التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ أَن يُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُۥ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَآۚ أُوْلَـٰٓئِكَ مَا كَانَ لَهُمۡ أَن يَدۡخُلُوهَآ إِلَّا خَآئِفِينَۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (114)

قوله تعالى : { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم } سؤال فيه نكير على أولئك الذين يمنعون مساجد الله أن تتأدى فيها العبادة من صلاة وموعظة وغيرها . أما المراد بالمانعين لمساجد الله أن يذكر فيها اسمه ، فقد قيل : إنها قريش ؛ إذ منعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمسلمين عام الحديبية من الصلاة في البيت الحرام ، مع أنهم ما كانوا ليمنعوا أحدا من دخول مكة والصلاة في البيت . وقد قال لهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وسلم حينئذ : " ما كان أحد يُصد عن هذا البيت ، وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يصده " فقال له المشركون : لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق{[115]} .

ولعل هذا المراد الذي ذكره أكثر العلماء أقرب ما يكون إلى الصواب . غير أن مفهوم هذه الآية يمكن انسحابه على كل حداثة تتضمن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه . فإن صدّ المسلمين عن الصلاة في بيوت الله ، والحيلولة بين أهل العلم وكلمة الحق يقولونها على الملأ ، والنصيحة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فذلك كله من ضروب المنع لمساجد الله أن يذكر فيها اسمه والسعي في خرابها .

وخراب المساجد تناول كل أوجه الهدم والتدمير أو الإفساد والتلويث أو صد المسلمين ؛ كيلا يقيموا في المسجد شعيرة الصلاة وغيرها من الذكر والقول الحسن . ويتناول كذلك صد المرشدين وأهل العلم من الذين يدعون إلى الله على بصيرة ، والذين يبعثون في المسلمين روح الهمة والاستعلاء ، ويستنهضون فيهم العزائم والإرادات ؛ لينطلقوا من عقال الضعف والاسترخاء ؛ وليتحرروا من إسار المهانة والتخلف والجهل . إن منع هؤلاء المرشدين العالمين الداعين إلى الله على بصيرة لهو صورة مقبوحة مشهودة من صور الخراب لمساجد الله ، وذلك بفعل الأفاكين والدجاجلة من ساسة وحاكمين وغيرهم ، أولئك الذين يجهدون أنفسهم في الليل والنهار وهم يتآمرون على الإسلام ؛ ليصدوه عن البشرية ؛ وليحجبوا عن أهل الأرض الاستماع الواعي لكلمة الإسلام في كل القضايا والمشكلات .

قوله : { أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين } ( أولئك ) ، مبتدأ . وما بعده في محل رفع خبره . والمصدر من { أن يدخلوها } في محل رفع اسم كان . { لهم } خبر كان { خائفين } في محل نصب حال{[116]} . والجملة خبر معناه الطلب ، فهي تنطوي على مبدأ وخبره ويفرق بينهما النفي . غير أن الآية تحمل في مضمونها الطلب للمسلمين ألا يمكنوا المشركين من دخول بيوت الله إلا تحت الهدنة والجزاء وهم متهيبون وجلون .

وفي قول آخر أن الآية تتضمن بشارة للمسلمين الأولين بأن الله جلت قدرته سوف يذل المشركين فلا يدخل أحد منهم البيت الحرام إلا على تخوف أن يؤخذ فيقتل ، وقد كان ذلك بالفعل . فإنه لما فتح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مكة أمر في السنة التاسعة للهجرة أن ينادي مناد " ألا لا يحجن بعد العام مشرك ، ولا يطوفن بالبيت عريان ، ومن كان له أجل فأجله إلى مدته " {[117]} .

وقوله : { لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم } قد أعد الله لأولئك المشركين الذين يمنعون مساجد الله أن يذكر فيها اسمه والذين يسعون كذلك في خرابها ألوانا منا لخزي والذلة ترهق وجوههم ليبوءوا بسخط من الله وغضب . حتى إذا دخلوا الدار الآخرة واجههم هنالك العذاب الشديد البئيس الذي لا تطيقه طبائعهم ولا جسومهم ؛ لفرط ما يسومون من هول التعذيب الأليم الموجع .


[115]:- تفسير ابن كثير جـ 1 ص 156.
[116]:- البيان للأنباري جـ 1 ص 119.
[117]:- تفسير ابن كثير جـ 1 ص 156.