الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلۡجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبۡتَلِيكُم بِنَهَرٖ فَمَن شَرِبَ مِنۡهُ فَلَيۡسَ مِنِّي وَمَن لَّمۡ يَطۡعَمۡهُ فَإِنَّهُۥ مِنِّيٓ إِلَّا مَنِ ٱغۡتَرَفَ غُرۡفَةَۢ بِيَدِهِۦۚ فَشَرِبُواْ مِنۡهُ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنۡهُمۡۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُۥ هُوَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ قَالُواْ لَا طَاقَةَ لَنَا ٱلۡيَوۡمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِۦۚ قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةٗ كَثِيرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (249)

وقوله تعالى : { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود . . . } [ البقرة :249 ] .

أي : لما اتفق ملأهم على تمليك طالوتَ ، و( فصل بهم ) أيْ : خرج بهم من القُطْرِ ، وفَصَلَ حالَ السفر من حال الإِقامة .

قال السُّدِّيُّ وغيره : وكانوا ثمانين ألفاً ، { قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ } أي : مختبركم ، فمن ظهرت طاعته في تَرْك الماءِ ، علم أنه يطيع فيما عدا ذلك ، ومن غلبته شهْوَتُه في الماء ، وعصى الأمر ، فهو بالعصيان في الشدائد أحرى ، ورخَّص للمطيعين في الغُرْفة ، ليرتفع عنْهم أذى العَطَش بعض الاِرتفاعِ ، وليكسروا نزاعَ النَّفْس في هذه الحال .

( ت ) ولقد أحْسَنَ من شبه الدُّنْيا بنَهَرِ طالوتَ ، فمن اغترف منْها غُرفةً بيد الزهْدِ ، وأقبل على ما يعنيه من أمر آخرته نجا ، ومَنْ أكبَّ عليها ، صدَّته عن التأهُّب لآخرته ، وقلَّت سلامته إِلاَّ أنْ يتدارَكَه اللَّه .

قال ابن عَبَّاس : وهذا النَّهَر بيْن الأَرْدُنِّ وَفِلَسْطِينَ ، وقال أيضاً : هو نَهْرُ فِلَسْطِينَ .

قال : ( ع ) وظاهرُ قولِ طالوتَ { إِنَّ الله مُبْتَلِيكُم } ، إنه بإِخبار من النبيِّ لطالوتَ ، ويحتمل أنْ يكون هذا مما ألهم اللَّه إِليه طالوتَ ، فجرَّب به جنده ، وهذه النَّزْعة واجبٌ أنْ تقع من كلِّ متولِّي حَرْب ، فليس يحارِبُ إِلا بالجنْدِ المطيعِ ، وبَيِّنٌ أن الغرفة كَافَّةُ ضرر العَطَش عنْد الحَزَمَةِ الصَّابرين على شَظَف العَيْش ، الَّذين هم في غير الرفاهيَةِ ، وقوله : { فَلَيْسَ مِنِّي } ، أي : ليس من أصحابي في هذه الحَرْب ، ولم يخرجْهم بذلك عن الإِيمان ، ومثلُ هذا قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ غَشَّنَا ، فَلَيْسَ مِنَّا ) و ( مَنْ رَمَانَا بِالنَّبْلِ ، فَلَيْسَ مِنَّا ) ، و( لَيْسَ مِنَّا مَنْ شَقَّ الجُيُوبَ ، وَلَطَمَ الخُدُودَ ) . وفي قوله : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ } سدُّ الذرائعِ ، لأنَّ أدْنَى الذَّوْق يدْخُل في لفظ الطّعم ، فإِذا وقع النَّهْيُ عن الطُّعْم ، فلا سبيل إِلى وقوع الشُّرْبِ ممَّن يتجنَّب الطعْم ، ولهذه المبالغةِ لم يأْتِ الكلامُ : ومَنْ لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ .

( ص ) { إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ } استثناءٌ من الجملة الأولى ، وهو قوله : { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } ، أيْ { إِلاَّ من اغترف غُرْفة بيَده } ، دون الكَرْع ، { فإنه منِّي } والاستثناء إِذا تعقَّب جملتين فأكثر أمكَنَ عَوْده إِلى كلِّ منها ، فقيل : يعود على الأخيرة ، وقيل : إِلى الجميع .

وقال أبو البقاء : إِنْ شئْتَ ، جعلته مِنْ مَنِ الأولى ، وإِنْ شئْتَ مِنْ مَنِ الثانيةِ ، وتُعُقِّبَ ، بأنه لو كان استثناءً من الثانية ، وهي :{ وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي } ، لَلَزِمَ أنْ يكون : { مَنِ اغترف غُرْفَةً } ليس منه ، لأن الاستثناء من الإِثبات نفيٌ ، ومن النفي إِثبات ، على الصحيح ، وليس كذلك ، لأنه أبيحَ لهم الاغترافُ ، والظاهر عوده إِلى الأولى ، والجملةُ الثانية مفهومةٌ من الأولى ، لأنه حين ذكر أنَّ من شربه فليس منه فُهِمَ من ذلك أنَّ مَنْ لم يشرب منه فإِنه منه ، انتهى .

ثم أخبر تعالى ، أن الأكثر شَرِبَ ، وخالَفَ ما أريد منه ، روي عن ابن عَبَّاس وغيره : أن القوم شَرِبوا على قدر يقينهم ، فشرب الكُفَّار شُرْبَ الهيم ، وشرب العاصُون دُون ذلك ، وانصرف من القوْمِ ستَّة وسبْعُون ألفاً ، وبقي بعض المؤمنين لم يَشْرَبْ شيئاً ، وأخذ بعضهم الغُرْفة ، فأما مَنْ شرب فلم يُرو بل برَّح به العطش ، وأما من ترك الماء ، فَحَسُنَتْ حاله ، وكان أَجْلَدَ ممن أخذ الغُرْفَة .

وقوله تعالى : { فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ والذين آمَنُواْ مَعَهُ . . . } [ البقرة :249 ] .

أكثر المفسِّرين على أنه إِنَّما جاوز النَّهَرَ مَنْ لم يشرَبْ إِلا غُرْفة ، ومن لم يَشْرَبْ جملةً ، ثم كانَتْ بصائرُ هؤلاء مختلفةً ، فبعضٌ كَعَّ ، وقليلٌ صَمَّم ، وهم عِدَّة أهل بدرٍ ثَلاثُمِائَةٍ ، وبضْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً .

وقوله تعالى : { قَالُواْ لاَ طَاقَةَ }[ البقرة :249 ] .

قال ابن عبَّاس : قال كثير من الأربعةِ الآلافِ الباقيَةِ مع طالُوت ، الذين جاوزوا النَّهَر : { لاَ طَاقَةَ لَنَا } على جهة الفَشَل ، والفزع من الموت ، وانصرفوا عن طالوتَ ، فقال المؤمنون الموقنُون بالبَعْث ، والرجوعِ إِلى اللَّه تعالى ، وهم عِدَّة أهل بَدْر : { كَم مِّن فِئَةٍ } ، والظنُّ على هذا القول : اليقينُ ، والفئةُ : الجماعة التي يرجعُ إِليها في الشدائد ، وفي قولهم -رضي اللَّه عنهم- : { كَم مِّن فِئَةٍ . . . } الآية : تحريضٌ بالمثالِ ، وحضٌّ واستشعارٌ للصبر ، واقتداء بمن صَدَق ربَّه ، { والله مَعَ الصابرين } بنصره وتأييده .