الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{۞إِذۡ تُصۡعِدُونَ وَلَا تَلۡوُۥنَ عَلَىٰٓ أَحَدٖ وَٱلرَّسُولُ يَدۡعُوكُمۡ فِيٓ أُخۡرَىٰكُمۡ فَأَثَٰبَكُمۡ غَمَّۢا بِغَمّٖ لِّكَيۡلَا تَحۡزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا مَآ أَصَٰبَكُمۡۗ وَٱللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ} (153)

{ إِذْ تُصْعِدُونَ } يعني ولقد عفونا عنكم إذ تصعدون هاربين .

قرأه العامة : ( تُصعِدون ) بضم التاء وكسر العين .

وقرأ أبو رجاء العطاردي وأبو عبد الرحمن والحسن وقتادة بفتح التاء .

وقرأ ابن محيصن وشبل : إذ يصعدون ويلوون بالياء ، يعني المؤمنين . ثم رجع إلى الخطاب فقال { وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ } على البلوى .

قال أبو حاتم : يقال أصعدت إذا مضيت حيال وجهك ، وصعدت إذا ارتقيت في جبل أو غيره ، والاصعاد السير في مستوى الأرض وبطون الأودية والشعاب ، والصعود الإرتفاع على الجبال والسطوح والسلالم والدّرج ، قال المبرد : أصعد إذا أبعد في الذهاب .

قال الأعشى :

إلاّ أيهذا السائلي أين أصعدت *** فإنّ لها من بطن يثرب موعدا

وقال الفراء : الإصعاد الابتداء في كل سفر والانحدار والرجوع منه يقال : أصعدنا من بغداد إلى مكة وإلى خراسان وأشباه ذلك ، إذا خرجنا إليها وأخذنا في السفر وانحدرنا إذا رجعنا .

وأنشد أبو عبيدة :

لقد كنت تبكين على الاصعاد *** فاليوم سرحت وصاح الحادي

ودليل قراءة العامة قول النبي صلى الله عليه وسلم للمنهزمين : " لقد ذهبتم فيها عريضة " .

وقرأ أُبي بن كعب : إذ تصعدون في الوادي ، ودليل فتح التاء والعين ما روى أنهم صعدوا في الجبل هاربين وكلتا القراءتين صواب ، فقد كان يومئذ من المنهزمين مصعد وصاعد . وقال المفضل : صعد وأصعد وصعّد بمعنى واحد .

{ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ } يعني ولا يعرجون ولا يقيمون على أحد منكم ، لا يلتفت بعض إلى بعض هرباً .

وقرأ الحسن : ولا يلوُن بواو واحدة اتباعاً للخط ، كقولك : استحببت واستحبت على أحد .

قال الكلبي : يعني على محمد صلى الله عليه وسلم { وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ } أي في آخركم ومن ورائكم إليَّ عباد الله فأنا رسول الله من بكّر فله الجنة ، يقال : جاء فلان في آخر الناس وآخرة الناس واقرى الناس وأُخراة الناس وأُخريات الناس ، فجاز لكم جعل الأنابة بمعنى العقاب وأصلها في الحسنات كقوله :

{ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الانشقاق : 24 ] .

قال الشاعر :

أخاف زياداً أن يكون عطاؤه *** أداهم سودا أو محدرجة سمرا

يعني بالسود : القيود والسياط وكذلك معنى الآية ، جعل مكان الثواب الذي كنتم ترمون غمّاً بغمّ .

قال الحسن : يعني بغم المشركين يوم بدر .

وقال آخرون : الباء بمعنى على ، أي غمّاً على غمَ ، وقيل : غمّاً بغم ، فالغم الأول ما فاتهم من الظفر والغنيمة ، والغم الثاني ما نالهم من القتل والهزيمة ، وقيل : الغم الأول انحراف خالد ابن الوليد عليهم بخيل من المشركين ، والغم الثاني حين أشرف عليهم أبو سفيان ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة ، فلما رأوه وضع رجل سهماً في قوسه فأراد أن يرميه فقال : " أنا رسول الله " ففرحوا حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرح النبي حين رأى في أصحابه من يمتنع ، فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب عنهم الحزن ، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه ، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا ، فأقبل أبو سفيان وأصحابه حتى وقفوا بباب الشعب ، ثم أشرف عليهم ، فلما نظر المسلمون إليهم ، همّهم ذلك وظنّوا أنهم سوف يميلون عليهم فيقتلونهم ، فأنساهم هذا ما نالهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس لهم أن يعلونا ، اللهم إن تُقتل هذه العصابة لا تعبد في الأرض " ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم فنزلوا سريعاً .

{ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ } من الفتح والغنيمة { وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ } ( ما ) في موضع خفض أي : ولا على ما أصابكم من القتل والهزيمة حين أنساكم ذلك هذا الغم ، وهمّكم ما أنتم فيه غماً قد أصابكم قبل .

فقال الفضل : ( لا ) صلة معناه : لكي تحزنوا على ما فاتكم وما أصابكم عقوبة لكم في خلافكم إياه ، وترككم المركز كقوله :

{ لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ } [ الحديد : 29 ] . { وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ *