الإصعاد : ابتداء السفر ، والمخرج .
والصعود : مصدر صعد رقى من سفل إلى علو ، قاله : الفراء ، وأبو حاتم والزجاج .
وقال القتبي : أصعد أبعد في الذهاب ، فكأنه إبعاد كإبعاد الارتفاع .
ألا أيهذا السائلي أين صعدت *** فإن لها في أرض يثرب موعدا
قد كنت تبكيني على الاصعاد *** فاليوم سرحت وصاح الحادي
وقال المفضل : صعد ، وأصعد ، وصعد بمعنى واحد .
فات الشيء أعجز إدراكه ، وهو متعد ، ومصدره : فوت ، وهو قياس فعل المتعدي .
{ إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم } هذه الجمل التي تضمنت التوبيخ والعتب الشديد .
إذ هو تذكار بفرار من فرّ وبالغ في الهرب ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إليه .
فمن شدّة الفرار واشتغاله بنفسه وهو يروم نجاتها لم يصغ إلى دعاء الرسول ، وهذا من أعظم العتب حيث فرّ ، والحالة أن رسول الله يدعوه إليه .
وقرأ الجمهور : تصعدون مضارع أصعد ، والهمزة في أصعد للدخول .
أي : دخلتم في الصعيد ، ذهبتم فيه .
كما تقول : أصبح زيد ، أي دخل في الصباح .
فالمعنى : إذ تذهبون في الأرض .
وتبين ذلك قراءة أبي : إذ تصعدون في الوادي .
وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن ومجاهد وقتادة واليزيدي : تصعدون من صعد في الجبل إذا ارتقى إليه .
وقرأ أبو حيرة : تصعدون من تصعد في السلم ، وأصله : تتصعدون ، فحذفت إحدى التاءين على الخلاف في ذلك ، أي تاء المضارعة ؟ أم تاء تفعل ؟ والجمع بينهما أنهم أولاً أصعدوا في الوادي لما أرهقهم العدو ، وصعدوا في الجبل .
وقرأ ابن محيصن وابن كثير في رواية شبل : يصعدون ولا يلوون بالياء على الخروج من الخطاب إلى الغائب .
أو عصيتم ، أو تنازعتم ، أو فشلتم ، أو عفا عنكم ، أو ليبتليكم ، أو صرفكم ، وهذان عن الزمخشري ، وما قبله عن ابن عطية .
والثلاثة قبله بعيدة لطول الفصل .
والأول جيد ، لأنَّ ما قبل إذ جمل مستقلة يحسن السكوت عليها ، فليس لها تعلق إعرابي بما بعدها ، إنما تتعلق به من حيث أنَّ السياق كله في قصة واحدة .
وتعلقه بصرفكم جيد من حيث المعنى ، وبعفا عنكم جيد من حيث القرب .
ومعنى ولا تلوون على أحد : أي لا ترجعون لأحد من شدة الفرار .
وهذا أشد في المبالغة من قوله :
أخو الجهد لا يلوي على من تعذرا لأنه في الأية نفي عام ، وفي هذا نفي خاص ، وهو على من تعذرا ، وقال دريد ابن الصمة : وهل يرد المنهزم شيء ؟ وقرئ تلو من بإبدال الواو همزة وذلك لكراهة اجتماع الواوين وقياس هذه الواو المضمومة ، أن لا تبدل همزة لأن الضمة فيها عارضة ، ومتى وقعت الواو غير ، وهي مضمومة فلا يجوز الإبدال منها همزة إلا بشرطين أحدهما : أن تكون الضمة لازمة .
الثاني : أن لا تكون يمكن تخفيفها بالإسكان .
فهنا يجوز فؤوج وقؤول وغؤور بالهمز .
ومثل إمكان تخفيفها بالإسكان : هذا سور ، ونور ، جمع سوار ونوار .
ونبه بعض أصحابنا على شرط آخر وهو لا بد منه ، وهو : أن لا يكون مدغماً فيها نحو : تعود ، فلا يجوز فيه تعود بإبدال الواو المضمومة همزة .
وزاد بعض النحويين شرطاً آخر وهو : أن لا تكون الواو زائدة نحو : الترهوك وهذا الشرط ليس مجمعاً عليه .
وقرأ الحسن : تلون ، وخرجوها على قراءة من همز الواو ، ونقل الحركة إلى اللام ، وحذف الهمزة .
قال ابن عطية : وحذفت إحدى الواوين الساكنين ، وكان قد قال في هذه القراءة : هي قراءة متركبة على قراءة من همز الواو المضمومة ، ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام انتهى .
وهذا كلام عجيب تخيل هذا الرجل أنه قد نقلت الحركة إلى اللام فاجتمع واوان ساكنان ، إحداهما : الواو التي هي عين الكلمة ، والأخرى : واو الضمير .
فحذفت إحدى الواوين لأنهما ساكنتان ، وهذا قول من لم يمعن في صناعة النحو .
لأنها إذا كانت متركبة على لغة من همز الواو ثم نقل حركتها إلى اللام ، فإن الهمزة إذ ذاك تحذف ، ولا يلتقي واوان ساكنان .
ولو قال : استثقلت الضمة على الواو ، لأن الضمة كأنها واو ، فصار ذلك كأنه جمع ثلاث واواوت ، فتنقلب الضمة إلى اللام ، فالتقى ساكنان ، فحذفت الأولى منهما ، ولم يبهم في قوله إحدى الواوين لأمكن ذلك في توجيه هذه القراءة الشاذة ، أما أنْ يبنى ذلك على أنه على لغة من همز على زعمه ، فلا يتصور .
ويحتمل أن يكون مضارع ولي وعدي بعلي ، على تضمين معنى العطف .
وقرأ الأعمش وأبو بكر في رواية عن عاصم : تلوون من ألوى ، وهي لغة في لوى .
وقيل : المراد النبي صلى الله عليه وسلم ، وعبر بأحد عنه تعظيماً له وصوناً لاسمه أن يذكر عند ذهابهم عنه ، قاله : ابن عباس والكلبي .
وقرأ حميد بن قيس على أُحُد بضم الهمزة والحاء ، وهو الجبل .
قال ابن عطية : والقراءة الشهيرة أقوى ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على الجبل إلا بعد ما فرّ الناس عنه ، وهذه الحال من إصعادهم إنما كانت وهو يدعوهم انتهى .
وقال غيره : الخطاب فيه لمن أمعن في الهرب ولم يصعد الجبل على من صعد .
ويجوز أن يكون أراد بقوله : ولا تلوون على أحد ، أي من كان على جبل أحد ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه الذين صعدوا .
وتلوون هو من ليّ العنق ، لأن مَن عرج على الشيء يلوي عنقه ، أو عنان دابته .
والألف واللام في الرسول للعهد .
ودعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، روي أنه كان يقول : « إليّ عباد الله » والناس يفرون عنه .
وروي : « أي عباد الله ارجعوا » قاله : ابن عباس : وفي رواية : « ارجعوا إليّ فإني رسول الله من يكر له الجنة » وهو قول : السدي ، والربيع .
قال القرطبي : وكان دعاؤه تغيير للمنكر ، ومحال أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم المنكر وهو الانهزام ثم لا ينهى عنه .
ومعنى في أخراكم : أي في ساقتكم وجماعتكم الأخرى ، وهي المتأخرة .
يقال : جئت في آخر الناس وأخراهم ، كما تقول : في أولهم وأولاهم بتأويل مقدّمتهم وجماعتهم الأولى .
وفي قوله : في أخراكم دلالة عظيمة على شجاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن الوقوف على أعقاب الشجعان وهم فرار والثبات فيه إنما هو للأبطال الأنجاد ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس .
قال سلمة : كنا إذا احمرّ البأس اتقيناه برسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ فأثابكم غماً بغم } الفاعل بأثابكم هو الله تعالى .
وقال الفراء : الإثابة هنا بمعنى المغالبة انتهى .
وسمي الغم ثواباً على معنى أنه قائم في هذه النازلة مقام الثواب الذي كان يحصل لولا الفرار .
تحية بينهم ضرب وجيع *** وقوله :
أخاف زياد أن يكون عطاؤه *** أداهم سوداً أو محدرجة سمرا
جعل القيود والسياط عطاء ، ومحدرجة بمعنى مدحرجة .
والباء في بغم : إمّا أن تكون للمصاحبة ، أو للسبب .
فإن كانت للمصاحبة وهي التي عبر بعضهم عنها بمعنى : مع .
والمعنى : غماً مصاحباً لغم ، فيكون الغمان إذ ذاك لهم .
فالأول : هو ما أصابهم من الهزيمة والقتل .
والثاني : إشراف خالد بخيل المشركين عليهم ، قاله : ابن عباس ، ومقاتل .
وقيل : الغم الأوّل سببه فرارهم الأوّل ، والثاني سببه فرارهم حين سمعوا أن محمداً قد قتل قاله : مجاهد .
وقيل : الأوّل ما فاتهم من الغنيمة وأصابهم من الجراح والقتل .
والثاني حين سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل ، قاله : قتادة والربيع .
وقيل : عكس هذا الترتيب ، وعزاه ابن عطية إلى قتادة ومجاهد .
وقيل : الأول ما فاتهم من الغنيمة والفتح .
والثاني : إشراف أبي سفيان عليهم ، ذكره الثعلبي .
وقيل : الأول هو قتلهم وجراحهم وكل ما جرى في ذلك المأزق .
والثاني : إشراف أبي سفيان على النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه ، قاله : السدي ومجاهد أيضاً وغيرهما .
وعبر الزمخشري عن هذا المعنى وهو اجتماع الغمين لهم بقوله : غماً بعد غم ، وغماً متصلاً بغم من الاغتمام بما أرجف به من قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والجرح ، والقتل ، وظفر المشركين ، وفوت الغنيمة ، والنصر انتهى كلامه .
وقوله : غماً بعد غم تفسير للمعنى ، لا تفسير إعراب .
وإن كان بعضهم قد ذهب إلى ذلك .
ولذلك قال بعضهم : إن المعنى غماً على غم ، فينبغي أن يحمل على تفسير المعنى ، وإن كان بعضهم قد ذهب إلى ذلك .
وإن كانت الباء للسبب وهي التي عبر بعضهم عنها أنها بمعنى الجزاء ، فيكون الغم الأوّل للصحابة .
والثاني قال الحسن وغيره : متعلقه المشركون يوم بدر .
والمعنى : أثابكم غماً بالغم الذي أوقع على أيديكم بالكفار يوم بدر .
قال ابن عطية : فالباء على هذا باء معادلة ، كما قال أبو سفيان يوم بدر : والحرب سجال .
وقال قوم منهم الزجاج ، وتبعه الزمخشري : متعلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : جازاكم غماً بسبب الغم الذي أدخلتموه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر المؤمنين بفشلكم وتنازعكم وعصيانكم .
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون الضمير في : فأثابكم للرسول ، أي فآساكم في الاغتمام ، وكما غمكم ما نزل به من كسر الرباعية والشجة وغيرهما غمه ما نزل بكم ، فأثابكم عما اغتمه لأجلكم بسبب غم اغتممتموه لأجله ، ولم يثربكم على عصيانكم ومخالفتكم ، وإنما فعل ذلك ليسليكم وينفس عنكم ، كيلا تحزنوا على ما فاتكم من نصر الله ، ولا على ما أصابكم من غلبة العدوّ انتهى كلامه .
لأن المسند إليه الأفعال السابقة هو الله تعالى ، وذلك في قوله : { ولقد صدقكم الله وعده } وقوله : { ثم صرفكم عنهم ليبتليكم } { ولقد عفا عنكم } والله فيكون قوله : والله فيكون قوله : فأثابكم مسنداً إلى الله تعالى .
وذكر الرسول إنما جاء في جملة حالية نعى عليهم فرارهم مع كون من اهتدوا على يده يدعوهم ، فلم يجيء مقصوداً لأن يحدث عنه ، إنما الجملة التي ذكر فيها في تقدير المفرد إذ هي حال .
وقال الزمخشري : فأثابكم عطف على صرفكم انتهى .
وفيه بعدٌ لطول الفصل بين المتعاطفين .
والذي يظهر أنه معطوف على تصعدون ولا تلوون ، لأنه مضارع في معنى الماضي ، لأن إذ تصرف المضارع إلى الماضي ، إذ هي ظرف لما مضى .
والمعنى : إذ صعدتم وما لويتم على أحد فأثابكم .
{ لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم } اللام لام كي ، وتتعلق بقوله : فأثابكم .
فقيل : لا زائدة لأنه لا يترتب على الاغتمام انتفاء الحزن .
فالمعنى : على أنه غمهم ليحزنهم عقوبة لهم على تركهم موافقتهم قاله : أبو البقاء وغيره .
وتكون كهي في قوله : { لئلا يعلم أهل الكتاب } إذ تقديره : لأن يعلم .
ويكون أعلمهم بذلك تبكيتاً لهم ، وزجراً أنْ يعودوا لمثله .
والجمهور على أن لا ثابتة على معناها من النفي .
واختلفوا في تعليل الإثابة بانتفاء الحزن على ما ذكر .
فقال الزمخشري : لكيلا تحزنوا لتتمرّنوا على تجرع الغموم ، وتضروا باحتمال الشدائد ، فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ، ولا على مصيب من المضار انتهى .
فجعل العلة في الحقيقة ثبوتية ، وهي التمرن على تجرع الغموم والاعتياد لاحتمال الشدائد ، ورتب على ذلك انتفاء الحزن ، وجعل ظرف الحزن هو مستقبل لا تعلق به بقصة أحد ، بل لينتفي الحزن عنكم بعد هذه القصة .
وقال ابن عطية : المعنى لتعلموا أن ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم ، فأنتم أذيتم أنفسكم .
وعادة البشر أنَّ جاني الذنب يصبر للعقوبة ، وأكثر قلق المعاقب وحزنه إنما وقع هو مع ظنه البراءة بنفسه انتهى .
وهذا تفسير مخالف لتفسير الزمخشري .
ومن المفسرين من ذهب إلى أن قوله : لكيلا تحزنوا متعلق بقوله : ولقد عفا عنكم ، ويكون الله أعلمهم بذلك تسلية لمصابهم وعوضاً لهم عن ما أصابهم من الغم ، لأن عفوه يذهب كل غم .
وفيه بعد لطول الفصل ، ولأن ظاهره تعلقه بمجاور ، وهو فأثابكم .
قال ابن عباس : والذي فاتهم من الغنيمة ، والذي أصابهم من الفشل والهزيمة ، ومما تحتمله الآية : أنه لما ذكر اصعادهم وفرارهم مجدّين في الهرب في حال ادعاء الرسول صلى الله عليه وسلم إليه بالرجوع عن الهرب والانحياز إلى فئته ، كان الجد في الهرب سبباً لاتصال الغموم بهم ، وشغلهم بأنفسهم طلباً للنجاة من الموت ، فصار ذلك أي : شغلهم بأنفسهم واغتمامهم المتصل بهم من جهة خوف القتل سبباً لانتفاء الحزن على فائت من الغنيمة ، ومصاب من الجراح والقتل لإخوانهم ، كأنه قيل : صاروا في حالة من اغتمامهم واهتمامم بنجاة أنفسهم بحيث لا يخطر لهم ببال حزن على شيء فايت ولا مصاب وإن جل ، فقد شغلهم بأنفسهم لينتفي الحزن منهم .
{ والله خبير بما تعملون } هذه الجملة تقتضي تهديداً ، وخص العمل هنا وإن كان تعالى خبيراً بجميع الأحوال من الأعمال والأقوال والنيات ، تنبيهاً على أعمالهم من تولية الأدبار والمبالغة في الفرار ، وهي أعمال تخشى عاقبتها وعقابها .