قوله سبحانه : { إذ تصعدون } إما مستأنف بإضمار " واذكر " وإما أن يتعلق بما قبله أي عفا عنكم إذ تصعدون ، لأن ما صدر عنهم من فارقة ذلك المكان والأخذ في الوادي كالمنهزمين ذنب اقترفوه . أو المعنى ليبتليكم إذ تصعدون ، أو ثم صرفكم حين إصعادكم ، والإصعاد الذهاب في الأرض والإبعاد فيها . قال أبو معاذ النحوي : كل شيء له أسفل وأعلى كالوادي والنهر والأزقة فيقال فيه أصعد إذا أخذ من أسفله إلى أعلاه ، وأما ما ارتفع كالسلم والحبل فإنه يقال صعد { ولا تلوون على أحد } لا تلتفتون إليه ، وأصله أن المعرّج على الشيء يلوي إليه عنقه أو عنان دابته . { والرسول يدعوكم } كان يقول : إليّ عباد الله ، أنا رسول الله من كَرَّ فله الجنة . فيحتمل أنه كان يدعوهم إلى نفسه حتى يجتمعوا عنده ولا يتفرقوا ، ويحتمل أنه كان يدعوهم إلى محاربة العدو . { في أخراكم } في ساقتكم وجماعتكم الأخرى ، لأن القوم بسبب الهزيمة قد تقدموه صلى الله عليه وسلم وبقي هو في الجماعة المتأخرة . يقال : جئت في آخر الناس وأخراهم كما تقول في أوّلهم وأولاهم بتأويل مقدمتهم وجماعتهم الأولى . { فأثابكم } قال في الكشاف : إنه عطف على صرفكم . وأقول : لا يبعد أن يعطف على { تصعدون } لأنه بمعنى أصعدتم بدليل أن يقال : ثاب إليه أي رجع . والمرأة تسمى ثيباً لأن واطئها عائداً إليها . فأصل الثواب كل ما يعود إلى الفاعل من جزاء فعله خيراً كان أو شراً إلا أن العرف خصه بالخير .
فإن حملنا لفظ الآية على أصل اللغة استقام بلا تأويل ، وإن حملناه على مقتضى العرف كان وارداً على سبيل التهكم كقولهم : عتابك السيف وتحيتك الضرب . أي جعل مكان ما يرجون من الثواب الغم وهو في الأصل التغطية ومنه الغمام ، فكأن الغم يستر وجه اللذة والسرور . والباء في { بغم } يحتمل أن تكون بمعنى المعاوضة نحو : بعت هذا بذاك ، ويحتمل أن تكون بمعنى المصاحبة . أما الاحتمال الأول ففيه وجوه : قال الزجاج : إنكم لما أذقتم الرسول غماً بسبب عصيان أمره ، أذاقكم الله غم الانهزام . وقيل : المجازاة والمعنى جازاكم من ذلك الغم بهذا الغم . وقال الحسن : يريد غم يوم أحد للمسلمين بغم يوم بدر للمشركين . وفي الكشاف : يجوز أن يكون الضمير في { فأثابكم } للرسول أي فأساكم في الاغتنام . فكما غمكم ما نزل به من كسر رباعيته وشج وجهه وقتل عمه وغيره ، غمه ما نزل بكم من قتل الأعزة ومن الانضمام في سلك العصاة لطلب الغنيمة ثم الحرمان عنها . وأما الاحتمال الثاني ففيه وجهان : أحدهما أن يكون هناك غمان : الأوّل ما أصابهم عند الفشل والتنازع ، والثاني ما حصل عند الهزيمة . أو الأول غم فوت الغنائم ، والثاني أن أبا سفيان وخالد بن الوليد اطلعا على المسلمين فحملوا عليهم وقتلوا منهم جمعاً عظيماً . أو الأول هذا والثاني خوفهم من رجوع المشركين واستئصال المسلمين . أو الأول ما أصابهم في أنفسهم وأموالهم ، والثاني غم الإرجاف بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم . أو الأول خوف عقاب المعصية ، والثاني غم التوبة فإنها لا تتم إلا بالعود إلى المحاربة ، وإذا أمر بالمعاودة يعد القلة والذلة فإن فعل غلب على ظنه القتل ، وإن لم يفعل خاف الكفر وعقوبة الآخرة . وثانيهما أن يراد بغم مع مواصلة الغموم وتتابعها وكثرتها ، فيشمل جميع الغموم المعدودة وما ينخرط في سلكها . ثم اللام في قوله : { لكيلا تحزنوا } يحتمل أن يتعلق بقوله : { ولقد عفا عنكم } لأن في عفوه تعالى ما يزيل كل هم وحزن ، وإما أن يتعلق بقوله : { فأثابكم } فيكون المعنى على قول الزجاج : إنه عاقبهم بغم الهزيمة ليتمرنوا على تجرع الغموم واحتمال الشدائد فلا يحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ولا على مصيب من المضار ، وليصير ذلك زاجراً لهم عن الإقدام على المعصية والاشتغال بما يخالف أمر الله . وعلى قول الحسن : جعلكم مغمومين يوم أحد في مقابلة ما جعلهم مغمومين يوم بدر لكيلا تحزنوا بإدبار الدنيا ومصائبها ، ولا تفرحوا بإقبالها وعوائدها . قالت الأشاعرة : معنى إثابة الغم من الله تعالى خلق الغم فيهم ولا يقبح منه شيء . وأما المعتزلة فإنهم يقولون : الغم فعل العبد لكنه أسند إليه تعالى لأنه طبع العباد طبعاً يغتمون بالمصائب وهم لا يحمدون على ذلك ولا يذمون .
وإن سلم أنه بخلق الله فلرعاية المصالح ، وليس الغرض تسليط الكفار على المسلمين فإن ذلك كفر ومعصية ، ولكن الغرض أن لا يبقى في قلوب المؤمنين اشتغال بغير الله ، ولا يحزنوا بالإدبار ولا يفرحوا بالإقبال . وإن جعل الإثابة مسنداً إلى الرسول فإنما فعل ذلك ليسليهم وينفس عنهم لئلا يحزنوا على ما فاتهم من نصر الله ولا على ما أصابهم من غلبة العدوّ . وإن جعلت الباء بمعنى " مع " فالمعنى كما في قول الزجاج : أو المراد أنكم قلتم لو بقينا في هذا المكان وامتثلنا وقعنا في غم فوت الغنيمة ، فاعلموا أنكم لما خالفتم أمر الرسول وطلبتم الغنيمة وقعتم في غموم أخر كل واحد منها أعظم من ذلك ، فيصير هذا مانعاً لهم من أن يحزنوا على فوات الغنيمة في وقعة أخرى . ثم كما زجرهم على تلك المعصية بزاجر دنيوي زجرهم بزاجر أخروي فقال : { والله خبير بما تعملون } عالم بجميع أعمالكم وقصودكم ودواعيكم فيجازيكم بحسب ذلك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.