قوله تعالى : { فلما فصل طالوت بالجنود } . أي خرج بهم ، وأصل الفصل : القطع ، يعني قطع مستقره شاخصاً إلى غيره ، فخرج طالوت من بيت المقدس بالجنود ، وهم يومئذ سبعون ألف مقاتل وقيل : ثمانون ألفاً لم يتخلف عنه إلا كبير لهرمه ، أو مريض لمرضه ، أو معذور لعذره وذلك أنهم لما رأوا التابوت لم يشكو في النصر ، فتسارعوا إلى الجهاد ، فقال طالوت : لا حاجه لي في كل ما أرى ، لا يخرج معي رجل يبني بناء لم يفرغ منه ، ولا صاحب تجارة يشتغل بها ولا رجل عليه دين ، ولا رجل تزوج امرأة ولم يبن بها ، ولا يتبعني إلا الشباب النشيط الفارغ ، فاجتمع له ثمانون ألفا ممن شرطه ، وكان في حر شديد ، فشكوا قلة الماء بينهم وبين عدوهم فقالوا : إن المياه قليلة لت لا تحملنا ، فادع الله أن يجري لنا نهراً .
قوله تعالى : { قال } . طالوت .
قوله تعالى : { إن الله مبتليكم بنهر } . مختبركم ليرى طاعتكم وهو أعلم . بنهر ، قال ابن عباس والسدي : هو نهر فلسطين ، وقال قتادة . نهر بين الأردن وفلسطين عذب .
قوله تعالى : { فمن شرب منه فليس منه } . أي ليس من أهل ديني وطاعتي .
قوله تعالى : { ومن لم يطعمه } . لم يشربه .
قوله تعالى : { فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده } . قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو " غرفة " بفتح الغين ، وقرأ الآخرون بضم الغين ، وهما لغتان ، قال الكسائي : " الغرفة " بالضم الذي يحصل في الكف من الماء إذا غرف ، و " الغرفة " : بالفتح الاغتراف فالضم اسم والفتح مصدر .
قوله تعالى : { فشربوا منه إلا قليلاً منهم } . نصب على الاستثناء ، واختلفوا في القليل الذين لم يشربوا ، فقال السدي : كانوا أربعة آلاف وقال غيره : ثلاثمائة وبضعة عشر ، وهو الصحيح لما أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبد الله بن رجاء أنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال : كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ولم يجاوزا معه إلا مؤمن ، وهم بضعة عشر وثلاثمائة . وروى ثلاثمائة وثلاثة عشر فلما وصلوا إلى النهر وقد ألقى الله عليهم العطش فشرب منه الكل إلا هذا العدد القليل فمن اغترف غرفة كما أمر الله قوي قلبه ، وصح إيمانه وعبر النهر سالماً ، وكفته تلك الغرفة الواحد لشربه وحمله وداوبه والذين شربوا وخالفوا أمر الله اسودت شفاههم ، وغلبهم العطش ، فلم يرووا . وبقوا على شط النهر وجنبوا عن لقاء العدو فلم يجاوزوا ، ولم يشهدوا الفتح . وقيل كلهم جاوزوا ، لكن لم يحضر القتال إلا الذين لم يشربوا .
قوله تعالى : { فلما جاوزه } . يعني النهر .
قوله تعالى : { هو } . يعني طالوت .
قوله تعالى : { والذين آمنوا معه } . يعني القليل .
قوله تعالى : { قالوا } . يعني الذين شربوا وخالفوا أمر الله وكانوا أهل شك ونفاق .
قوله تعالى : { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } . وقال ابن عباس رضي الله عنهما والسدي : فانحرفوا ولم يجاوزوا .
قوله تعالى : { قال الذين يظنون } . يستيقنون .
قوله تعالى : { أنهم ملاقو الله } . وهم الذين ثبتوا مع طالوت .
قوله تعالى : { كم من فئة } . جماعة وهي جمع لا واحد له من لفظه ، وجمعه وفئات ، وفئون في الرفع ، وفئين في الخفض والنصب .
قوله تعالى : { قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } . بقضائه وقدره وإرادته .
ثم أعد طالوت جيشه ممن لم يتولوا عن فريضة الجهاد ، ولم ينكصوا عن عهدهم مع نبيهم من أول الطريق . . والسياق القرآني على طريقته في سياقة القصص يترك هنا فجوة بين المشهدين . فيعرض المشهد التالي مباشرة وطالوت خارج بالجنود :
( فلما فصل طالوت بالجنود قال : إن الله مبتليكم بنهر . فمن شرب منه فليس مني ، ومن لم يطعمه فإنه مني - إلا من اغترف غرفة بيده . فشربوا منه إلا قليلا منهم ) . .
هنا يتجلى لنا مصداق حكمة الله في اصطفاء هذا الرجل . . إنه مقدم على معركة ؛ ومعه جيش من أمة مغلوبة ، عرفت الهزيمة والذل في تاريخها مرة بعد مرة . وهو يواجه جيش أمة غالبة فلا بد إذن من قوة كامنة في ضمير الجيش تقف به أمام القوة الظاهرة الغالبة . هذه القوة الكامنة لا تكون إلا في الإرادة . الإرداة التي تضبط الشهوات والنزوات ، وتصمد للحرمان والمشاق ، وتستعلي على الضرورات والحاجات ، وتؤثر الطاعة وتحتمل تكاليفها ، فتجتاز الابتلاء بعد الابتلاء . . فلا بد للقائد المختار إذن أن يبلو إرادة جيشه ، وصموده وصبره : صموده أولا للرغبات والشهوات ، وصبره ثانيا على الحرمان والمتاعب . . واختار هذه التجربة وهم كما تقول الروايات عطاش . ليعلم من يصبر معه ممن ينقلب على عقبيه ، ويؤثر العافية . . وصحت فراسته :
( فشربوا منه إلا قليلا منهم ) . .
شربوا وارتووا . فقد كان أباح لهم أن يغترف منهم من يريد غرفة بيده ، تبل الظمأ ولكنها لا تشي بالرغبة في التخلف ! وانفصلوا عنه بمجرد استسلامهم ونكوصهم . انفصلوا عنه لأنهم لا يصلحون للمهمة الملقاة على عاتقه وعاتقهم . وكان من الخير ومن الحزم أن ينفصلوا عن الجيش الزاحف ، لأنهم بذرة ضعف وخذلان وهزيمة . والجيوش ليست بالعدد الضخم ، ولكن بالقلب الصامد ، والإرادة الجازمة ، والإيمان الثابت المستقيم على الطريق .
ودلت هذه التجربة على أن النية الكامنة وحدها لا تكفي ؛ ولا بد من التجربة العملية ، ومواجهة واقع الطريق إلى المعركة قبل الدخول فيها . ودلت كذلك على صلابة عود القائد المختار الذي لم يهزه تخلف الأكثرية من جنده عند التجربة الأولى . . بل مضى في طريقه .
وهنا كانت التجربة قد غربلت جيش طالوت - إلى حد - ولكن التجارب لم تكن قد انتهت بعد :
( فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا : لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ) . .
لقد صاروا قلة . وهم يعلمون قوة عدوهم وكثرته : بقيادة جالوت . إنهم مؤمنون لم ينكصوا عن عهدهم مع نبيهم . ولكنهم هنا أمام الواقع الذي يرونه بأعينهم فيحسون أنهم أضعف من مواجهته . إنها التجربة الحاسمة . تجربة الاعتزاز بقوة أخرى أكبر من قوة الواقع المنظور . وهذه لا يصمد لها إلا من اكتمل إيمانهم ، فاتصلت بالله قلوبهم ؛ وأصبحت لهم موازين جديدة يستمدونها من واقع إيمانهم ، غير الموازين التي يستمدها الناس من واقع حالهم !
وهنا برزت الفئة المؤمنة . الفئة القليلة المختارة . والفئة ذات الموازين الربانية :
( قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله : كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله . والله مع الصابرين ) . .
هكذا . ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة ) . . بهذا التكثير . فهذه هي القاعدة في حس الذين يوقنون أنهم ملاقو الله . القاعدة : أن تكون الفئة المؤمنة قليلة لأنها هي التي ترتقي الدرج الشاق حتى تنتهي إلى مرتبة الاصطفاء والاختيار . ولكنها تكون الغالبة لأنها تتصل بمصدر القوى ؛ ولأنها تمثل القوة الغالبة . قوة الله الغالب على أمره ، القاهر فوق عباده ، محطم الجبارين ، ومخزي الظالمين وقاهر المتكبرين .
وهم يكلون هذا النصر لله : ( بإذن الله ) . . ويعللونه بعلته الحقيقية : ( والله مع الصابرين ) فيدلون بهذا كله على أنهم المختارون من الله لمعركة الحق الفاصلة بين الحق والباطل . .
{ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّى وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّى إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ }
قبل هذه الآية متروك من اللفظ يدل معنى ما ذكر عليه ، وهو فاتفق بنو إسرائيل على طالوت ملكاً وأذعنوا وتهيؤوا لغزوهم عدوهم فلما فصل ، و { فصل } معناه خرج بهم من القطر ، وفصل حال السفر من حال الإقامة( {[2393]} ) ، قال السدي وغيره : كانوا ثمانين ألفاً .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ولا محالة أنهم كان فيهم المؤمن والمنافق والمجد والكسلان ، وقال وهب بن منبه : ولم يتخلف عنه إلا ذو عذر من صغر أو كبر أو مرض .
واختلف المفسرون في النهر ، فقال وهب بن منبه : لما فصل طالوت قالوا له إن المياه لا تحملنا( {[2394]} ) فادع الله يجر لنا نهراً ، فقال لهم طالوت { إن الله مبتليكم } الآية ، وقال قتادة : النهر الذي ابتلاهم الله به هو نهر بين الأردن وفلسطين ، وقاله ابن عباس ، وقال أيضاً هو السدي ، النهر نهر فلسطين ، وقرأ جمهور القراء «بنهَر » بفتح الهاء ، وقرأ مجاهد وحميد الأعرج وأبو السمال وغيرهم «بنهْر » بإسكان الهاء في جميع القرآن ، ومعنى هذا الابتلاء أنه اختبار لهم ، فمن ظهرت طاعته في ترك الماء علم أنه يطيع فيما عدا ذلك ، ومن غلب شهوته في الماء وعصى الأمر فهو بالعصيان في الشدائد أحرى ، وروي أنهم أتوا النهر وهم قد نالهم عطش وهو غاية العذوبة ، والحسن ، ولذلك رخص للمطيعين في الغرفة ليرتفع عنهم أذى العطش بعض الارتفاع ، وليكسروا نزاع النفس في هذه الحال إلى الاغتراف بالأيدي لنظافته ، وسهولته ، وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : الأكف انظف الآنية( {[2395]} ) . ومنه قول الحسن رحمه الله : [ البسيط ] .
لاَ يَدْلِفُونَ إلى مَاءٍ بآنِيةٍ . . . إلاَّ اغترافاً مِنَ الغُدْرانِ بِالرَّاحِ( {[2396]} )
وظاهر قول طالوت { إن الله مبتليكم } هو أن ذلك بوحي إلى النبي وإخبار من النبي لطالوت ، ويحتمل أن يكون هذا مما ألهم الله طالوت إليه فجرب به جنده ، وجعل الإلهام ابتلاء من الله لهم ، وهذه النزعة واجب أن تقع من كل متولي حرب ، فليس يحارب إلاّ بالجند المطيع ، ومنه قول معاوية : «عليّ في أخبث جند وأعصاه وأنا في أصح جند وأطوعه » ، ومنه قول علي رضي الله عنه : «أفسدتم عليّ رأيي بالعصيان » ، وبين أن الغرفة كافة ضرر العطش عند الحزمة الصابرين على شظف العيش الذين هممهم في غير الرفاهية ، كما قال عروة( {[2397]} ) : [ الطويل ]
وَأَحسوا قَرَاحَ الْمَاءِ والْمَاءُ بَارِد . . . فيشبه أن طالوت أراد تجربة القوم ، وقد ذهب قوم إلى عبد الله بن حذافة السهمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أمر أصحابه بإيقاد النار والدخول فيها تجربة لطاعتهم ، لكنه حمله مزاحه على تخشين الأمر الذي كلفهم( {[2398]} ) .
وقوله : { فليس مني } أي ليس من أصحابي في هذه الحرب ، ولم يخرجهم بذلك عن الإيمان ، ومثل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : «من غشنا فليس منا ، ومن رمانا بالنبل فليس منا ، وليس منا من شق الجيوب ولطم الخدود »( {[2399]} ) ، وفي قوله تعالى : { ومن لم يطعمه } سد للذرائع لأن أدنى الذوق يدخل في لفظ الطعم( {[2400]} ) ، فإذا وقع النهي عن الطعم فلا سبيل إلى وقوع الشرب ممن يتجنب الطعم . ولهذه المبالغات لم يأت الكلام ، ومن لم يشرب منه( {[2401]} ) . وقرأ أبو عمرو ونافع وابن كثير «غَرفة » بفتح الغين . وهذا على تعدية الفعل إلى المصدر . والمفعول محذوف ، والمعنى إلا من اغترف ماء غرفة ، وقرأ الباقون «غُرفة » بضم الغين وهذا على تعدية الفعل إلى المفعول به ، لأن الغرفة هي العين المغترفة . فهذا بمنزلة إلاَّ من إغترف ماء ، وكان أبو علي يرجح ضم الغين ، ورجحه الطبري أيضاً من جهة أن «غَرفة » بالفتح إنما هو مصدر على غير اغتراف( {[2402]} ) ، ثم أخبر تعالى عنهم أن الأكثر شرب وخالف ما أريد منه ، وروي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما أن القوم شربوا على قدر يقينهم . فشرب الكفار شرب الهيم ، وشرب العاصون دون ذلك ، وانصرف من القوم ستة وسبعون ألفاً ، وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئاً ، وأخذ بعضهم الغرفة ، فأما من شرب فلم يرو ، بل برَّح به العطش ، وأما من ترك الماء فحسنت حاله وكان أجلد ممن أخذ الغرفة .
قوله عز وجل : { فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }
«جاوز » فاعل من جاز ويجوز . وهي مفاعلة من اثنين في كل موضع . لأن النهر وما أشبهه كأنه يجاوز . واختلف الناس في { الذين آمنوا معه } كم كانوا ؟ فقال البراء بن عازب : كنا نتحدث ان عدة أهل بدر كعدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ، ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ، وفي رواية : وثلاثة عشر رجلاً ، وما جاوز معه إلا مؤمن( {[2403]} ) ، وقال قتادة : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر : «أنتم كعدة أصحاب طالوت »( {[2404]} ) ، وقال السدي وابن عباس : بل جاوز معه أربعة آلاف رجل ، قال ابن عباس : فيهم من شرب ، قالا : فلما نظروا إلى جالوت وجنوده قالوا : لا طاقة لنا اليوم ، ورجع منهم ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون ، هذا نص قول السدي ومعنى قول ابن عباس ، فعلى القول الأول( {[2405]} ) قالت الجملة : { لا طاقة لنا اليوم } ، على جهة استكثارا العدو .
فقال أهل الصلابة منهم والتصميم والاستماتة : { كم من فئة قليلة } الآية ، وظن لقاء الله على هذا القول يحسن أن يكون ظناً على بابه ، أي يظنون أنهم يستشهدون في ذلك اليوم لعزمهم على صدق القتال ، كما جرى لعبد الله بن حرام في يوم أحد ، ولغيره ، وعلى القول الثاني( {[2406]} ) قال كثير من الأربعة الآلاف : لا طاقة لنا على جهة الفشل والفزع من الموت ، وانصرفوا عن طالوت ، فقال المؤمنون الموقنون بالبعث والرجوع إلى الله وهم عدة أهل بدر : { كم من فئة قليلة } والظن على هذا بمعنى اليقين ، وهو فيما لم يقع بعد ولا خرج إلى الحس .
قال القاضي أبو محمد : وما روي عن ابن عباس من أن في الأربعة الآلاف من شرب يرد عليه قوله تعالى : { هو والذين آمنوا معه } ، وأكثر المفسرين على أنه إنما جاوز النهر من لم يشرب إلا غرفة ومن لم يشرب جملة ، ثم كانت بصائر هؤلاء مختلفة ، فبعض كع وقليل صمم ، وقرأ أبي بن كعب «كأين من فئة »( {[2407]} ) ، والفئة الجماعة التي يرجع إليها في الشدائد ، من قولهم : فاء يفيء إذا رجع ، وقد يكون الرجل الواحد فئة تشبيهاً ، والملك فئة الناس ، والجبل فئة ، والحصن ، كل ذلك تشبيه( {[2408]} ) ، وفي قولهم رضي الله عنهم : { كم من فئة } الآية ، تحريض بالمثال وحض واستشعار للصبر ، واقتداء بمن صدق ربه ، { وإذن الله } هنا( {[2409]} ) تمكينه وعلمه ، فمجموع ذلك هو الإذن ، { والله مع الصابرين } بنصره وتأييده .
عطفت الفاء جملة : ( لما فصل ) ، على جملة { إن الله قد بعث لكم } [ البقرة : 247 ] لأن بعث الملك لأجل القتال ، يترتب عليه الخروج للقتال الذي سألوا لأجله بعث النبي ، وقد حذف بين الجملتين كلام كثير مقدر : وهو الرضا بالملك ، ومجيء التابوت ، وتجنيد الجنود ؛ لأن ذلك مما يدل عليه جملة فصل طالوت بالجنود .
ومعنى فصل بالجنود : قطع وابتعد بهم ، أي تجاوزوا مساكنهم وقراهم التي خرجوا منها وهو فعل متعد لأن أصله فصل الشيء عن الشيء ثم عدوه إلى الفاعل فقالوا فصل نفسه حتى صار بمعنى انفصل ، فحذفوا مفعوله لكثرة الاستعمال ، ولذلك تجد مصدره الفصل بوزن مصدر المتعدي ، ولكنهم ربما قالوا فصل فصولاً نظراً لحالة قصوره ، كما قالوا صده صداً ، ثم قالوا صد هو صداً ، ثم قالوا صد صدوداً . ونظيره في حديث صفة الوحي « أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس فيفصم عني وقد وعيت ما قال » أي فيفصل نفسه عني ، والمعنى فينفصل عني .
وضمير { قال } راجع إلى ( طالوت ) ، ولا يصح رجوعه إلى نبيئهم لأنه لم يخرج معهم ، وإنما أخبر طالوت عن الله تعالى بأنه مبتليهم ، مع أنه لم يكن نبيئاً ، يوحى إليه : إما إستناداً لإخبار تلقاه من صمويل ، وإما لأنه اجتهد أن يختبرهم بالشرب من النهر لمصلحة رآها في ذلك ، فأخبر عن اجتهاده ، إذ هو حكم الله في شرعهم فأسنده إلى الله ، وهذا من معنى قول علماء أصول الفقه إن المجتهد يصح له أن يقول فيما ظهر له باجتهاده إنه دين الله أو لأنه في شرعهم أن الله أوجب على الجيش طاعة أميرهم فيما يأمرهم به ، وطاعة الملك فيما يراه من مصالحهم ، وكان طالوت قد رأى أن يختبر طاعتهم ومقدار صبرهم بهذه البلوى فجعل البلوى من الله ؛ إذ قد أمرهم بطاعته بها . وعلى كل فتسمية هذا التكليف ابتلاء تقريب للمعنى إلى عقولهم لأن المقصود إظهار الاعتناء بهذا الحكم ، وأن فيه مرضاة الله تعالى على الممتثل ، وغضبه على العاصي ، وأمثال هذه التقريبات في مخاطبات العموم شائعة ، وأكثر كلام كتب بني إسرائيل من هذا القبيل .
والظاهر أن الملك لما علم أنه سائر بهم إلى عدو كثير العدد ، وقوي العهد أراد أن يختبر قوة يقينهم في نصرة الدين ، ومخاطرتهم بأنفسهم وتحملهم المتاعب وعزيمة معاكستهم نفوسهم فقال لهم إنكم ستمرون على نهر ، وهو نهر الأردن ، فلا تشربوا منه فمن شرب منه فليس مني ، ورخص لهم في غرفة يغترفها الواحد بيده يبل بها ريقه ، وهذا غاية ما يختبر به طاعة الجيش ، فإن السير في الحرب يعطش الجيش ، فإذا وردوا الماء توافرت دواعيهم إلى الشرب منه عطشاً وشهوة ، ويحتمل أنه أراد إبقاء نشاطهم : لأن المحارب إذا شرب ماء كثيراً بعد التعب ، انحلت عراه ومال إلى الراحة ، وأثقله الماء .
والعرب تعرف ذلك قال طفيل يذكر خيلهم :
فلما شَارَفَتْ أَعلام طـي *** وطيٌّ في المَغَار وفي الشعاب
سَقَيْنَاهُنَّ من سهل الأداوى *** فمصطبح على عَجَل وآبـي
يريد أن الذي مارس الحرب مراراً لم يشرب ؛ لأنه لا يسأم من الركض والجهد ، فإذا كان حاجزاً كان أخفَّ له وأسرعَ ، والغر منهم يشرب لجهله لما يراد منه ، ولأجل هذا رخص لهم في اغتراف غرفة واحدة .
والنهَر بتحريك الهاء وبسكونها للتخفيف ، ونظيره في ذلك شَعَر وبَحَر وحَجَر فالسكون ثابت لجميعها .
وقوله : { فليس مني } أي فليس متصلاً بي ولا علقة بيني وبينه ، وأصل « من » في مثل هذا التركيب للتبعيض ، وهو تبعيض مجازي في الاتصال ، وقال تعالى : { ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء } [ آل عمران : 28 ] وقال النابغة :
إذا حاولتَ في أَسدِ فجوراً *** فإني لستُ منك ولستَ مني
وسمى بعض النحاة « من » هذه بالاتصالية . ومعنى قول طالوت « ليس مني » يحتمل أنه أراد الغضب عليه والبعد المعنوي ، ويحتمل أنه أراد أنه يفصله عن الجيش ، فلا يكمل الجهاد معه ، والظاهر الأول لقوله { ومن لم يطعَمْه فإنه مني } لأنه أراد به إظهار مكانة من ترك الشرب من النهر وولائه وقربه ، ولو لم يكن هذا مراده لكان في قوله : { فمن شرب منه فليس مني } غنية عن قوله : ومن لم يطعمه فإنه مني ؛ لأنه إذا كان الشارب مبعداً من الجيش فقد علم أن من لم يشرب هو باقي الجيش .
والاستثناء في قوله : { إلا من اغترف غرفة بيده } من قوله : { فمن شرب منه } لأنه من الشاربين ، وإنما أخره عن هذه الجملة ، وأتى به بعد جملة { ومن لم يطعمه } ليقع بعد الجملة التي فيها المستثنى منه مع الجملة المؤكدة لها ؛ لأن التأكيد شديد الاتصال بالمؤكد ، وقد علم أن الاستثناء راجع إلى منطوق الأولى ومفهوم الثانية ، فإن مفهوم ( من لم يطعمه فإنه منّي ) أن من طعمه ليس منه ، ليعلم السامعون أن المغترف غرفة بيده هو كمن لم يشرب منه شيئاً ، وأنه ليس دون من لم يشرب في الولاء والقرب ، وليس هو قسماً واسطة . والمقصود من هذا الاستثناء الرخصة للمضطر في بلال ريقه ، ولم تذكر كتب اليهود هذا الأمر بترك شرب الماء من النهر حين مرور الجيش في قصة شاول ، وإنما ذكرت قريباً منه إذ قال في سفر صمويل لما ذكر أشد وقعة بين اليهود وأهل فلسطين : « وضنك رجال إسرائيل في ذلك اليوم ؛ لأن شاول حلف القوم قائلاً ملعون من يأكل خبزاً إلى المساء حتى أنتقم من أعدائي » وذكر في سفر القضاة في الإصحاح السابع مثل واقعة النهر ، في حرب جَدعون قاضي إسرائيل للمديانيين ، والظاهر أن الواقعة تكررت لأن مثلها يتكرر فأهملتها كتبهم في أخبار شاول .
وقوله : { لم يطعمه } بمعنى لم يذقه ، فهو من الطعم بفتح الطاء ، وهو الذوق أي اختبار المطعوم ، وكان أصله اختبار طعم الطعام أي ملوحته أو ضدها ، أو حلاوته أو ضدها ، ثم توسع فيه فأطلق على اختبار المشروب ، ويعرف ذلك بالقرينة ، قال الحارث بن خالد المخزومي وقيل العرجي :
فإِنْ شئتِ حرَّمْتُ النساء سواكم *** وإنْ شِئتِ لم أَطْعم نقاخاً ولا بَرْدا{[191]}
فالمعنى لم أذق . فأما أن يطلق الطعم على الشرب أي ابتلاع الماء فلاَ ، لأن الطعم الأكل ولذلك جاء في الآية والبيت منفياً ، لأن المراد أنه لم يحصل أقَل ما يطلق عليه اسم الذوق ، ومن أجل هذا عيروا خالد بن عبد الله القسري لما أخبر وهو على المنبر بخروج المغيرة بن سعيد عليه فقال « أطعموني ماء » إذ لم يعرف في كلام العرب الأمر من الإطعام إلاّ بمعنى الأكل ، وأما من يطلب الشراب فإنما يقول اسقوني لأنه لا يقال طعم بمعنى شرب ، وإنما هو بمعنى أكل{[192]} .
والغرفة بفتح الغين في قراءة نافع وابن كثير وابن عامر وأبي جعفر ، المرَّة من الغرف وهو أخذ الماء باليد ، وقرأه حمزة وعاصم والكسائي ويعقوب وخلف ، بضم الغين ، وهو المقدار المغروف من الماء .
ووجه تقييده بقوله : { بيده } مع أن الغرف لا يكون إلاّ باليد لدفع توهم أن يكون المراد تقديرَ مقدار الماء المشروب ، فيتناوله بعضهم كرهاً ، فربما زاد على المقدار فجعلت الرخصة الأخذ باليد .
وقد دل قوله : { فشربوا منه } على قِلة صبرهم ، وأنهم ليسوا بأهل لمزاولة الحروب ، ولذلك لم يلبثوا أن صرحوا بعدَ مجاوزة النهر فقالوا : { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } فيحتمل أن ذلك قالوه لما رأوا جنود الأعداء ، ويحتمل أنهم كانوا يعلمون قوة العدو ، وكانوا يسرون الخوف ، فلما اقترب الجيشان ، لم يستطيعوا كتمان ما بهم .
وفي الآية انتقال بديع إلى ذكر جند جالوت والتصريح باسمه ، وهو قائد من قواد الفلسطينيين اسمه في كتب اليهود جُلْيَات كان طوله ستة أذرع وشبراً ، وكان مسلحاً مدرعاً ، وكان لا يستطيع أن يبارزه أحد من بني إسرائيل ، فكان إذا خرج للصف عرض عليهم مبارزته وعيرهم بجنبهم .
وقوله : { قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله } الآية ، أي الذين لا يحبون الحياة ويرجون الشهادة في سبيل الله ، فلقاء الله هنا كناية عن الموت في مرضاة الله شهادة وفي الحديث
« من أحب لقاء اللهةأحب الله لقاءه » فالظن على بابه . وفي قوله : { كم من فئة } خبرية لا محالة إذ لا موقع للاستفهام فإنهم قصدوا بقولهم هذا تثبيت أنفسهم وأنفس رفقائهم ، ولذلك دعوا إلى ما به النصر وهو الصبر والتوكل فقالوا { والله مع الصابرين } .
والفئة : الجماعة من الناس مشتقة من الفيء وهو الرجوع ، لأن بعضهم يرجع إلى بعض ، ومنه سميت مؤخرة الجيش فئة ، لأن الجيش يفىء إليها .