قوله تعالى : { إذ تصعدون } . يعني ولقد عفا عنكم إذ تصعدون هاربين ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والحسن ، وقتادة ، تصعدون بفتح التاء والعين ، والقراءة المعروفة بضم التاء وكسر العين . والإصعاد السير في مستوى الأرض ، والصعود الارتفاع على الجبال والسطوح ، قال أبو حاتم : يقال أصعدت إذا مضيت حيال وجهك ، وصعدت إذا ارتقيت في جبل أو غيره ، وقال المبرد : أصعد إذا أبعد في الذهاب ، وكلتا القراءتين صواب ، فقد كان يومئذ من المنهزمين مصعد وصاعد ، وقال المفضل : صعد وأصعد بمعنى واحد .
قوله تعالى : { ولا تلوون على أحد } . أي لا تعرجون ولا تقيمون على أحد لا يلتفت بعضكم إلى بعض .
قوله تعالى : { والرسول يدعوكم في أخراكم } . أي : في آخركم ومن ورائكم " إلي عباد الله أنا رسول الله من يكر فله الجنة " .
قوله تعالى : { فأثابكم } . فجازاكم ، جعل الإثابة بمعنى العقاب ، وأصلها في الحسنات لأنه وضعها موضع الثواب ، كقوله تعالى ( فبشرهم بعذاب أليم ) . جعل البشارة في العذاب ، ومعناه جعل مكان الثواب الذي كنتم ترجون .
قوله تعالى : { غماً بغم } . وقيل : الباء بمعنى على ، أي غماً على غم ، وقيل : غماً متصلاً بغم ، فالغم الأول : ما فاتهم من الظفر والغنيمة ، والغم الثاني ما نالوا من القتل والهزيمة . وقيل : الغم الأول ما أصابهم من القتل والجراح . والغم الثاني ما سمعوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قتل ، فأنساهم الغم الأول وقيل : الغم الأول إشراف خالد بن الوليد عليهم بخيل المشركين ، والغم الثاني : حين أشرف عليهم أبو سفيان ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة ، فلما رأوه وضع رجل سهماً في قوسه فأراد أن يرميه ، فقال " أنا رسول الله " صلى الله عليه وسلم ، ففرحوا حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفرح النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى أن في أصحابه من يمتنع به ، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه ، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا ، فأقبل أبو سفيان وأصحابه ، حتى وقفوا بباب الشعب ، فلما نظر المسلمون إليهم أهمهم ذلك وظنوا أنهم يميلون عليهم فيقتلونهم ، فأنساهم هذا ما نالهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس لهم أن يعلونا اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد في الأرض " ، ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم . وقيل : إنهم غموا الرسول بمخالفة أمره ، فجازاهم الله بذلك الغم غم القتل والهزيمة .
قوله تعالى : { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } . من الفتح والغنيمة .
قوله تعالى : { ولا ما أصابكم } . أي ولا على ما أصابكم من القتل والهزيمة .
ويستحضر صورة الهزيمة حية متحركة :
( إذ تصعدون ولا تلوون على أحد ، والرسول يدعوكم في أخراكم ) . .
كي يعمق وقع المشهد في حسهم ؛ ويثير الخجل والحياء من الفعل ، ومقدماته التي نشأ عنها ، من الضعف والتنازع والعصيان . . والعبارة ترسم صورة حركتهم الحسية وحركتهم النفسية في الفاظ قلائل . . فهم مصعدون في الجبل هربا ، في اضطراب ورعب ودهش ، لا يلتفت أحد منهم إلى أحد ! ولا يجيب أحد منهم داعي أحد ! والرسول [ ص ] يدعوهم ، ليطمئنهم على حياته بعد ما صاح صائح : إن محمدا قد قتل ، فزلزل ذلك قلوبهم وأقدامهم . . إنه مشهد كامل في الفاظ قلائل . .
وكانت النهاية أن يجزيهم الله على الغم الذي تركوه في نفس الرسول [ ص ] بفرارهم ، غما يملأ نفوسهم على ما كان منهم ، وعلى تركهم رسولهم الحبيب يصيبه ما أصابه - وهو ثابت دونهم ، وهم عنه فارون - ذلك كي لا يحفلوا شيئا فاتهم ولا أذى أصابهم . فهذه التجربة التي مرت بهم ، وهذا الألم الذي أصاب نبيهم - وهو أشق عليهم من كل ما نزل بهم - وذلك الندم الذي ساور نفوسهم ، وذلك الغم الذي أصابهم . . كل ذلك سيصغر في نفوسهم كل ما يفوتهم من عرض ، وكل ما يصيبهم من مشقة :
( فأثابكم غما بغم ، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم ) . .
والله المطلع على الخفايا ، يعلم حقيقة أعمالكم ، ودوافع حركاتكم :
{ إذ تصعدون } متعلّق بقوله : { ثم صرفكم عنهم } [ آل عمران : 152 ] أي دفعكم عن المشركين حين أنتم مصعدون .
والإصْعاد : الذهاب في الأرض لأنّ الأرض تسمّى صعيداً ، قال جعفر بن عُلْبة :
* هَوَاي مَع الرَكْب اليَمَانِينَ مُصْعِد *
والإصعاد أيضاً السَّير في الوادي ، قال قتادة والربيع : أصعدوا يوم أحُد في الوادي . والمعنى : تفرّون مصعدين ، كأنَّه قيل : تذهبون في الأرض أي فراراً ، فـ ( إذ ) ظرف للزمان الَّذي عقب صرف الله إيّاهم وكان من آثاره .
{ ولا تلوون على أحد } أي في هذه الحالة . واللَّيُّ مجاز بمعنى الرّحمة والرفق مثل العطف في حقيقته ومجازه ، فالمعنى ولا يلوي أحد عن أحد فأوجز بالحذف ، والمراد على أحد منكم ، يعني : فررتم لا يرحم أحد أحداً ولا يرفق به ، وهذا تمثيل للجدّ في الهروب حتَّى إنّ الواحد ليدوس الآخر لو تعرّض في طريقه .
وجملة { والرسول يدعوكم في أُخراكم } حال ، والأخرى آخر الجيش أي من ورائكم . ودعاء الرسول دعاؤه إيّاهم للثبات والرجوع عن الهزيمة ، وهذا هو دعاء الرسول النَّاس بقوله : « إليّ عباد الله من يَكُر فله الجنَّة » .
وقوله : { فأثابكم غما } إن كان ضمير { فأثابكم } ضميرَ اسم الجلالةَ ، وهو الأظهر والموافق لقوله بعده : { ثم أنزل عليكم من بعد الغم } [ آل عمران : 154 ] فهو عطف على { صَرَفكم } [ آل عمران : 152 ] أي ترتّب على الصرف إثابتكم . وأصلُ الإثابة إعطاء الثَّواب وهو شيء يكون جزاء على عطاء أو فعل . والغمّ ليس بخير ، فيكونُ أثابكم إمّا استعارة تهكمية كقول عمرو بن كلثوم :
قَرَينَاكُم فَعَجَّلْنَا قِراكم *** قبيلَ الصبح مِرداة طحونا
أي جازاكم الله على ذلك الإصعاد المقارن للصرف أن أثابكم غمّاً أي قلقَا لكم في نفوسكم ، والمراد أن عاقبكم بغمّ كقوله : { فبشّرهم بعذاب أليم } [ آل عمران : 21 ] وفي هذا الوجه بعد : لأنّ المقام مقام ملام لا توبيخ ، ومقام لا تنديم . وإمّا مشاكلةً تقديرية لأنَّهم لما خرجوا للحرب خرجوا طالبين الثَّواب ، فسلكوا مسالك باءوا معها بعقاب فيكون كقول الفرزدق :
أخاف زياداً أن يكون عطاؤُه *** أدَاهِم سوداً أو مُحَدْرَجَةً سُمرا
قلتُ : اطبُخوا لي جُبَّةً قميصاً .
ونكتة هذه المشاكلة أن يتوصّل بها إلى الكلام على ما نشأ عن هذا الغمّ من عبرة ، ومن توجّه عناية الله تعالى إليهم بعده .
والباء في قوله : { بغمّ } للمصاحبة أي غمّاً مع غمّ ، وهو جملة الغموم الَّتي دخلت عليهم من خيبة الأمل في النَّصر بعد ظهور بَوارقه ، ومن الانهزام ، ومن قتل من قُتل ، وجرح من جرح ، ويجوز كون الباء للعوض ، أي : جازاكم الله غمّاً في نفوسكم عوضاً عن الغمّ الَّذي نسبتم فيه للرسول وإن كان الضّمير في قوله : { فأثابكم } عائداً إلى الرسول في قوله : { والرسول يدعوكم } ، وفيه بعد ، فالإثابة مجاز في مقابلة فعل الجميل بمثله أي جازاكم بغمّ .
والباء في قوله : { بغمّ } باء العوض . والغمّ الأوّل غمّ نفس الرسول ، والغمّ الثَّاني غمّ المسلمين ، والمعنى أنّ الرسول اغتمّ وحزن لما أصابكم ، كما اغتممتم لما شاع من قتله فكان غمّه لأجلكم جزاءاً على غمّكم لأجله .
وقوله : { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } تعليل أوّل ل ( أثابكم ) أي ألهاكم بذلك الغمّ لئلاّ تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة ، وما أصابكم من القتل والجراح ، فهو أنساهم بمصيبة صغيرة مصيبة كبيرة ، وقيل : ( لا ) زائدة والمعنى : لتحزنوا ، فيكون زيادة في التوبيخ والتنديم إن كان قوله : { أثابكم } تهكّماً أو المعنى فأثابكم الرسول غمّاً لكيلا تحزنوا على ما فاتكم : أي سكت عن تثريبكم ، ولم يظهر لكم إلاّ الاغتمام لأجلكم ، لكيلا يذكّركم بالتثريب حزناً على ما فاتكم ، فأعرض عن ذكره جَبراً لخواطركم . وقيل : المعنى أصابكم بالغمّ الَّذي نشأ عن الهزيمة لتعتادوا نزول المصائب ، فيذهب عنكم الهلع والجزع عند النوائب .
وفي الجمع بين { ما فاتكم } و { ما أصابكم } طباق يؤذن بطباق آخر مقدّر ، لأنّ ما فات هو النافع وما أصاب هو من الضّار .