قوله تعالى : { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } الله في الشفاعة ، قاله تكذيباً لهم حيث قالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، ويجوز أن يكون المعنى إلا لمن أذن الله في أن يشفع له ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي : { أذن } بضم الهمزة . { حتى إذا فزع عن قلوبهم } قرأ ابن عامر ، ويعقوب بفتح الفاء والزاي ، وقرأ الآخرون بضم الفاء وكسر الزاي أي : كشف الفزع وأخرج عن قلوبهم ، فالتفزيع إزالة الفزع كالتمريض والتفريد . واختلفوا في الموصوفين بهذه الصفة ، فقال قوم : هم الملائكة ، ثم اختلفوا في ذلك السبب فقال بعضهم : إنما يفزع عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماع كلام الله عز وجل . وروينا عن أبي هريرة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : { إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان " فإذا فزع عن قلوبهم { قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير } .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، قال : أنبأني محمد بن الفضل بن محمد ، أنبأنا أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة ، أنبأنا زكريا بن يحيى بن أبان المصري ، أنبأنا نعيم بن حماد ، أنبأنا أبو الوليد بن مسلم ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن أبي زكريا ، عن رجاء بن حيوة ، عن النواس بن سمعان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السموات منه رجفة أو قال : رعدة شديدة خوفاً من الله تعالى ، فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجداً ، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل ، فيكلمه الله من وحيه بما أراد ، ثم يمر جبريل على الملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل ؟ فيقول جبريل : قال الحق وهو العلي الكبير ، قال فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل ، فينتهي جبريل بالوحي حيث أمره " .
وقال بعضهم إنما يفزعون حذراً من قيام الساعة . قال مقاتل والكلبي والسدي : كانت الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام ، خمسمائة وخمسين سنة ، وقيل ستمائة سنة لم تسمع الملائكة فيها وحياً ، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وكل جبريل عليه السلام بالرسالة إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، فلما سمعت الملائكة ظنوا أنها الساعة ، لأن محمدا صلى الله عليه وسلم عند أهل السموات بعثته من أشراط الساعة ، فصعقوا مما سمعوا خوفا من قيام الساعة ، فلما انحدر جبريل جعل يمر بأهل كل سماء فيكشف عنهم فيرفعون رؤوسهم ويقول بعضهم لبعض : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : قال الحق ، يعني الوحي ، وهو العلي الكبير . وقال جماعة : الموصوفون بذلك المشركون . قال الحسن وابن زيد : حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين عند نزول الموت بهم إقامة للحجة عليهم قالت لهم الملائكة ماذا قال ربكم في الدنيا ؟ قالوا : الحق ، فأقروا به حين لا ينفعهم الإقرار .
قوله تعالى : " ولا تنفع الشفاعة " أي شفاعة الملائكة وغيرهم . " عنده " أي عند الله . " إلا لمن أذن له " قراءة العامة " أذن " بفتح الهمزة ؛ لذكر الله تعالى أولا . وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي " أذن " بضم الهمزة على ما لم يسم فاعله . والآذن هو الله تعالى . و " من يجوز أن ترجع إلى الشافعين ، ويجوز أن ترجع إلى المشفوع لهم . " حتى إذا فزع عن قلوبهم " قال ابن عباس : خلي عن قلوبهم الفزع . قطرب : أخرج ما فيها من الخوف . مجاهد : كشف عن قلوبهم الغطاء يوم القيامة ، أي إن الشفاعة لا تكون من أحد هؤلاء المعبودين من دون الله من الملائكة والأنبياء والأصنام ، إلا أن الله تعالى يأذن للأنبياء والملائكة في الشفاعة وهم على غاية الفزع من الله ، كما قال : " وهم من خشيته مشفقون " {[13041]} [ الأنبياء : 28 ] والمعنى : أنه إذا أذن لهم في الشفاعة وورد عليهم كلام الله فزعوا ؛ لما يقترن بتلك الحال من الأمر الهائل والخوف أن يقع في تنفيذ ما أذن لهم فيه تقصير ، فإذا سري عنهم قالوا للملائكة فوقهم وهم الذين يوردون عليهم الوحي بالإذن : ماذا قال ربكم " أي ماذا أمر الله به ، فيقولون لهم : " قالوا الحق " وهو أنه أذن لكم في الشفاعة للمؤمنين . " وهو العلي الكبير " فله أن يحكم في عباده بما يريد . ثم يجوز أن يكون هذا إذنا لهم في الدنيا في شفاعة أقوام ، ويجوز أن يكون في الآخرة . وفي الكلام إضمار ، أي ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ففزع لما ورد عليه من الإذن تهيبا لكلام الله تعالى ، حتى إذا ذهب الفزع عن قلوبهم أجاب بالانقياد . وقيل : هذا الفزع يكون اليوم للملائكة في كل أمر يأمر به الرب تعالى ، أي لا تنفع الشفاعة إلا من الملائكة الذين هم اليوم فزعون ، مطيعون لله تعالى دون الجمادات والشياطين . وفي صحيح الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا قضى الله في السماء أمرا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنها سلسلة على صفوان{[13042]} فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق وهو العلي الكبير - قال - والشياطين بعضهم فوق بعض ) قال : حديث حسن صحيح . وقال النواس بن سمعان قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله إذا أراد أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السموات منه رجفة أو رعدة شديدة خوفا من الله تعالى ، فإذا سمع أهل السموات ذلك صعقوا وخروا لله تعالى سجدا فيكون أول من يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله تعالى ، ويقول له من وحيه ما أراد ، ثم يمر جبريل بالملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل ؟ فيقول جبريل : قال الحق وهو العلى الكبير - قال فيقول كلهم كما قال جبريل فينتهي جبريل بالوحي حيث أمره الله تعالى ) . وذكر البيهقي عن ابن عباس في قوله تعالى : " حتى إذا فُزِّع عن قلوبهم " قال : كان لكل قبيل من الجن مقعد من السماء يستمعون منه الوحي ، وكان إذا نزل الوحي سمع له صوت كإمرار السلسلة على الصفوان ، فلا ينزل على أهل سماء إلا صعقوا فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ، ثم يقول : يكون العام كذا ويكون كذا فتسمعه الجن فيخبرون به الكهنة والكهنة الناس يقولون يكون العام كذا وكذا فيجدونه كذلك ، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم دحروا بالشهب ، فقالت العرب حين لم تخبرهم الجن بذلك : هلك من في السماء ، فجعل صاحب الإبل ينحر كل يوم بعيرا ، وصاحب البقر ينحر كل يوم بقرة ، وصاحب الغنم ينحر كل يوم شاة ، حتى أسرعوا في أموالهم فقالت ثقيف وكانت أعقل العرب : أيها الناس ! أمسكوا على أموالكم ، فإنه لم يمت من حيث السماء ، وإن هذا ليس بانتثار ، ألستم ترون معالمكم من النجوم كما هي والشمس والقمر والليل والنهار ! قال فقال إبليس : لقد حدث في الأرض اليوم حدث ، فأتوني من تربة كل أرض فأتوه بها ، فجعل يشمها فلما شم تربة مكة قال : من ها هنا جاء الحدث ، فنصتوا فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث . وقد مضى هذا المعنى مرفوعا مختصرا في سورة " الحجر " {[13043]} ، ومعنى القول أيضا في رميهم بالشهب وإحراقهم بها ، ويأتي في سورة " الجن " {[13044]} بيان ذلك إن شاء الله تعالى . وقيل : إنما يفزعون من قيام الساعة . وقال الكلبي وكعب : كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام فترة خمسمائة وخمسون سنة لا يجيء فيها الرسل ، فلما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم كلم الله تعالى جبريل بالرسالة ، فلما سمعت الملائكة الكلام ظنوا أنها الساعة قد قامت ، فصعقوا مما سمعوا ، فلما انحدر جبريل عليه السلام جعل يمر بكل سماء فيكشف عنهم فيرفعون رؤوسهم ويقول بعضهم لبعض : ماذا قال ربكم ؟ فلم يدروا ما قال ولكنهم قالوا : قال الحق وهو العلي الكبير ، وذلك أن محمدا عليه السلام عند أهل السموات من أشراط الساعة . وقال الضحاك : إن الملائكة المعقبات الذين يختلفون إلى أهل الأرض يكتبون أعمالهم ، يرسلهم الرب تبارك وتعالى ، فإذا انحدروا سمع لهم صوت شديد فيحسب الذين هم أسفل من الملائكة أنه من أمر الساعة ، فيخرون سجدا ويصعقون حتى يعلموا أنه ليس من أمر الساعة . وهذا تنبيه من الله تعالى وإخبار أن الملائكة مع اصطفائهم ورفعتهم لا يمكن أن يشفعوا لأحد حتى يؤذن لهم ، فإذا أذن لهم وسمعوا صعقوا ، وكان هذه حالهم ، فكيف تشفع الأصنام أو كيف تؤملون أنتم الشفاعة ولا تعترفون بالقيامة . وقال الحسن وابن زيد ومجاهد : حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين . قال الحسن ومجاهد وابن زيد : في الآخرة عند نزول الموت ، إقامة للحجة عليهم قالت الملائكة لهم : ماذا قال ربكم في الدنيا قالوا الحق وهو العلي الكبير ، فأقروا حين لا ينفعهم الإقرار ، أي قالوا قال الحق .
وقراءة العامة " فزع عن قلوبهم " . وقرأ ابن عباس " فزع عن قلوبهم " مسمى الفاعل وفاعله ضمير يرجع إلى اسم الله تعالى . ومن بناه للمفعول فالجار والمجرور في موضع رفع ، والفعل في المعنى لله تبارك وتعالى ، والمعنى في القراءتين : أزيل الفزع عن قلوبهم ، حسبما تقدم بيانه . ومثله : أشكاه ، إذا أزال عنه ما يشكوه . وقرأ الحسن : " فزع " مثل قراءة العامة ، إلا أنه خفف الزاي ، والجار والمجرور في موضع رفع أيضا ، وهو كقولك : انصرف عن كذا إلى كذا . وكذا معنى " فزع " بالراء والغين المعجمة والتخفيف ، غير مسمى الفاعل ، رويت عن الحسن أيضا وقتادة . وعنهما أيضا " فرغ " بالراء والغين المعجمة مسمى الفاعل ، والمعنى : فرغ الله تعالى قلوبهم أي كشف عنها ، أي فرغها من الفزع والخوف ، وإلى ذلك يرجع البناء للمفعول ، على هذه القراءة وعن الحسن أيضا " فرغ " بالتشديد .
ولما كان قد بقي من أقسام النفع الشفاعة ، وكان المقصود{[56798]} منها أثرها لا عينها ، نفاه بقوله : { ولا تنفع } أي في أيّ{[56799]} وقت من الأوقات { الشفاعة عنده } أي بوجه من الوجوه بشيء من الأشياء { إلا لمن } ولما كانت كثافة الحجاب {[56800]}أعظم في الهيبة ، وكان البناء للمجهول أدل على كثافة الحجاب{[56801]} ، قال في قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي{[56802]} بجعل المصدر عمدة الكلام وإسناد الفعل إليه : { أذن له } أي وقع منه إذن له على لسان من شاء من جنوده بواسطة واحدة أو أكثر في أن يشفع في غيره أو في{[56803]} أن يشفع فيه{[56804]} غيره ، وقراءة الباقين بالبناء{[56805]} للفاعل تدل على العظمة من وجه آخر ، وهو أنه لا افتيات{[56806]} عليه بوجه من أحد ما ، بل لابد{[56807]} أن ينص هو سبحانه على الإذن ، وإلا فلا استطاعة عليه أصلاً .
ولما كان من المعلوم أن الموقوفين{[56808]} في محل خطر للعرض على ملك مرهوب متى نودي باسم أحد منهم فقيل {[56809]}أين فلان{[56810]} ينخلع قلبه وربما أغمي عليه ، فلذلك{[56811]} كان من المعلوم مما مضى أنه متى برز النداء من قبله تعالى في ذلك المقام الذي ترى فيه كل أمة جاثية يغشى على الشافعين والمشفوع لهم ، فلذلك حسن كل الحسن قوله تعالى : { حتّى } وهو غاية لنحو أن يقال : فإذا أذن له وقع الصعق لجلاله وكبريائه وكماله حتى { إذا فزع } أي أزيل الفزع بأيسر أمر وأهون سعي من أمره سبحانه - هذا في قراءة الجماعة بالبناء للمجهول ، وأزال هو سبحانه الفزع في قراءة ابن عامر ويعقوب{[56812]} ، إشارة إلى أنه لا يخرج عن أمره شيء { عن قلوبهم } أي الشافعين والمشفوع لهم ، فإن " فعّل " يأتي للإزالة كقذّيت عينه - إذا{[56813]} أزلت عنها القذى { قالوا } أي قال بعضهم لبعض : { ماذا قال ربكم } ذاكرين صفة الإحسان ليرجع إليهم رجاؤهم فتسكن لذلك قلوبهم .
ولما كان ملوك الدنيا ربما قال بعضهم قولاً ثم بدا له فرجع عنه ، أو عارضه{[56814]} فيه شخص من أعيان جنده فينتقض ، أخبر أن الملك الديان ليس كذلك فقال : { قالوا الحق } أي الثابت الذي لا يمكن أن يبدل ، بل يطابقه الواقع فلا يكون شيء يخالفه { وهو العلي } أي فلا رتبة إلا دون رتبته سبحانه وتعالى ، فلا يقول غير الحق من نقص علم { الكبير * } أي الذي لا كبير غيره فيعارضه في شيء من حكم ؛ روى البخاري في التفسير{[56815]} عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال{[56816]} : " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها{[56817]} خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان { فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا } - للذي قال - { الحق وهو العلي الكبير } فيسمعها{[56818]} مسترق السمع ، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض – و{[56819]} وصفه سفيان بكفه فحرفها{[56820]} وبدد بين أصابعه - فيسمع الكلمة ويلقيها إلى من تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن ، فربما{[56821]} أدركه الشهاب قبل أن يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة{[56822]} فيقال : أليس قد{[56823]} قال لنا يوم{[56824]} كذا وكذا كذا وكذا ، فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء " وقال في التوحيد : وقال مسروق عن ابن مسعود رضي الله عنهما : " وإذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات{[56825]} فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا{[56826]} أنه الحق ونادوا ماذا قال ربكم قالوا الحق " وروى هذا الحديث العيسي في جزئه عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفاً عليه ، قال : كان لكل قبيل من الجن مقعد من السماء يسمعون فيه الوحي ، وفيه : فلا ينزل على سماء إلا صفقوا ، وفي آخره : ثم يقال : يكون العام كذا ويكون العام كذا ، فتسمع الجن ذلك فتخبر به الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا ، فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم دحروا ، فقالت العرب : هلك من في السماء ، فذكر ذبح العرب لأموالهم من الإبل وغيرها ، حتى نهتهم ثقيف ، واستدلوا بثبات معلم النجوم ، ثم أمر إبليس جنده بإحضار التراب وشمه حتى عرف أن الحدث من مكة{[56827]} .