معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ أَن يُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُۥ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَآۚ أُوْلَـٰٓئِكَ مَا كَانَ لَهُمۡ أَن يَدۡخُلُوهَآ إِلَّا خَآئِفِينَۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (114)

قوله تعالى : { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر } . الآية نزلت في ططوس بن اسبيسبانوس الرومي وأصحابه ، وذلك أنهم غزوا بني إسرائيل فقتلوا مقاتلتهم ، وسبوا ذراريهم ، وحرقوا التوراة وخربوا بيت المقدس ، وقذفوا فيه الجيف ، وذبحوا فيه الخنازير ، فكان خراباً إلى أن بناه المسلمون في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه .

وقال قتادة والسدي : هو بختنصر وأصحابه ، غزوا اليهود وخربوا بيت المقدس وأعانهم على ذلك النصارى ، ططوس الرومي وأصحابه من أهل الروم ، قال السدي : من أجل أنهم قتلوا يحيى بن زكريا ، وقال قتادة : حملهم بعض اليهود على معاونة بختنصر البابلي المجوسي ، فأنزل الله تعالى : { ومن أظلم } أي أكفر :{ ممن منع مساجد الله } يعني بيت المقدس ومحاريبه .

قوله تعالى : { فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين } وذلك أن بيت المقدس موضع حج النصارى ومحل زيارتهم ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : لم يدخلها يعني بيت المقدس بعد عمارتها رومي إلا خائفاً لو علم به لقتل . وقال قتادة ومقاتل : لا يدخل بيت المقدس أحد من النصارى إلا مستنكرا لو قدر عليه لعوقب ، قال السدي : أخيفوا بالجزية . وقيل : هذا خبر بمعنى الأمر ، أي أجهضوهم بالجهاد حتى لا يدخلها أحد منهم إلا خائفاً من القتل والسبي أي ما ينبغي لهم .

قوله تعالى : { لهم في الدنيا خزي } . عذاب ، قال قتادة : هو القتل للحربي والجزية للذمي ، قال مقاتل والكلبي : تفتح مدائنهم الثلاثة قسطنطينية ، ورومية ، وعمورية .

قوله تعالى : { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } . وهو النار ، وقال عطاء وعبد الرحمن ابن زيد : نزلت في مشركي مكة ، وأراد بالمساجد المسجد الحرام منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من حجه والصلاة فيه عام الحديبية ، وإذا منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يعمره بذكر فقد سعوا في خرابها ، { أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين } يعني أهل مكة يقول : أفتحها عليكم حتى تدخلوها وتكونوا أولى بها منهم ، ففتحها عليهم وأمر النبي صلى الله عليه وسلم منادياً ينادي : ألا لا يحجن بعد هذا العام مشرك فهذا خوفهم ، وثبت في الشرع أن لا يمكن مشرك من دخول الحرم ، ولهم في الدنيا خزي الذل والهوان والقتل والسبي والنفي .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ أَن يُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُۥ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَآۚ أُوْلَـٰٓئِكَ مَا كَانَ لَهُمۡ أَن يَدۡخُلُوهَآ إِلَّا خَآئِفِينَۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (114)

104

ثم يعود إلى ترذيل محاولتهم تشكيك المسلمين في صحة الأوامر والتبليغات النبوية - وبخاصة ما يتعلق منها بتحويل القبلة - ويعدها سعيا في منع ذكر الله في مساجده ، وعملا على خرابها :

( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ؟ أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين . لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم . ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ، إن الله واسع عليم ) . .

وأقرب ما يتوارد إلى الخاطر أن هاتين الآيتين تتعلقان بمسألة تحويل القبلة ؛ وسعي اليهود لصد المسلمين عن التوجه إلى الكعبة . . أول بيت وضع للناس وأول قبلة . . وهناك روايات متعددة عن أسباب نزولهما غير هذا الوجه .

وعلى أية حال فإن إطلاق النص يوحي بأنه حكم عام في منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ، والسعي في خرابها . كذلك الحكم الذي يرتبه على هذه الفعلة ، ويقرر أنه هو وحده الذي يليق أن يكون جزاء لفاعليها . وهو قوله :

( أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ) . .

أي أنهم يستحقون الدفع والمطاردة والحرمان من الأمن ، إلا أن يلجأوا إلى بيوت الله مستجيرين محتمين بحرمتها مستأمنين وذلك كالذي ]حدث في عام الفتح بعد ذلك إذ نادى منادي رسول الله [ ص ] يوم الفتح : من دخل المسجد الحرام فهو آمن . . فلجأ إليها المستأمنون من جبابرة قريش ، بعد أن كانوا هم الذي يصدون رسول الله [ ص ] ومن معه ويمنعونهم زيارة المسجد الحرام ! [ . ويزيد على هذا الحكم ما يتوعدهم به من خزي في الدنيا وعذاب عظيم في الآخرة :

( لهم في الدنيا خزي ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) . .

وهناك تفسير آخر لقوله : ( أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ) . . أي أنه ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا في خوف من الله وخشوع لجلالته في بيوته . فهذا هو الأدب اللائق ببيوت الله ، المناسب لمهابته وجلاله العظيم . . وهو وجه من التأويل جائز في هذا المقام .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ أَن يُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُۥ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَآۚ أُوْلَـٰٓئِكَ مَا كَانَ لَهُمۡ أَن يَدۡخُلُوهَآ إِلَّا خَآئِفِينَۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (114)

{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ( 114 )

وقوله تعالى { ومن أظلم } الآية ، { من } رفع بالابتداء ، و { أظلم } خبره ، والمعنى لا أحد أظلم( {[1141]} ) .

واختلف في المشار إليه من هذا الصنف الظالم( {[1142]} ) ، فقال ابن عباس وغيره : المراد النصارى الذين كانوا يؤذون من يصلى ببيت المقدس ويطرحون فيه الأقذار ، وقال قتادة والسدي : المراد الروم الذين أعانوا بختنصر على تخريب بيت المقدس حين قتلت بنو إسرائيل يحيى بن زكرياء عليه السلام( {[1143]} ) ، وقيل : المعنّي بختنصر ، وقال ابن زيد : المراد كفار قريش حين صدوا رسول الله صلى عليه وسلم عن المسجد الحرام( {[1144]} ) ، وهذه الآية تتناول كل من منع من مسجد إلى يوم القيامة أو خرب مدينة إسلام ، لأنها مساجد ، وإن لم تكن موقوفة ، إذ الأرض كلها مسجد لهذه الأمة( {[1145]} ) ، والمشهور مسجد بكسر الجيم ، ومن العرب من يقول مسجد بفتحها ، و { أن يذكر } في موضع نصب : إما على تقدير حذف «من » وتسلط الفعل ، وإما على البدل من المساجد ، وهو بدل الاشتمال الذي شأن البدل في أن يتعلق بالمبدل منه ويختص به أو تقوم به صفة ، ويجوز أن يكون مفعولاً من أجله( {[1146]} ) ، ويجوز أن تكون { أن } في موضع خفض على إسقاط حرف الجر ، ذكره سيبويه ، ومن قال من المفسرين إن الآية بسبب بيت المقدس جعل الخراب الحقيقي الموجود( {[1147]} ) ، ومن قال هي بسبب المسجد الحرام جعل منع عمارته خراباً ، إذ هو داع إليه ، ومن جعل الآية في النصارى روى أنه مر زمان بعد ذلك لا يدخل نصراني بيت المقدس إلا أوجع ضرباً ، قاله قتادة والسدي( {[1148]} ) ، ومن جعلها في قريش قال كذلك نودي بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يحج مشرك ، ( {[1149]} ) و { خائفين } نصب على الحال ، وهذه الآية ليست بأمر بين منعهم من المساجد ، لكنها تطرق إلى ذلك وبدأة فيها وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين( {[1150]} ) .

ومن جعل الآية في النصارى قال : الخزي قتل الحربي وجزية الذمي ، وقيل : الفتوح الكائنة في الإسلام كعمورية وهرقلة( {[1151]} ) وغير ذلك ، ومن جعلها في قريش جعل الخزي غلبتهم في الفتح وقتلهم والعذاب في الآخرة لمن مات منهم كافراً ، و { خزي } رفع بالابتداء وخبره في المجرور .


[1141]:- يشير إلى أن الاستفهام ليس حقيقيا، بل هو بمعنى النفي، وذلك أبلغ دلالة على أن هذا الظلم بلغ الغاية والنهاية.
[1142]:- أي في المراد بقوله تعالى: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله) الآية.
[1143]:- قال أبو بكر الرازي: لا خلاف بين أهل العلم بالسير أن عهد بخت نصر كان قبل مولد المسيح عليه السلام بدهر طويل.
[1144]:- هذا أرجح الأقوال كما للحافظ ابن (ك) رحمه الله، وتبعه العلامة القاسمي رحمه الله، فالآية توجه الذم إلى المشركين الذين أخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة، ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام، وصدوهم عنه عام الحديبية، وأي خراب أعظم من هذا؟ انظر ابن (ك). وحديث صد المسلمين عن بيت الله الحرام عام الحديبية أخرجه البخاري في "باب الشروط" في "الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب"، واعتنى به رحمه الله فساقه مطولا في عدة صفحات، وهو حديث عظيم يجمع فوائد ومعاني كثيرة.
[1145]:- لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند المحقيقين.
[1146]:- بتقدير: كراهية أن يُذكر.
[1147]:- أي الموجود في بيت المقدس من طرف البابليين أولا، ومن طرف الرومانيين ثانيا.
[1148]:- هذا وما بعده مرتب على قوله تعالى: (أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين).
[1149]:- أي في السنة التاسعة نودي: «ألا لا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له أجل فأجله إلى مدته»، وهو حديث متفق عليه.
[1150]:- وعد للمؤمنين بإظهارهم على المسجد الحرام، ووعيد للمشركين بإذلالهم حتى لا يدخله واحد منهم إلا خائفا، وقد أنجز الله وعده فمنعهم من دخول المسجد الحرام ونادى فيهم (عام حج) أبو بكر رضي الله عنه: «ألا لا يحجن بعد العام مشرك». وفي حق المشركين يقول الله تعالى: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) وفي حق المؤمنين يقول: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله) الآية.
[1151]:- عمُّورية – بلدة في آسيا الصغرى وكانت حصنا منيعا من حصون الروم، فتحها (المعتصم) وخلدها هي ومعركة فتحها أبو تمام بقصيدته التي مطلعها: السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب وفيها يقول: يا يوم وقعة عمورية انصرفت عنك المنى حُفَّلا مَعْسولة الحلبِ أما (هرقلة) فتقع إلى الغرب من (أدنة) قرب الساحل الجنوبي لتركيا –جهة الشرق- على البحر المتوسط. وقد فتحها المأمون بنفسه.