تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلۡجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبۡتَلِيكُم بِنَهَرٖ فَمَن شَرِبَ مِنۡهُ فَلَيۡسَ مِنِّي وَمَن لَّمۡ يَطۡعَمۡهُ فَإِنَّهُۥ مِنِّيٓ إِلَّا مَنِ ٱغۡتَرَفَ غُرۡفَةَۢ بِيَدِهِۦۚ فَشَرِبُواْ مِنۡهُ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنۡهُمۡۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُۥ هُوَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ قَالُواْ لَا طَاقَةَ لَنَا ٱلۡيَوۡمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِۦۚ قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةٗ كَثِيرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (249)

اختباره الجنود

{ فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين( 249 ) ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين( 250 ) فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين( 251 ) }

المفردات :

فصل : خرج .

مبتليكم بنهر : أي مختبركم به ليظهر الصادق منكم والكاذب في طاعة الملك والجهاد في سبيل الله لإخراج العدو من البلاد التي أخذها منكم .

يطعمه : يذق طعمه .

اغترف غرفة : الغرفة : ما يغرف .

لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده : لا قوة لنا على حربه فضلا عن الانتصار عليه ،

يظنون : هي هنا بمعنى يوقنون بالبعث ، على حد قوله تعالى : { إني ظننت أني ملاق حسابيه } . ( الحافة : 20 ) .

ملاقو الله : أي مبعوثون إليه .

المعنى الإجمالي :

فلما خرج بهم طالوت قال لهم الله مختبركم بنهر تمرون عليه في طريقكم فلا تشربوا منه إلا غرفة ، فمن شرب منه أكثر من ذلك فليس من جيشنا ولا من جمعنا لخروجه على طاعة الله ، ولن يصحبني إلا من لم يشرب منه أكثر من غرفة ، فلم يصبروا على هذا الاختيار وشربوا منه كثيرا إلا جماعة قلية فاصطحب هذه القلة الصابرة واجتاز بها النهر فلما ظهرت لهم كثرة عدد عدوهم قالوا : لن نستطيع اليوم قتال جالوت وجنوده لكثرتهم وقلتنا ، فقال نفر منهم ثبت الله قلوبهم لرجائهم في ثواب الله عند لقائه لا تخافوا فكثيرا ما انتصرت القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة ، فاصبروا فإن الله مع الصابرين .

التفسير :

{ فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة واحدة . . . }

فلما خرج طالوت بالجنود من بيت المقدس لقتال أعدائهم ساروا في أرض قفرة أصابهم عطش شديد ثم مروا بنهر في الطريق فطلب منهم القائد ألا يشربوا منه ورخص لهم في غرفة واحدة باليد .

فانقسم أتباع طالوت إلى أقسام :

- قسم شرب كثيرا مخالفا أمر طالوت .

- قسم شرب غرفة واحدة بيده كما رخص له القائد .

- قسم لم يشرب أصلا لا قليلا ولا كثيرا مؤثرا العزيمة على الرخصة وهذا القسم هو الذي اعتمد عليه طالوت اعتمادا كبيرا في قتاله لأعدائه .

نقل القرطبي عن ابن عباس أنه قال : " شربوا على قدر يقينهم فشرب الكفار شرب الهيم ، ( 303 ) وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئا ، وأخذ بعضهم الغرفة فأما من شرب فلم يرو بل برح به العطش ، وأما من ترك الماء فحسنت حاله وكان أجلد ممن أخذ الغرفة( 304 ) .

قال الأستاذ سيد قطب : " هنا يتجلى مصداق حكمة الله في اصطفاء هذا الرجل إنه مقدم على معركة ، ومعه جيش من أمة مغلوبة عرفت الهزيمة والذل في تاريخها مرة بعد مرة ، وه يواجه جيش أمة غالبة فلابد إذن من قوة كامنة في ضمير الجيش تقف به أمام التوراة الظاهرة الغالبة هذه القوة الكامنة لا تكون إلا في الإرادة والإرادة لا تضبط الشهوات والنزوات تصمد للحرمان والمشاق وتستعلي على الضرورات والحاجات وتؤثر الطاعة وتحتمل تكاليفها فتجتاز الابتلاء بعد الابتلاء فلابد للقائد المختار إذن أن يبلو إرادة جيشه وصموده وصبره أولا للرغبة والشهوة وصبره ثانيا على الحرمان والمتاعب واختار هذه التجربة وهم كما تقول الروايات عطاش ، ليعلم من يصبر معه ممن ينقلب على عقبيه ويؤثر العافية .

{ فشربوا منه إلا قليلا منهم }

شربوا وارتووا ، فقد كان أباح لهم أن يغترف منهم من يريد غرفة بيده تبل الظمأ لا تشي بالرغبة في التخلف وانفصلوا عنه بمجرد استسلامهم ونكوصهم للمهمة الملقاة على عاتقه وعاتقهم وكان من الخير ومن الحزم أن ينفصلوا عن الجيش الزاحف لأنهم بذرة ضعف وخذلان وهزيمة ، والجيوش ليست بالعدد الضخم ولكن بالقلب الصامد ، والإرادة الحازمة والإيمان الثابت المستقيم على الطريق ( 205 ) .

{ فلما جاوزه وهو الذي آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده }

المعنى : فلما جاوزت طالوت النهر وتركه هو والذين آمنوا معه ، وهم القليل الذي نفذ أمره وصدق إيمانه بربه ، ونظروا إلى كثرة عدوهم وهم قليل ، فأوجس بعضهم خفية وقالوا : { لا طاقة لنا اليوم } . بقتال " جالوت وجنوده " أي لا قدر لنا على محاربتهم فضلا عن غلبتهم وهؤلاء وإن كانوا من المؤمنين معه ، المنفذين لأمره في اغتراف الغرفة ، إلا أنهم قالوا إظهارا لواقع الحال ، ورجاء المعونة من الله وليس نكوصا وامتناعا عن القتال .

{ قال الذين أنهم ملاقوا الله }

أي قال أفضلهم وخلصاؤهم الذين يتيقنون أنهم ملاقو جزاء الله يوم القيامة .

{ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين }

أي كم من جماعة قليلة العدة والعدة استعصمت بإيمانها بالله وتوكلت عليه غلبت فئة كثيرة العدد والعدة ، بإرادة الله ونصره ؟ فإن النصر من عند الله لا بكثرة الجنود . فلا ينبغي لنا أن نستقل أنفسنا فنجبن عن لقاء عدونا .

ثم ختمت الآية بهذه البشرى :

{ والله مع الصابرين } : أي معهم بالنصر والتأييد .

وهذه الجملة إما : من جهته تعالى تقريرا لكلامهم ، ودعاء للسامعين إلى مثل حالهم وإما : من كلام هؤلاء الذين يظنون أنهم ملاقو الله ، قالوا ذلك تشجيعا وترغيبا في الصبر .