العامل في " إذْ " قيل : مُضْمَر ، أي : اذكروا .
وقال الزمخشريُّ : " صَرَفَكُمْ " أوْ " لِيَبْتَلِيَكُمْ " .
وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون ظرفاً لِ " عَصَيْتُمْ " أوْ " تَنَازَعْتُمْ " أو فَشِلْتُمْ .
وقيل : هو ظرف لِ " عَفَا عَنْكُمْ " أي : عفا عنكم إذْ تُصْعِدُون هاربين .
وكل هذه الوجوهِ سائغةٌ ، وكونه ظرفاً لِ " صَرَفَكُمْ " جيدٌ من جهةِ المعنى ، ولِ " عَفَا " جيدٌ من جهة القُرْبِ ، وعلى بعض هذه الأقوالِ تكون المسألةُ من باب التنازعِ ، ويكون على إعمال الأخيرِ منها ، لعدم الإضمارِ في الأول ، ويكون التنازعُ في أكثرِ من عاملينِ .
والجمهور على { تُصْعِدُونَ } - بضم التاء وكسر العين - من : أصْعَدَ في الأرض ، إذا ذهب فيها . والهمزةُ فيه للدخول ، نحو أصبح زيدٌ ، أي : دخل في الصباح ، فالمعنى : إذ تدخلون في الصعود ، ويُبيِّن ذلك قراءة أبيٍّ{[6077]} " تصعدون في الوادي " .
وقرأ الحسنُ ، والسُّلمي ، وقتادةُ : " تَصْعَدُونَ " بفتح التاء والعين{[6078]} - من : صعد في الجبل ، أي : رقي ، والجمع بين القراءتين أنهم - أولاً - أصعدوا في الوادي ، ثم لما هزمهم العدو - صعدوا في الجبل ، وهذا على رَأى مَنْ يُفَرِّق بين صعد وأصْعد ، وقرأ أبو حَيْوَةَ : " تَصَعَّدُون " بالتشديد{[6079]} - وأصله : تَتَصَعَّدُونَ ، حذفت إحدى التاءين ، إما تاء المضارعة ، أو تاء " تَفَعَّل " والجمع بين قراءتِهِ وقراءة غيره كما تقدم .
والجمهورُ { تُصْعِدُونَ } بتاء الخطاب ، وابن مُحَيْصن - ويُرْوَى عن ابن كثيرٍ - بياء الغيبة{[6080]} ، على الالتفاتِ ، وهو حسنٌ .
ويجوز أن يعودَ الضمير على المؤمنين ، أي : { وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ تُصْعِدُونَ } فالعاملُ في " إذْ " " فَضْلٍ " ويقال : أصْعَدَ : أبعد في الذهاب ، قال القُتَبِيُّ أصعد : إذا أبْعَد في الذهاب ، وأمعن فيه ، فكأن الإصعادَ إبعادٌ في الأرض كإبعاد الارتفاعِ .
ألاَ أيُّهَذَا السَّائِلِي ، أيْنَ أصْعَدَتْ ؟ *** فَإنَّ لَهَا مِنْ بَطْنِ يَثْرِبَ مِوْعِدا{[6081]}
قَدْ كُنْتِ تَبْكِينَ عَلَى الإصْعَادِ *** فَالْيَوْمَ سُرِّحْتِ ، وَصَاحَ الْحَادِي{[6082]}
وقال الفرَّاءُ وأبو حاتم : الإصعاد : في ابتداء السفر والمخارج ، والصعود : مصدر صَعَدَ : رقي من سُفْلٍ إلى عُلُو ، ففرَّق هؤلاء بين صَعَد وأصْعَد .
وقال المفضَّلُ : صعد وأصعد بمعنًى واحدٍ ، والصعيد : وجْهُ الأرضِ .
قال بعضُ المفسّرين : " وكلتا القراءتين صوابٌ ، فقد كان يومئذ من المنهزمين مُصْعِد وصاعد " .
قوله : { وَلاَ تَلْوُونَ } الجمهور على { تَلْوُونَ } - بواوين - وقُرِئَ بإبدال الأولى همزة ؛ كراهية اجتماع واوين ، وليس بقياسٍ ؛ لكون الضمة عارضة ، والواو المضمومة تُبْدَل همزة بشروط تقدمت في " البقرة " .
منها : ألا تكون الضمة عارضة ، كهذه ، وأن لا تكون مزيدة ، نحو ترهوك .
وألا يمكن تخفيفها ، نحو سُور ونور - جمع سوار ونوار - لأنه يمكن تسكينُها فتقول : سور ونور ، فيخف اللفظ بها .
وألا يُدْغم فيها ، نحو تعوَّذ - مصدر تعوذ .
ومعنى { وَلاَ تَلْوُونَ } ولا ترجعون ، يقال : لَوَى به : ذهب به ، ولَوَى عليه : عطف .
. . . *** أخُو الْجَهْدِ لا يَلْوِي عَلَى مَنْ تَعَذَّرَا{[6083]}
وأصله أن المعرِّجَ على الشيءِ يلوي عليه عنقه ، أو عنان دابته ، فإذا مضى - ولم يعرِّج - قيل : لن يلوي ، ثم استعمل في ترك التعريجِ على الشيء وترك الالتفاتِ إليه ، يقال : فلانٌ لا يلوي على كذا أي : لا يلتف إليه ، وأصل { تَلْوُونَ } تلويون ، فَأعِلَّ بحذفِ اللام ، وقد تقدم في قوله : { يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ } [ آل عمران : 78 ] وقرأ الأعمشُ ، وأبو بكر بنُ عَيَّاشٍ - ورويت عن عاصم " تُلوون " بضم التاء - من ألوى وهي لغةٌ في لوى{[6084]} .
وقرأ الحسن " تَلُون " - بواو واحدة{[6085]} - وخرجوها على أنه أبدل الواو همزةً ، ثم نقل حركة الهمزة على اللام ، ثم حذف الهمزة ، على القاعدة ، فلم يبق من الكلمة إلا الفاء - وهي اللام - وقال ابنُ عطيةَ : " وحذفت إحدى الواوين للساكنين ، وكان قد تقدم أن هذه القراءة هي قراءة مركبةٌ على لغة من يهمز الواوَ ، وينقل الحركة " .
وهذا عجيبٌ ، بعد أن يجعلها من باب نقل حركةِ الهمزةِ ، كيف يعودُ ويقول : حذفت إحدى الواوين للساكنين ؟ ويُمكن تخريجُ هذه القراءة على وجهين آخرينِ :
أحدهما : أن يقالَ : استُثقلت الضمةُ على الواو ؛ لأنها أختها ، فكأنه اجتمع ثلاثُ واواتٍ ، فنُقِلت الضمةُ إلى اللامِ ، فالتقى ساكنانِ - الواو التي هي عينُ الكلمةِ ، والواو التي هي ضميرٌ - فحُذفت الأولى ؛ لالتقاء الساكنين ، ولو قال ابن عطيةَ هكذا لكان أولى .
الثاني : أن يكون " تَلُونَ " مضارع وَلِي - من الولاية - وإنما عُدِّي ب " على " لأنه ضُمِّن معنى العطف . وقرأ حُميد{[6086]} بن قيس : " على أُحُدٍ " - بضمتين - يريد الجَبَل ، والمعنى : ولا تلوون على مَنْ فِي جبل أُحُد ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عطية : والقراءة الشهيرة أقْوى ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على الجبل إلا بعدما فَرَّ الناسُ عنه ، وهذه الحالُ - من إصعادهم - إنما كانت وهو يدعوهم .
ومعنى الآيةِ : تعرجون ، ولا يلتفت بعضٌ إلى بعضٍ .
قوله : " والرسول يدعوكم " ، مبتدأ وخبر في محل نصب على الحالِ ، العامل فيها " تلوون " .
أي : والرسول يدعوكم في أخراكم ومن ورائكم ، يقول : " إليَّ عِبَاد الله ؛ فأنا رسولُ اللهِ ، من يكر فله الجنَّةُ " .
ويحتمل أنه كان يدعوكم إلى نفسه ، حتى تجتمعوا عنده ، ولا تتفرقوا . و " أخراهم " آخر الناس كما يقال في أولهم ، ويقال : جاء فلانٌ في أخريات الناس .
قوله : { فَأَثَابَكُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه معطوف على " تصعدون " و " تلوون " ، ولا يضر كونهما مضارعين ؛ لأنهما ماضيان في المعنى ؛ لأن " إذ " المضافة إليهما صيرتهما ماضيين ، فكأن المعنى إذا صعدتم ، وألويتم .
الثاني : أنه معطوفٌ على " صرفكم " .
قال الزمخشريُّ { فَأَثَابَكُمْ } عطف على صرفكم ، وفيه بُعْدٌ ؛ لطول الفصل وفي فاعله قولان :
والثاني : أنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : ويجوز أن يكون الضمير في { فَأَثَابَكُمْ } للرسول أي : فآساكم من الاغتمام ، وكما غمكم ما نزل به من كسر رباعيته غمه ما نزل بكم من فوت الغنيمة .
وقوله : { فَأَثَابَكُمْ } هل هو حقيقة أو مجاز فقيل : مجاز كأنه جعل الغم قائماً مقام الثواب الَّذِي كان يحصل لولا الفرارُ فهو كقوله : [ الطويل ]
أخَافُ زِيَاداً أنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ *** أدَاهِم سُوداً أوْ مُحَدْرَجَة سُمْرَا{[6087]}
تحية بينهم ضرب وجيع{[6088]} *** . . .
جعل القيود والسياط بمنزلة العطاء ، والضرب بمنزلة التحية .
وقال الفرّاءُ : " الإثابة - هاهنا - بمعنى المعاقبة " وهو يرجع إلى المجاز ؛ لأن الإثابة أصلها في الحسنات .
قوله : { بِغَمٍّ } يجوز في الباء أوجهٌ :
أحدها : أن تكون للسببيةِ ، على معنى أن متعلِّق الغَمْ الأول الصحابة ، ومتعلق الغَمِّ الثاني قيل المشركين يوم بدرٍ .
قال الحَسَنُ : يريد غَم يوم أحدٍ للمسلمين بغمّ يوم بدرٍ للمشركينَ ، والمعنى : فأثابكم غماً بالغم الذي أوقعه على أيديكم بالكفار يوم بدرٍ .
وقيل متعلَّق الغَمِّ الرسول ، والمعنى : أذاقكم الله غمًّا بسبب الغَمِّ الذي أدخلتموه على الرسول والمؤمنين بفشلكم ومخالفتكم أمره ، أو فأثابكم الرسول غماً بسبب غم اغتممتموه لأجله ، والمعنى أن الصحابة لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم شُجَّ وَجهه وكُسِرت رَبَاعِيَتُه ، وقُتِل عَمه ، اغتممتموه لأجله ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لما رآهم قَد عَصَوْا رَبَّهُم لأجل الغنيمة - ثم بَقَوْا محرومينَ من الغنيمةِ - وقتِلَ أقاربُهم ، اغتم لأجلهم .
الثاني : أن تكون الباء للمصاحبة ، أي : غماً مصاحِباً لغم ، ويكون الغمَّان للصحابة ، بمعنى غَمًّا مع غم أو غماً على غم ، فالغم الأولُ : الهزيمة والقتل ، والثاني إشراف خالد بخيل الكفار ، أو بإرجافهم : قتل الرسول صلى الله عليه وسلم فعلى الأول تتعلق الباء ب { فَأَثَابَكُمْ } .
قال أبو البقاء وقيل : المعنى بسبب غم ، فيكون مفعولاً به .
وعلى الثاني يتعلقُ بمحذوفٍ ؛ لأنه صفة لِ " غَمّ " أي : غماً مصاحباً لغم ، أو ملتبساً بغَمٍّ ، وأجاز أبو البقاء أن تكون الباءُ بمعنى " بعد " أو بمعنى " بدل " وجعلها - في هذين الوجهين - صفة ل " غماً " . وكونها بمعنى " بعد " و " بدل " بعيدٌ ، وكأنه يريدُ تفسير المعنى ، وكذا قَالَ الزمخشريُّ غماً بَعْدَ غَمٍّ .
واعلم أن الغموم هناك كانت كثيرة :
أولاً : غَمُّهم بما نالهم من العدوِّ في الأنفس والأموال{[6089]} .
ثانياً : غمُّهم بما لَحِق المسلمين من ذلك{[6090]} .
ثالثاً : غمُّهم بما وصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم{[6091]} .
رابعاً : غمُّهم بما وقع منهم من المعصية وخوف عقابها{[6092]} .
خامساً : غمُّهم بسبب التوبة التي صارت واجبةً عليهم ؛ لأنهم إذا تابوا عن تلك المعصية لم تتم توبتهم إلا بتركِ الهزيمةِ والعَوْدِ إلى المحاربة بعد الانهزامِ ، وذلك من أشق الأشياء ؛ لأن الإنسانَ بعد انهزامه - يَضعُف قلبُه ويجبن ، فإذا أمِرَ بالمعاودةِ ، فإن فعل خاف القتلَ ، وإنْ لم يفعلُ خافَ الكُفْرَ وعِقَابَ الآخِرَةِ - وهذا الغَمُّ أعظمها{[6093]} .
سادسها : غمُّهم حين سمعوا أن محمداً قُتِلَ {[6094]} .
سابعها : غمُّهم حين أشرف خالد بن الوليد عليهم بخَيْل المشركين{[6095]} .
ثامنها : غمُّهم حين أشرف أبو سفيان{[6096]} ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق يومئذٍ يدعو الناسَ حتى انتهى إلى أصحاب الصخرةِ ، فلما رَأوْهُ وضع رجلٌ سَهْماً في قوسه ، وأراد أن يَرْمِيَه ، فقال : أنا رسولُ اللهِ ، ففرحوا حين وجدوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى مَنْ يمتنع به ، فأقبلوا على المشركين ، يذكرون الفتح وما فاتهم منه ، ويذكرون أصحابهم الذين قُتِلوا ، فأقبل أبو سفيان وأصحابه ، حتى وقفوا بباب الشِّعْب ، فلما نظر المسلمون إليهم همَّهم ذلك ، وظنوا أنهم يميلون عليهم ، فيقتلونهم ، فأنساهم هذا ما نالهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لهم أن يَعْلونا ، اللهم إن تُقْتَل هذه العصابةُ لا تُعْبَد في الأرض ، ثم بدأ أصحابه ، فرمَوْهم بالحجارة حتَّى أنزلوهم .
وإذا عرفت هذا فكلُّ واحدٍ من المفسّرين فسَّر هذين الغمين بغمين من هذه الغموم وقال القفّال : وعندنا أن الله - تعالى - ما أراد بقوله : { غُمّاً بِغَمٍّ } اثنين ، وإنما أراد مواصلة الغموم وطولها ، أي : أن اللهَ عاقبكم بغموم كثيرة ، مثل قتل إخوانكم وأقاربكم ، ونزول المشركين من فوق الجبلِ عليكم ، بحيث لم تأمنوا أن يهلك أكثركم ، ومثل إقدامكم على المعصيةِ ، فكأنه - تعالى - قال : أثابكم هذه الغمومَ المتعاقبةَ ؛ ليصير ذلك زاجراً لكم عن الإقدام على المعصية ، والاشتغال بما يخالف أمرَ الله تعالى .
والغَمّ : التغطية ، يقال : يوم غَمٌّ ، وليلة غَمَّةٌ - إذا كانا مُظْلِمَيْن - ومنه : غُمَّ الهلال - إذا لَمْ يُرَ ، وغَمَّ الأمرُ ، يَغْمَى - إذا لم يُتَبَيَّنُ .
قوله : { لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ } هذه لام " كي " وهي لام جرٍّ ، والنصب - هنا - ب " كي " لئلاَّ يلزم دخول حرفِ جرٍّ على مثله ، وفي متعلَّق هذه اللام قولانِ :
أحدهما : أنه { فَأَثَابَكُمْ } وفي " لا " على هذا وجهانِ :
الأول : أنها زائدةٌ ؛ لأنه لا يترتب على الاغتمام انتفاء الحُزْن ، والمعنى : أنه غمهم ليُحْزِنهم ؛ عقوبةً لهم على تركهم مواقفهم ، قاله أبو البقاء .
الثاني : أنها ليست زائدة ، فقال الزمخشريُّ : معنى { لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ } لتتمرَّنوا على تجرُّع الغمومِ ، وتتضرروا باحتمال الشدائد ، فلا تحزنوا فيما بعدُ على فائتٍ من المنافع ، ولا على مُصِيبٍ من المضارّ .
وقال ابن عطية : " المعنى : لتعلَمُوا أن ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم ، فأنتم ورَّطتم أنفسكم ، وعادة البشر أن جاني الذنب يصبر للعقوبة ، وأكثر قلق المعاقب وحزنه إذا ظن البراءة من نفسه " .
ثانيهما : أن اللام تتعلق ب " عَفَا " لأن عَفْوه يُذْهِب كُلَّ حُزْن ، وفيه بُعْدٌ ؛ لطول الفَصْلِ .
ثم قال : { وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي : عالم بجميع أعمالكم وقصودكم ودواعيكم ، قادرٌ على مجازاتها ، وهذا زَجْرٌ للبُعْدِ عَنِ الإقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ .