ولما كان التقدير : فأتاهم التابوت على الصفة المذكورة فأطاعوا نبيهم فيه فملكوه وانتدبوا معه فخرج بهم إلى العدو وفصل بالجنود من محل السكن ، عطف عليه قوله : { فلما فصل{[11795]} } من الفصل وهو انقطاع{[11796]} بعض من كل ، وأصله : فصل نفسه أو جنده - أو{[11797]} نحو ذلك ، ولكنه كثر حذف المفعول للعلم{[11798]} به فصار يستعمل استعمال اللازم { طالوت } أي الذي ملكوه { بالجنود } أي التي اختارها وخرجوا للقاء من سألوا لقاءه لكفره بالله مع ما قد أحرقهم به من أنواع القهر .
قال الحرالي{[11799]} : وهو جمع جند وهم أتباع يكونون نجدة للمستتبع { قال } أي ملكهم { إن الله } أي الذي لا أعظم منه وأنتم خارجون في مرضاته { مبتليكم بنهر } من الماء الذي جعله{[11800]} سبحانه وتعالى حياة لكل شيء ، فضربه{[11801]} مثلاً للدنيا التي من ركن إليها ذل ومن صدف{[11802]} عنها عز . قال الحرالي : فأظهر الله على لسانه ما أنبأ{[11803]} به نبيّهم في قوله
{ وزاده بسطة في العلم }[ البقرة : 247 ] - انتهى . { فمن شرب منه } أي ملأ بطنه { فليس مني }{[11804]} أي كمن انغمس في الدنيا فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون { ومن لم يطعمه{[11805]} فإنه مني } كمن {[11806]}عزف عنها{[11807]} بكليته ثم تلا هذه الدرجة العلية التي قد{[11808]} قدمت للعناية بها بما يليها من الاقتصاد فقال مستثنياً من{[11809]} { فمن شرب } : { إلا من اغترف } أي تكلف الغرف { غرفة بيده } ففي قراءة فتح الغين إعراب عن معنى إفرادها أخذة{[11810]} ما أخذت من قليل أو كثير ، وفي الضم إعلام بملئها ، والغرف بالفتح الأخذ بكلية اليد ، والغرفة الفعلة{[11811]} الواحدة منه ، وبالضم اسم ما حوته الغرفة ، فكان في المغترفين من استوفى الغرفة ومنهم من لم يستوف - قاله{[11812]} الحرالي وقال : فكان فيه إيذان بتصنيفهم ثلاثة أصناف : من لم يطعمه البتة وأولئك الذين ثبتوا وظنوا أنهم ملاقو الله ، ومن شرب منهم وأولئك الذين افتتنوا وانقطعوا عن الجهاد في سبيل الله ومن اغترف غرفة وهم الذين ثبتوا وتزلزلوا حتى ثبتهم الذين لم{[11813]} يطعموا . ولما كان قصص بني إسرائيل مثالاً لهذه الأمة كان مبتلى هذه الأمة بالنهر ابتلاهم بنهر الدنيا الجاري خلالها ، فكانت جيوشهم بحكم هذا الإيحاء الاعتباري{[11814]} إذا مروا بنهر أموال الناس وبلادهم وزروعهم وأقطارهم في سبيلهم إلى غزوهم ، فمن أصاب{[11815]} من أموال الناس ما لم ينله الإذن من الله انقطع عن ذلك الجيش ولو حضره . فما كان{[11816]} في بني إسرائيل عياناً يكون وقوعه في هذه الأمة استبصاراً سترة لها{[11817]} وفضيحة لأولئك ، ومن لم يصب منها شيئاً بتاً كان أهل{[11818]} ثبت ذلك الجيش الثابت المثبت ، قيل لعلي رضي الله تعالى عنه : يا أمير المؤمنين ! ما بال فرسك لم يكب بك قط ؟ قال : ما وطئت به زرع مسلم قط . ومن أصاب{[11819]} ما له فيه ضرورة من منزل ينزله أو غلبة عادة تقع منه ويوده أن لا يقع{[11820]} فهؤلاء يقبلون التثبيت من الذين تورعوا كل الورع ، فملاك هذا الدين الزهد في القلب والورع في التناول باليد ، قال صلى الله عليه وسلم :
" إنما تنصرون بضعفائكم " وفي إلاحة هذا التمثيل والاعتبار أن أعظم الجيوش جيش يكون فيه من أهل الورع بعدد الثابتين من أصحاب طالوت الذين بعددهم كان أصحاب {[11821]}رسول الله{[11822]} صلى الله عليه وسلم يوم بدر وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر عدد المرسلين من كثرة عدد النبيين ، قال{[11823]} : وفي إفراد اليد إيذان بأنها غرفة اليد اليمنى {[11824]}لأنها اليد الخاصة للتعريف ، ففي اعتباره أن الأخذ من الدنيا إنما يكون بيد لا بيدين لاشتمال اليدين على جانبي {[11825]}الخير والشر{[11826]} - انتهى . فعرض لهم النهر كما أخبرهم به { فشربوا{[11827]} منه } مجاوزين حد الاقتصاد { إلاّ قليلاً منهم } فأطاعوا فأرواهم{[11828]} الله وقوى قلوبهم ، ومن عصى في شربه غلبه العطش وضعف عن اللقاء فبقي على شاطىء النهر . قال الحرالي : وفيما يذكر أنه قرىء{[11829]} بالرفع وهو إخراج لهم من الشاربين بالاتباع كأن الكلام{[11830]} مبني{[11831]} عليه حيث صار تابعاً وإعرابه مما أهمله النحاة فلم يحكموه وحكمه{[11832]} أن ما بني على إخراج اتبع وما لم يبن على إخراجه{[11833]} وكأنه إنما انثنى{[11834]} إليه بعد مضار الكلام الأول قطع ونصب - انتهى . وكان المعنى في النصب أنه لما استقر الفعل للكل رجع الاستثناء إلى البعض ، وفي الاتباع نوى الاستثناء من الأول فصار كالمفرغ{[11835]} وهذه القراءة عزاها الأهوازي{[11836]} في كتاب الشواذ إلى الأعمش وعزاها السمين في إعرابه إلى عبد الله وأُبيّ رضي الله تعالى عنهما ، وعقد سيبويه رحمه الله تعالى في نحو نصف كتابه لاتباع{[11837]} مثل هذا باباً ترجمه{[11838]} بقوله : باب ما يكون فيه إلاّ وما بعده وصفاً بمنزلة غير{[11839]} ومثل ، ودل عليه بأبيات كثيرة منها :
وكل أخ مفارقه{[11840]} أخوه *** لعمر أبيك إلا الفرقدان
قال{[11841]} كأنه قال : وكل أخ غير الفرقدين ، وسوى{[11842]} بين هذا وبين آية
{ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر{[11843]} }[ النساء : 95 ] بالرفع
{ وغير المغضوب عليهم }[ الفاتحة : 7 ] ، وجوز في ما قام{[11844]} القوم إلا زبد ، - بالرفع البدل والصفة ، قال الرضي تمسكاً بقوله : وكل أخ - البيت ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " الناس كلهم هلكى إلا العالمون ، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون ، والمخلصون على خطر عظيم " وقال السمين : والفرق بين الوصف بإلا والوصف بغيرها {[11845]}أن لا{[11846]} يوصف بها المعارف والنكرات{[11847]} والظاهر والمضمر ، وقال بعضهم : لا يوصف بها إلا النكرة{[11848]} والمعرفة بلام الجنس فإنه في قوة النكرة .
ولما ذكر فتنتهم بالنهر أتبعه فتنة اللقاء ببحر الجيش وما فيه من عظيم الخطر المزلزل للقلوب حثاً على سؤال العافية وتعريفاً بعظيم{[11849]} رتبتها كما قال صلى الله عليه وسلم يوم عرض نفسه الشريفة على أهل الطائف ومسه منهم من عظيم الأذى ما مسه : إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي ولكن هي أوسع لي ! فقال سبحانه وتعالى : { فلما جاوزه } أي النهر من غير شرب ، من المجاوزة مفاعلة من الجواز وهو العبور من عدوة دنيا إلى عدوة قصوى { هو والذين آمنوا } أي أقروا بالإيمان وجاوزوا { معه } وتراءت الفئتان { قالوا } أي معظمهم .
قال الحرالي : رد{[11850]} الضمير مرداً{[11851]} عاماً إيذاناً بكثرة الذين اغترفوا وقلة الذين لم يطعموا{[11852]} كما آذن{[11853]} ضمير شربوا بكثرة الذين شربوا منه{[11854]} - انتهى . { لا طاقة } مما{[11855]} منه الطوق{[11856]} وهو ما{[11857]} استقل به الفاعل ولم يعجزه { لنا اليوم } أي{[11858]} على ما نحن فيه من الحال { بجالوت وجنوده } لما هم فيه من القوة والكثرة . قال الحرالي : ففيه من نحو قولهم { ولم يؤت سعة من المال } اعتماداً على أن النصر بعدة مال أو قوة ، وليس إلا بنصر الله ، ثم قال : فإذا نوظر هذا الإنباء منهم والطلب أي{[11859]} كما يأتي في { ربنا أفرغ } بما تولى الله من{[11860]} أمر هذه الأمة في جيشهم الممثول لهذا الجيش في سورة الأنفال من نحو قوله{ إذ يغشيكم النعاس أمنة منه{[11861]} }[ الأنفال : 11 ] - الآيات ، علم عظيم فضل الله على هذه الأمة واستشعر بما يكون لها في خاتمتها مما هو أعظم نبأ وأكمل عياناً فلله الحمد على ما أعظم من فضله ولطفه{[11862]} - انتهى .
ولما أخبر عنهم بهذا القول نبه على أنه لا ينبغي {[11863]}أن يصدر{[11864]} ممن يظن أن أجله مقدر لا يزيد بالجبن والإحجام ولا ينقص بالجرأة والإقدام وأنه يلقى الله فيجازيه على عمله وأن النصر من الله لا بالقوة والعدد فقال : { قال الذين يظنون } أي يعلمون ولكنه عبر بالظن لما ذكر { أنهم ملاقوا الله } {[11865]}أي الذي له الجلال والإكرام{[11866]} إشارة إلى أنه يكفي في الخوف من الله والرجاء له الظن لأنه يوجب فرار العقل مما يظن أنه يكرهه سبحانه وتعالى إنقاذاً لنفسه من الهلاك بذلك كما أسرف{[11867]} هؤلاء {[11868]}في الشرب{[11869]} لظن الهلاك بعدمه ورجعوا لظن الهلاك باللقاء ؛ ويجوز{[11870]} أن يكون الظن على بابه ويأول اللقاء بالحالة الحسنة{[11871]} { كم من فئة{[11872]} قليلة } كما كان في هذه الأمة في يوم بدر { غلبت فئة كثيرة } ثم نبه على أن سبب النصر الطاعة والذكر لله بقوله : { بإذن الله } أي بتمكين{[11873]} {[11874]}الذي لا كفوء له{[11875]} ، فلا ينبغي لمن علم ذلك أن يفتر{[11876]} عن ذكره ويرضى بقضائه{[11877]} . ثم بين أن ملاك ذلك كله الصبر بقوله : { والله } أي الملك الأعظم { مع الصابرين * } ولا يخذل{[11878]} من كان معه .