غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{۞إِذۡ تُصۡعِدُونَ وَلَا تَلۡوُۥنَ عَلَىٰٓ أَحَدٖ وَٱلرَّسُولُ يَدۡعُوكُمۡ فِيٓ أُخۡرَىٰكُمۡ فَأَثَٰبَكُمۡ غَمَّۢا بِغَمّٖ لِّكَيۡلَا تَحۡزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا مَآ أَصَٰبَكُمۡۗ وَٱللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ} (153)

151

قوله سبحانه : { إذ تصعدون } إما مستأنف بإضمار " واذكر " وإما أن يتعلق بما قبله أي عفا عنكم إذ تصعدون ، لأن ما صدر عنهم من فارقة ذلك المكان والأخذ في الوادي كالمنهزمين ذنب اقترفوه . أو المعنى ليبتليكم إذ تصعدون ، أو ثم صرفكم حين إصعادكم ، والإصعاد الذهاب في الأرض والإبعاد فيها . قال أبو معاذ النحوي : كل شيء له أسفل وأعلى كالوادي والنهر والأزقة فيقال فيه أصعد إذا أخذ من أسفله إلى أعلاه ، وأما ما ارتفع كالسلم والحبل فإنه يقال صعد { ولا تلوون على أحد } لا تلتفتون إليه ، وأصله أن المعرّج على الشيء يلوي إليه عنقه أو عنان دابته . { والرسول يدعوكم } كان يقول : إليّ عباد الله ، أنا رسول الله من كَرَّ فله الجنة . فيحتمل أنه كان يدعوهم إلى نفسه حتى يجتمعوا عنده ولا يتفرقوا ، ويحتمل أنه كان يدعوهم إلى محاربة العدو . { في أخراكم } في ساقتكم وجماعتكم الأخرى ، لأن القوم بسبب الهزيمة قد تقدموه صلى الله عليه وسلم وبقي هو في الجماعة المتأخرة . يقال : جئت في آخر الناس وأخراهم كما تقول في أوّلهم وأولاهم بتأويل مقدمتهم وجماعتهم الأولى . { فأثابكم } قال في الكشاف : إنه عطف على صرفكم . وأقول : لا يبعد أن يعطف على { تصعدون } لأنه بمعنى أصعدتم بدليل أن يقال : ثاب إليه أي رجع . والمرأة تسمى ثيباً لأن واطئها عائداً إليها . فأصل الثواب كل ما يعود إلى الفاعل من جزاء فعله خيراً كان أو شراً إلا أن العرف خصه بالخير .

فإن حملنا لفظ الآية على أصل اللغة استقام بلا تأويل ، وإن حملناه على مقتضى العرف كان وارداً على سبيل التهكم كقولهم : عتابك السيف وتحيتك الضرب . أي جعل مكان ما يرجون من الثواب الغم وهو في الأصل التغطية ومنه الغمام ، فكأن الغم يستر وجه اللذة والسرور . والباء في { بغم } يحتمل أن تكون بمعنى المعاوضة نحو : بعت هذا بذاك ، ويحتمل أن تكون بمعنى المصاحبة . أما الاحتمال الأول ففيه وجوه : قال الزجاج : إنكم لما أذقتم الرسول غماً بسبب عصيان أمره ، أذاقكم الله غم الانهزام . وقيل : المجازاة والمعنى جازاكم من ذلك الغم بهذا الغم . وقال الحسن : يريد غم يوم أحد للمسلمين بغم يوم بدر للمشركين . وفي الكشاف : يجوز أن يكون الضمير في { فأثابكم } للرسول أي فأساكم في الاغتنام . فكما غمكم ما نزل به من كسر رباعيته وشج وجهه وقتل عمه وغيره ، غمه ما نزل بكم من قتل الأعزة ومن الانضمام في سلك العصاة لطلب الغنيمة ثم الحرمان عنها . وأما الاحتمال الثاني ففيه وجهان : أحدهما أن يكون هناك غمان : الأوّل ما أصابهم عند الفشل والتنازع ، والثاني ما حصل عند الهزيمة . أو الأول غم فوت الغنائم ، والثاني أن أبا سفيان وخالد بن الوليد اطلعا على المسلمين فحملوا عليهم وقتلوا منهم جمعاً عظيماً . أو الأول هذا والثاني خوفهم من رجوع المشركين واستئصال المسلمين . أو الأول ما أصابهم في أنفسهم وأموالهم ، والثاني غم الإرجاف بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم . أو الأول خوف عقاب المعصية ، والثاني غم التوبة فإنها لا تتم إلا بالعود إلى المحاربة ، وإذا أمر بالمعاودة يعد القلة والذلة فإن فعل غلب على ظنه القتل ، وإن لم يفعل خاف الكفر وعقوبة الآخرة . وثانيهما أن يراد بغم مع مواصلة الغموم وتتابعها وكثرتها ، فيشمل جميع الغموم المعدودة وما ينخرط في سلكها . ثم اللام في قوله : { لكيلا تحزنوا } يحتمل أن يتعلق بقوله : { ولقد عفا عنكم } لأن في عفوه تعالى ما يزيل كل هم وحزن ، وإما أن يتعلق بقوله : { فأثابكم } فيكون المعنى على قول الزجاج : إنه عاقبهم بغم الهزيمة ليتمرنوا على تجرع الغموم واحتمال الشدائد فلا يحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ولا على مصيب من المضار ، وليصير ذلك زاجراً لهم عن الإقدام على المعصية والاشتغال بما يخالف أمر الله . وعلى قول الحسن : جعلكم مغمومين يوم أحد في مقابلة ما جعلهم مغمومين يوم بدر لكيلا تحزنوا بإدبار الدنيا ومصائبها ، ولا تفرحوا بإقبالها وعوائدها . قالت الأشاعرة : معنى إثابة الغم من الله تعالى خلق الغم فيهم ولا يقبح منه شيء . وأما المعتزلة فإنهم يقولون : الغم فعل العبد لكنه أسند إليه تعالى لأنه طبع العباد طبعاً يغتمون بالمصائب وهم لا يحمدون على ذلك ولا يذمون .

وإن سلم أنه بخلق الله فلرعاية المصالح ، وليس الغرض تسليط الكفار على المسلمين فإن ذلك كفر ومعصية ، ولكن الغرض أن لا يبقى في قلوب المؤمنين اشتغال بغير الله ، ولا يحزنوا بالإدبار ولا يفرحوا بالإقبال . وإن جعل الإثابة مسنداً إلى الرسول فإنما فعل ذلك ليسليهم وينفس عنهم لئلا يحزنوا على ما فاتهم من نصر الله ولا على ما أصابهم من غلبة العدوّ . وإن جعلت الباء بمعنى " مع " فالمعنى كما في قول الزجاج : أو المراد أنكم قلتم لو بقينا في هذا المكان وامتثلنا وقعنا في غم فوت الغنيمة ، فاعلموا أنكم لما خالفتم أمر الرسول وطلبتم الغنيمة وقعتم في غموم أخر كل واحد منها أعظم من ذلك ، فيصير هذا مانعاً لهم من أن يحزنوا على فوات الغنيمة في وقعة أخرى . ثم كما زجرهم على تلك المعصية بزاجر دنيوي زجرهم بزاجر أخروي فقال : { والله خبير بما تعملون } عالم بجميع أعمالكم وقصودكم ودواعيكم فيجازيكم بحسب ذلك .

/خ160