فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ أَن يُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُۥ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَآۚ أُوْلَـٰٓئِكَ مَا كَانَ لَهُمۡ أَن يَدۡخُلُوهَآ إِلَّا خَآئِفِينَۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (114)

{ ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم } .

قال الرازي : واعلم أن هذه الواقعة بعينها قد وقعت في أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإن كل طائفة تكفر الأخرى مع اتفاقهم على تلاوة القرآن انتهى .

{ ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه } هذا الاستفهام فيه أبلغ دلالة على أن هذا الظلم غير متناه وأنه بمنزلة لا ينبغي أن يلحقه سائر أنواع الظلم أي لا أحد أظلم ممن يمنع مساجد الله أي من يأتي إليها للصلاة والتلاوة والذكر وتعليمه ، { وسعى في خرابها } قال أبو البقاء : الخراب اسم مصدر بمعنى التخريب ، وقال غيره : هو مصدر خرب المكان يخرب خرابا وهو هنا السعي في هدمها ورفع بنيانها ، ويجوز أن يراد بالخراب تعطيلها عن الطاعات التي وضعت فيها فيكون أعم من قوله { أن يذكر فيها اسمه } فيشمل جميع ما يمنع من الأمور التي بنيت لها المساجد لتعلم العلم وتعليمه والقعود للاعتكاف وانتظار الصلاة ، ويجوز أن يراد ما هو أعم من الأمرين من باب عموم المجاز كما في قوله تعالى { إنما يعمر مساجد الله } .

{ أولئك من كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين } هذا استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي ما كان ينبغي للمانعين دخولها في جميع الأحوال إلا حال خوفهم وخشوعهم ، وذلك أن بيت المقدس موضع حج النصارى وزيارتهم ، قال ابن عباس : لم يدخلها بعد عمارتها رومي أو نصراني إلا خائفا إن علم به قتل ، وقيل أخيفوا بالجزية والقتل ، فالجزية على الذمي ، والقتل على الحربي ، وقيل خوفهم هو فتح مدائنهم الثلاث قسطنطينية ورومية وعمورية والأول أولى .

وفيه إرشاد للعباد من الله عز وجل أنه ينبغي لهم أن يمنعوا مساجد الله من أهل الكفر من غير فرق بين مسجد ومسجد ، وبين كافر وكافر كما يفيده عموم اللفظ ، ولا ينافيه حصول السبب الخاص وأن يجعلوهم بحالة إذا أرادوا الدخول كانوا على وجل وخوف من أن يفطن لهم أحد من المسلمين فينزلون بهم ما يوجب الإهانة والإذلال ، وليس فيه الإذن لنا بتمكينهم من ذلك حال خوفهم ، بل هو كناية عن المنع لهم منا من دخول مساجدنا ، وقيل معناه ما كان الحق أن يدخلوها إلا خائفين من المؤمنين أن يبطشوا بهم ، فضلا أن يمنعوهم منها ، أو من كان لهم في علم الله وقضائه فيكون وعدا للمؤمنين بالنصر واستخلاص المساجد منهم وقد أنجز وعده .

{ لهم في الدنيا خزي } يعني الصغار والذل والقتل والسبي وقيل هو ضرب الجزية عليهم وإذلالهم وقيل غير ذلك وقد تقدم تفسيره { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } يعني النار .

قال ابن عباس : أن قريشا منعوا النبي صلى الله عليه وسلم عند الكعبة في المسجد الحرام يعني في ابتداء الإسلام فأنزل الله { ومن أظلم } الآية نزلت في خراب بيت المقدس على يد فلطيوس الرومي ولم يزل خرابا حتى بناه المسلمون في عهد عمر رضي الله عنه ، وقال السدي : هم الروم كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس ، وليس في الأرض رومي يدخله اليوم إلا وهو خائف أن يضرب عنقه ، وقد أخيف بأداء الجزية فهو يؤديها ، وأما بخزيهم في الدنيا فإنه إذا قام المهدي وفتحت القسطنطينية قتلهم فذلك الخزي ، وعن قتادة أنهم الروم ، وعن كعب أنهم النصارى لما ظهروا على بيت المقدس حرقوه ، وفيه أنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير أن عهد بختنصر كان قبل مولد المسيح بدهر طويل ، والنصارى كانوا بعد المسيح فكيف يكونون مع بختنصر في تخريب بيت المقدس .

وعن عبد الرحمان بن زيد بن أسلم قال : هم المشركون حين صدوا رسول الله صلى اله عليه وسلم عن البيت يوم الحديبية ، قال أبو صالح : ليس للمشركين أن يدخلوا المسجد إلا خائفين ، عن قتادة قال : يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون ، وقال { مساجد الله } وإنما وقع المنع والتخريب على مسجد واحد وهو بيت المقدس أو المسجد الحرام لأن الحكم عام ، وإن كان السبب خاصا .

ورجح الطبري القول الأول ، وقال : إن النصارى هم الذين سعوا في خراب بيت المقدس بدليل أن مشركي العرب لم يسعوا في خراب المسجد الحرام وإن كانوا قد منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأوقات من الصلاة فيه .

وأيضا الآية التي قبل هذه والتي بعدها في ذم أهل الكتاب ، ولم يجر لمشركي مكة ذكر ، ولا للمسجد الحرام ، فتعين أن يكون المراد بهذه بيت المقدس ، ورجح غيره القول الثاني بدليل أن النصارى يعظمون بيت المقدس أكثر من اليهود ، فكيف يسعون في خرابه وهو موضع حجهم .

وقال الرازي : وعندي فيه وجه خامس وهو أقرب إلى رعاية النظم وهو أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة شق ذلك على اليهود فكانوا يمنعون الناس عن الصلاة إلى الكعبة ، ولعلهم سعوا أيضا في تخريب الكعبة وفي تخريب مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا التأويل أولى مما قبله انتهى ، وفي أحكام القرآن أنه كل مسجد ، قال : وهو الصحيح لأن اللفظ عام ورد بصيغة الجمع فتخصيصه ببعض المساجد أو ببعض الأزمنة محال .

قلت وهذا هو الصواب فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ويدخل فيه السبب دخولا أوليا .