البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞إِذۡ تُصۡعِدُونَ وَلَا تَلۡوُۥنَ عَلَىٰٓ أَحَدٖ وَٱلرَّسُولُ يَدۡعُوكُمۡ فِيٓ أُخۡرَىٰكُمۡ فَأَثَٰبَكُمۡ غَمَّۢا بِغَمّٖ لِّكَيۡلَا تَحۡزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا مَآ أَصَٰبَكُمۡۗ وَٱللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ} (153)

الإصعاد : ابتداء السفر ، والمخرج .

والصعود : مصدر صعد رقى من سفل إلى علو ، قاله : الفراء ، وأبو حاتم والزجاج .

وقال القتبي : أصعد أبعد في الذهاب ، فكأنه إبعاد كإبعاد الارتفاع .

قال :

ألا أيهذا السائلي أين صعدت *** فإن لها في أرض يثرب موعدا

وأنشد أبو عبيدة :

قد كنت تبكيني على الاصعاد *** فاليوم سرحت وصاح الحادي

وقال المفضل : صعد ، وأصعد ، وصعد بمعنى واحد .

والصعيد : وجه الأرض .

وصعدة : إسم من أسماء الأرض .

وأصعد : معناه دخل في الصعيد .

فات الشيء أعجز إدراكه ، وهو متعد ، ومصدره : فوت ، وهو قياس فعل المتعدي .

{ إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم } هذه الجمل التي تضمنت التوبيخ والعتب الشديد .

إذ هو تذكار بفرار من فرّ وبالغ في الهرب ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إليه .

فمن شدّة الفرار واشتغاله بنفسه وهو يروم نجاتها لم يصغ إلى دعاء الرسول ، وهذا من أعظم العتب حيث فرّ ، والحالة أن رسول الله يدعوه إليه .

وقرأ الجمهور : تصعدون مضارع أصعد ، والهمزة في أصعد للدخول .

أي : دخلتم في الصعيد ، ذهبتم فيه .

كما تقول : أصبح زيد ، أي دخل في الصباح .

فالمعنى : إذ تذهبون في الأرض .

وتبين ذلك قراءة أبي : إذ تصعدون في الوادي .

وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن ومجاهد وقتادة واليزيدي : تصعدون من صعد في الجبل إذا ارتقى إليه .

وقرأ أبو حيرة : تصعدون من تصعد في السلم ، وأصله : تتصعدون ، فحذفت إحدى التاءين على الخلاف في ذلك ، أي تاء المضارعة ؟ أم تاء تفعل ؟ والجمع بينهما أنهم أولاً أصعدوا في الوادي لما أرهقهم العدو ، وصعدوا في الجبل .

وقرأ ابن محيصن وابن كثير في رواية شبل : يصعدون ولا يلوون بالياء على الخروج من الخطاب إلى الغائب .

والعامل في إذا ذكر محذوفة .

أو عصيتم ، أو تنازعتم ، أو فشلتم ، أو عفا عنكم ، أو ليبتليكم ، أو صرفكم ، وهذان عن الزمخشري ، وما قبله عن ابن عطية .

والثلاثة قبله بعيدة لطول الفصل .

والأول جيد ، لأنَّ ما قبل إذ جمل مستقلة يحسن السكوت عليها ، فليس لها تعلق إعرابي بما بعدها ، إنما تتعلق به من حيث أنَّ السياق كله في قصة واحدة .

وتعلقه بصرفكم جيد من حيث المعنى ، وبعفا عنكم جيد من حيث القرب .

ومعنى ولا تلوون على أحد : أي لا ترجعون لأحد من شدة الفرار .

يقال : لوى بكذا ذهب به .

ولوى عليه : كر عليه وعطف .

وهذا أشد في المبالغة من قوله :

أخو الجهد لا يلوي على من تعذرا لأنه في الأية نفي عام ، وفي هذا نفي خاص ، وهو على من تعذرا ، وقال دريد ابن الصمة : وهل يرد المنهزم شيء ؟ وقرئ تلو من بإبدال الواو همزة وذلك لكراهة اجتماع الواوين وقياس هذه الواو المضمومة ، أن لا تبدل همزة لأن الضمة فيها عارضة ، ومتى وقعت الواو غير ، وهي مضمومة فلا يجوز الإبدال منها همزة إلا بشرطين أحدهما : أن تكون الضمة لازمة .

الثاني : أن لا تكون يمكن تخفيفها بالإسكان .

مثال ذلك : فووج وفوول .

وغوور .

فهنا يجوز فؤوج وقؤول وغؤور بالهمز .

ومثل كونها عارضة : هذا دلوك .

ومثل إمكان تخفيفها بالإسكان : هذا سور ، ونور ، جمع سوار ونوار .

فإنك تقول فيهما : سور ونور .

ونبه بعض أصحابنا على شرط آخر وهو لا بد منه ، وهو : أن لا يكون مدغماً فيها نحو : تعود ، فلا يجوز فيه تعود بإبدال الواو المضمومة همزة .

وزاد بعض النحويين شرطاً آخر وهو : أن لا تكون الواو زائدة نحو : الترهوك وهذا الشرط ليس مجمعاً عليه .

وقرأ الحسن : تلون ، وخرجوها على قراءة من همز الواو ، ونقل الحركة إلى اللام ، وحذف الهمزة .

قال ابن عطية : وحذفت إحدى الواوين الساكنين ، وكان قد قال في هذه القراءة : هي قراءة متركبة على قراءة من همز الواو المضمومة ، ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام انتهى .

وهذا كلام عجيب تخيل هذا الرجل أنه قد نقلت الحركة إلى اللام فاجتمع واوان ساكنان ، إحداهما : الواو التي هي عين الكلمة ، والأخرى : واو الضمير .

فحذفت إحدى الواوين لأنهما ساكنتان ، وهذا قول من لم يمعن في صناعة النحو .

لأنها إذا كانت متركبة على لغة من همز الواو ثم نقل حركتها إلى اللام ، فإن الهمزة إذ ذاك تحذف ، ولا يلتقي واوان ساكنان .

ولو قال : استثقلت الضمة على الواو ، لأن الضمة كأنها واو ، فصار ذلك كأنه جمع ثلاث واواوت ، فتنقلب الضمة إلى اللام ، فالتقى ساكنان ، فحذفت الأولى منهما ، ولم يبهم في قوله إحدى الواوين لأمكن ذلك في توجيه هذه القراءة الشاذة ، أما أنْ يبنى ذلك على أنه على لغة من همز على زعمه ، فلا يتصور .

ويحتمل أن يكون مضارع ولي وعدي بعلي ، على تضمين معنى العطف .

أي : لا تعطفون على أحد .

وقرأ الأعمش وأبو بكر في رواية عن عاصم : تلوون من ألوى ، وهي لغة في لوى .

وظاهر قوله على أحد العموم .

وقيل : المراد النبي صلى الله عليه وسلم ، وعبر بأحد عنه تعظيماً له وصوناً لاسمه أن يذكر عند ذهابهم عنه ، قاله : ابن عباس والكلبي .

وقرأ حميد بن قيس على أُحُد بضم الهمزة والحاء ، وهو الجبل .

قال ابن عطية : والقراءة الشهيرة أقوى ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على الجبل إلا بعد ما فرّ الناس عنه ، وهذه الحال من إصعادهم إنما كانت وهو يدعوهم انتهى .

وقال غيره : الخطاب فيه لمن أمعن في الهرب ولم يصعد الجبل على من صعد .

ويجوز أن يكون أراد بقوله : ولا تلوون على أحد ، أي من كان على جبل أحد ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه الذين صعدوا .

وتلوون هو من ليّ العنق ، لأن مَن عرج على الشيء يلوي عنقه ، أو عنان دابته .

والألف واللام في الرسول للعهد .

ودعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، روي أنه كان يقول : « إليّ عباد الله » والناس يفرون عنه .

وروي : « أي عباد الله ارجعوا » قاله : ابن عباس : وفي رواية : « ارجعوا إليّ فإني رسول الله من يكر له الجنة » وهو قول : السدي ، والربيع .

قال القرطبي : وكان دعاؤه تغيير للمنكر ، ومحال أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم المنكر وهو الانهزام ثم لا ينهى عنه .

ومعنى في أخراكم : أي في ساقتكم وجماعتكم الأخرى ، وهي المتأخرة .

يقال : جئت في آخر الناس وأخراهم ، كما تقول : في أولهم وأولاهم بتأويل مقدّمتهم وجماعتهم الأولى .

وفي قوله : في أخراكم دلالة عظيمة على شجاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن الوقوف على أعقاب الشجعان وهم فرار والثبات فيه إنما هو للأبطال الأنجاد ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس .

قال سلمة : كنا إذا احمرّ البأس اتقيناه برسول الله صلى الله عليه وسلم .

{ فأثابكم غماً بغم } الفاعل بأثابكم هو الله تعالى .

وقال الفراء : الإثابة هنا بمعنى المغالبة انتهى .

وسمي الغم ثواباً على معنى أنه قائم في هذه النازلة مقام الثواب الذي كان يحصل لولا الفرار .

فهو نظير قوله :

تحية بينهم ضرب وجيع *** وقوله :

أخاف زياد أن يكون عطاؤه *** أداهم سوداً أو محدرجة سمرا

جعل القيود والسياط عطاء ، ومحدرجة بمعنى مدحرجة .

والباء في بغم : إمّا أن تكون للمصاحبة ، أو للسبب .

فإن كانت للمصاحبة وهي التي عبر بعضهم عنها بمعنى : مع .

والمعنى : غماً مصاحباً لغم ، فيكون الغمان إذ ذاك لهم .

فالأول : هو ما أصابهم من الهزيمة والقتل .

والثاني : إشراف خالد بخيل المشركين عليهم ، قاله : ابن عباس ، ومقاتل .

وقيل : الغم الأوّل سببه فرارهم الأوّل ، والثاني سببه فرارهم حين سمعوا أن محمداً قد قتل قاله : مجاهد .

وقيل : الأوّل ما فاتهم من الغنيمة وأصابهم من الجراح والقتل .

والثاني حين سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل ، قاله : قتادة والربيع .

وقيل : عكس هذا الترتيب ، وعزاه ابن عطية إلى قتادة ومجاهد .

وقيل : الأول ما فاتهم من الغنيمة والفتح .

والثاني : إشراف أبي سفيان عليهم ، ذكره الثعلبي .

وقيل : الأول هو قتلهم وجراحهم وكل ما جرى في ذلك المأزق .

والثاني : إشراف أبي سفيان على النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه ، قاله : السدي ومجاهد أيضاً وغيرهما .

وعبر الزمخشري عن هذا المعنى وهو اجتماع الغمين لهم بقوله : غماً بعد غم ، وغماً متصلاً بغم من الاغتمام بما أرجف به من قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والجرح ، والقتل ، وظفر المشركين ، وفوت الغنيمة ، والنصر انتهى كلامه .

وقوله : غماً بعد غم تفسير للمعنى ، لا تفسير إعراب .

لأن الباء لا تكون بمعنى بعد .

وإن كان بعضهم قد ذهب إلى ذلك .

ولذلك قال بعضهم : إن المعنى غماً على غم ، فينبغي أن يحمل على تفسير المعنى ، وإن كان بعضهم قد ذهب إلى ذلك .

وإن كانت الباء للسبب وهي التي عبر بعضهم عنها أنها بمعنى الجزاء ، فيكون الغم الأوّل للصحابة .

والثاني قال الحسن وغيره : متعلقه المشركون يوم بدر .

والمعنى : أثابكم غماً بالغم الذي أوقع على أيديكم بالكفار يوم بدر .

قال ابن عطية : فالباء على هذا باء معادلة ، كما قال أبو سفيان يوم بدر : والحرب سجال .

وقال قوم منهم الزجاج ، وتبعه الزمخشري : متعلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : جازاكم غماً بسبب الغم الذي أدخلتموه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر المؤمنين بفشلكم وتنازعكم وعصيانكم .

قال الزمخشري : ويجوز أن يكون الضمير في : فأثابكم للرسول ، أي فآساكم في الاغتمام ، وكما غمكم ما نزل به من كسر الرباعية والشجة وغيرهما غمه ما نزل بكم ، فأثابكم عما اغتمه لأجلكم بسبب غم اغتممتموه لأجله ، ولم يثربكم على عصيانكم ومخالفتكم ، وإنما فعل ذلك ليسليكم وينفس عنكم ، كيلا تحزنوا على ما فاتكم من نصر الله ، ولا على ما أصابكم من غلبة العدوّ انتهى كلامه .

وهو خلاف الظاهر .

لأن المسند إليه الأفعال السابقة هو الله تعالى ، وذلك في قوله : { ولقد صدقكم الله وعده } وقوله : { ثم صرفكم عنهم ليبتليكم } { ولقد عفا عنكم } والله فيكون قوله : والله فيكون قوله : فأثابكم مسنداً إلى الله تعالى .

وذكر الرسول إنما جاء في جملة حالية نعى عليهم فرارهم مع كون من اهتدوا على يده يدعوهم ، فلم يجيء مقصوداً لأن يحدث عنه ، إنما الجملة التي ذكر فيها في تقدير المفرد إذ هي حال .

وقال الزمخشري : فأثابكم عطف على صرفكم انتهى .

وفيه بعدٌ لطول الفصل بين المتعاطفين .

والذي يظهر أنه معطوف على تصعدون ولا تلوون ، لأنه مضارع في معنى الماضي ، لأن إذ تصرف المضارع إلى الماضي ، إذ هي ظرف لما مضى .

والمعنى : إذ صعدتم وما لويتم على أحد فأثابكم .

{ لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم } اللام لام كي ، وتتعلق بقوله : فأثابكم .

فقيل : لا زائدة لأنه لا يترتب على الاغتمام انتفاء الحزن .

فالمعنى : على أنه غمهم ليحزنهم عقوبة لهم على تركهم موافقتهم قاله : أبو البقاء وغيره .

وتكون كهي في قوله : { لئلا يعلم أهل الكتاب } إذ تقديره : لأن يعلم .

ويكون أعلمهم بذلك تبكيتاً لهم ، وزجراً أنْ يعودوا لمثله .

والجمهور على أن لا ثابتة على معناها من النفي .

واختلفوا في تعليل الإثابة بانتفاء الحزن على ما ذكر .

فقال الزمخشري : لكيلا تحزنوا لتتمرّنوا على تجرع الغموم ، وتضروا باحتمال الشدائد ، فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ، ولا على مصيب من المضار انتهى .

فجعل العلة في الحقيقة ثبوتية ، وهي التمرن على تجرع الغموم والاعتياد لاحتمال الشدائد ، ورتب على ذلك انتفاء الحزن ، وجعل ظرف الحزن هو مستقبل لا تعلق به بقصة أحد ، بل لينتفي الحزن عنكم بعد هذه القصة .

وقال ابن عطية : المعنى لتعلموا أن ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم ، فأنتم أذيتم أنفسكم .

وعادة البشر أنَّ جاني الذنب يصبر للعقوبة ، وأكثر قلق المعاقب وحزنه إنما وقع هو مع ظنه البراءة بنفسه انتهى .

وهذا تفسير مخالف لتفسير الزمخشري .

ومن المفسرين من ذهب إلى أن قوله : لكيلا تحزنوا متعلق بقوله : ولقد عفا عنكم ، ويكون الله أعلمهم بذلك تسلية لمصابهم وعوضاً لهم عن ما أصابهم من الغم ، لأن عفوه يذهب كل غم .

وفيه بعد لطول الفصل ، ولأن ظاهره تعلقه بمجاور ، وهو فأثابكم .

قال ابن عباس : والذي فاتهم من الغنيمة ، والذي أصابهم من الفشل والهزيمة ، ومما تحتمله الآية : أنه لما ذكر اصعادهم وفرارهم مجدّين في الهرب في حال ادعاء الرسول صلى الله عليه وسلم إليه بالرجوع عن الهرب والانحياز إلى فئته ، كان الجد في الهرب سبباً لاتصال الغموم بهم ، وشغلهم بأنفسهم طلباً للنجاة من الموت ، فصار ذلك أي : شغلهم بأنفسهم واغتمامهم المتصل بهم من جهة خوف القتل سبباً لانتفاء الحزن على فائت من الغنيمة ، ومصاب من الجراح والقتل لإخوانهم ، كأنه قيل : صاروا في حالة من اغتمامهم واهتمامم بنجاة أنفسهم بحيث لا يخطر لهم ببال حزن على شيء فايت ولا مصاب وإن جل ، فقد شغلهم بأنفسهم لينتفي الحزن منهم .

{ والله خبير بما تعملون } هذه الجملة تقتضي تهديداً ، وخص العمل هنا وإن كان تعالى خبيراً بجميع الأحوال من الأعمال والأقوال والنيات ، تنبيهاً على أعمالهم من تولية الأدبار والمبالغة في الفرار ، وهي أعمال تخشى عاقبتها وعقابها .

/خ159