تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ أَن يُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُۥ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَآۚ أُوْلَـٰٓئِكَ مَا كَانَ لَهُمۡ أَن يَدۡخُلُوهَآ إِلَّا خَآئِفِينَۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (114)

تخريب المساجد

( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيه اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم( 114 )(

المفردات :

من أظلم : استفهام إنكاري بمعنى النفي ، والمعنى : لا أحد أظلم .

مساجد الله : المراد بها جميع مساجد الله وأماكن عبادته ، فالآية قاعدة عامة وإن كان سبب النزول خاصا كما سيأتي .

لهم في الدنيا خزي : هوان وذلة .

تمهيد :

تعددت أقوال المفسرين فيما تشير إليه الآية :

1- فيرى بعض المفسرين أنها تشير إلى ما وقع من تيطس الروماني إذ دخل بيت المقدس بعد موت المسيح بنحو سبعين سنة وخرب المسجد حتى لم يبق منه حجرا على حجر ، وهدم هيكل سليمان حتى لم يترك إلا بعض جدران مبعثرة ، وأحرق بعض نسخ التوراة ، وكان هذا بإيعاز وتحريض من المسيحيين انتقاما من اليهود .

2- ويرى بعض المفسرين أنها نزلت في كفار قريش حين منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل المسجد الحرام عام الحديبية ، روى ابن حاتم عن ابن عباس أن قريشا منعوا النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام فأنزل الله : ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه .

ويرجح ابن جرير القول الأول ، واحتج بأن قريش لم تسع في خراب الكعبة ، وأما الروم فسعوا في تخريب بيت القدس .

وقال ابن كثير : الذي يظهر والله أعلم القول الثاني : وأما اعتماد ابن جرير على أن قريشا لم تسع في خراب الكعبة فأي خراب أعظم مما فعلوه ؟ أخرجوا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم ، قال تعالى : هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله .

فإذا كان الرسول مطرودا منها مصدودا عنها فأي خراب للكعبة أعظم من ذلك ؟ وليس المراد بعمارتها زخرفتها وإقامة صورتها فقط ، وإنما عمارتها بذكر الله وإقامة شرعه فيها ورفعها عن الدنس والشرك( 279 ) .

والمتأمل في الآية يرى أنها عامة ، تشمل بذمها ووعيدها كل من عطل المساجد عن أداء رسالتها ، أو أرهب المؤمنين ومنعهم من دخولها .

قال القرطبي : وخراب المساجد قد يكون حقيقيا ، كتخريب بختنصر والرومان لبيت المقدس حيث قذفوا فيه القاذورات وهدموه ، ويكون مجازا كمنع المشركين حين وصدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام ، وعلى الجملة فتعطيل المساجد عن الصلاة وإظهار شعائر الإسلام فيها خراب لها( 280 ) .

وظاهر الآية يفيد أنه لا يوجد أحد أظلم ممن حال بين المساجد وبين أن يعبد فيها الله .

قال الزمخشري : إن قلت : فكيف قيل مساجد الله وإنما وقع المنع والتخريب على مسجد واحد هو بيت المقدس أو المسجد الحرام ؟ قلت : لا بأس أن يجيء الحكم عاما ، وإن كان السبب خاصا ، كما تقول لمن آذى صالحا واحدا ، من أظلم ممن آذى الصالحين ، كما قال عز وجل .

ويل لكل همزة . والمنزل فيه الأخنس بن شريف .

وسعى في خرابها بانقطاع الذكر أو بتخريب البنيان ، وينبغي أن يراد بمن منع العموم كما أريد بمساجد الله ، ولا يراد الذين منعوا بأعيانهم من أولئك النصارى أو المشركين( 281 ) .

أولئك ما كان لهم أن يدخلوا إلا خائفين . معناه ما ينبغي لأولئك الذين يحولون بين المساجد وذكر الله ويسعون في خرابها أن يدخلوها إلا خائفين من الله تعالى لمكانها من الشرف والكرامة بإضافتها إليه تعالى ، أو إلا خائفين من المؤمنين أن يبطشوا بهم عقوبة لهم على إفسادهم لدين الله وبيوته .

أي أنهم يستحقون الدفع والمطاردة والحرمان من الأمن ، إلا أن يلجئوا إلى بيوت الله مستجيرين محتمين بحرمتها مستأمنين ( وذلك كالذي حدث في عام الفتح بعد ذلك إذ نادى منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح : من دخل المسجد الحرام فهو آمن . . . فلجأ إليه المستأمنون من جبابرة قريش بعد أن كانوا هم الذين يصدون رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه ويمنعونهم من زيارة المسجد الحرام ) ( 282 ) .

قال ابن كثير : ( وفي هذا بشارة من الله للمسلمين بأنه سيظهرهم على المسجد الحرام ، ويذل لهم المشركين حتى لا يدخل المسجد الحرام واحد منهم إلا خائفا يخاف أن يؤخذ فيعاقب )( 283 ) .

لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم . أي لهم في الدنيا هوان وذلة بسبب ظلمهم وبغيهم ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم يخلدون معه في النار ، وليس هناك أشقى ممن يعيش دنياه في هوان ومذلة ثم يلقى العذاب العظيم في الآخرة .

وفسر قتادة الخزي في الدنيا : بأداء الجزية عن يد وهم صاغرون ( والصحيح أن الخزي في الدنيا أعم من ذلك كله ، وقد ورد في الحديث الاستعاذة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة ) .

روى الإمام أحمد عن بسر بن أرطاة ، قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو : اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة ) وهذا حديث حسن( 284 ) .