم جبريل عليه السلام ، فإذا جاءهم فزع عن قلوبهم فإذا قاموا نادوا يا جبريل ماذا قال ربكم ؟ فيقول : الحق فينادون الحق الحق وهو العلي الكبير{[55967]} . وقال ابن زيد : هذا في بني آدم عند الموت أقروا بالله حين لم ينفعهم الإقرار{[55968]} .

فالمعنى فزع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم وما كان يضلهم ، أي : قالوا : ماذا قال ربكم ، فيكون هذا الكلام مردودا على من تقدم ذكره من الذين صدق عليهم إبليس ظنه ، وتكون الأقوال المتقدمة مردودة على { إلا لمن أذن له } أي لمن أذن له من الملائكة أن يشفع و{ العلي } الجبار و{ الكبير } السيد .


[55950]:الأنبياء: آية 28
[55951]:قراءة "فزع" بفتح الفاء والزاي هي لابن عامر. انظر: السبعة لابن مجاهد 530 والكشف لمكي 2/205 والتيسير للداني 181 وسراج القارئ 330
[55952]:انظر: البحر المحيط 7/278
[55953]:انظر: المحتسب 2/191 ومعاني الفراء 2/361 وإعراب النحاس 3/345 والجامع للقرطبي 14/298 والبحر المحيط 7/278 والقراءات الشاذة 75 وقد نسب ابن جني هذه القراءة أيضا إلى قتادة وأبي المتوكل
[55954]:انظر: جامع البيان 22/90 والجامع للقرطبي 14/295 والدر المنثور 6/696
[55955]:انظر: جامع البيان 22/90 والجامع للقرطبي 14/295 وتفسير ابن كثير 3/537 والدر المنثور 6/701 وتفسير مجاهد 555
[55956]:الصفا: جمع صفاة وهي العريض من الحجارة الأملس وقيل: هي الحجر الصلد الذي لا ينبت شيئا انظر: اللسان مادة "صفا" 9/464
[55957]:انظر: جامع البيان 22/90 وتفسير ابن مسعود 2/515
[55958]:أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب التوحيد 8/194 والترمذي في سننه: أبواب التفسير تفسير سورة سبأ 3276 وابن ماجه في سننه: المقدمة 13، 194
[55959]:انظر: جامع البيان 22/90
[55960]:أورده الهيثمي في مجمع الزوائد كتاب التفسير تفسير سورة سبأ 7/97 وعلى المتقي في كنز العمال 3028 والطبري في جامع البيان 22/90 وابن كثير في تفسيره 3/539 وكلهم رووه عن النواس بن سمعان
[55961]:جاء في اللسان مادة "فرق" الفرق بالتحريك: الخوف وفرق منه بالكسر فرقا:جزع وفرق وأشفق ورجل فرق وفرق وفروق وفروقة وفاروق، وفاروقة: فزع شديد الفرق"
[55962]:انظر: جامع البيان 22/92 والدر المنثور 6/700
[55963]:سميت كذلك لأنها تتعقب على العبد وذلك أن ملائكة الليل إذا صعدت بالنهار أعقبتها ملائكة النهار، فإذا انقضى النهار صعدت ملائكة النهار ثم أعقبتها ملائكة الليل. انظر: جامع البيان 13/114 والجامع للقرطبي 9/291 تفسير قوله تعالى: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه} الرعد: 11 وانظر: أيضا اللسان مادة "عقب" 1/620
[55964]:انظر: جامع البيان 22/92 والجامع للقرطبي 14/297، والبحر المحيط 7/279، والدر المنثور 6/700 وروح المعاني 22/138 وتفسير ابن مسعود 2/515
[55965]:هو محمد بن عبد السلام سحنون بن سعيد بن حبيب التنوخي، أبو عبد الله، فقيه مالكي مناظر من أهل القيروان عالم كثير التصانيف توفي سنة 256 هـ انظر: ترتيب المدارك 4/204 وشجرة النور الزكية 70
[55966]:الصلصة: صوت الحديد إذا حرك انظر: اللسان مادة: "صلل" 11/382
[55967]:انظر: الدر المنثور 6/699 وفيه نسبة هذه الرواية إلى البيهقي عن ابن مسعود.
[55968]:انظر: جامع البيان 22،92